ولادة الوهم
~~~~~~~~~
من لدن كنت يافعا لم أعرف شيئا أشد علي من مخالطة الآخرين، وقد حببت إلي الخلوة متى وجدت إلى ذلك سبيلا، فتراني فزعت إليها كلما ادلهم علي خطب من خطوب الحياة ، وكانت أكثر اللحظات عندي سُعُوداً جلوسي مستمعا للمذياع، فإذا ابتدأت فترة ام كلثوم لم ازل مصغيا لها ولاهيا عما انا فيه ما دامت تغني ، وكانت قد وقعت من قلبي موقعا فريدا من ذلك الحين، فما يسرني أنَّ لي بصوتها ملء الأرض ذهبا.
ولست أدري لِمَ أُلقِيَ في روعي و قَرَّ في نفسي أني سأغدو " سنباطيا آخر "، وكنت قد قرأت في بعض كتب علم النفس أن أول علائم بزوغ الموهبة ان يجنح صاحبها إلى العزلة، ولعلي كنت أجد في هذا السلوك خيطا يربطني بشخصية هذا الموسيقار العظيم الذي يؤثر الانطواء، ويشيح بوجهه عن الاضواء وهي ملء راحتيه.
كما أن العباقرة هم من ارتفعوا فوق احلام الطفولة الساذجة وأطلقوا لعواطفهم العنان غير حافلين بتقاليد البيئة الجامدة .
ثم إن هذه الفكرة أطربتني ولعبت براسي كما تلعب الكأس في رأس شاربها ، فجعلت اهيئ الأسرة بشتى الوسائل لهذا " الحدث الفني العظيم "! ، وكان هؤلاء إذا تأملوا حالي اشتدَّ وَجَلُهم ، ثم تلقفوا مقالتي بين زاجر لي ومرتاب بي، لكأنما اجترحت كبيرة من الكبائر، ولكن نفسي لم ترعو من هذا الزجر، ولم تحفل بتلك الريبة، ولم أزدد إلا مثابرة على هذا الرأي.
فلمَّا كان من أمري ما كان، انقسموا بعد ذلك شِيَعَاً ثلاث :
شيعة يتضرعون إلى السماء رجاء أن يبرء الله تعالى ابنهم مما ألم بعقله من لوثة الجنون.
وشيعة عدَّتْ ما اقوم به ضربا من عبث الصبية، فيقابلون هذه الطموحات الطفولية بالقهقهات.
و آخرون - وهم الاقل تطرفا - تعاطفوا مع هذه التطلعات، وإن كان لسان حالها يقول : حتَّامَ ترجع عن غيك؟!
مضيت على هذه الحال لا يثنيني شيء عما هممت به ، ولا ازداد إلا تماديا فيه، و قد أوتيت من رباطة الجأش ما جعلني ألقي كل نظرات الازدراء وراء ظهري ، ذلك أني كنت اتأسى بالفنانين الكبار وما كانوا يلقونه في بداية طريقهم من عنت شديد .
وكنت أحدث نفسي : "
ليس ينبغي للمرء إذا ما طمح لغاية أن يغتم لأول طارقة تلم ، فلا بد دون النجاح من تضحيات جسام، وليس من الخير ان يجزع الفنان لأول نكبة تعتريه"
وربما كنت أتجاوز حد الشطط في آمالي، واقول :
"لأصنعَنَّ لكم اسما في عالم الفن يتحدث الناس عنه إلى ما شاء الله! وسيُقرَنُ اسمي بالفحول من عظماء النغم، فاضحكوا ما شاء لكم الضحك، فلا بد أن يشتد سروركم بي يوم أصل إلى شأوي ، وأنكم حينئذ لا محالة ستظهرون التأسف على ما فاتكم من نصرتي!".
رحم الله شوقي كنت أتمثل كثيرا قوله :
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا
إن الحياة عقيدة وكفاح
ثم تصرَّمت شهورٌ وانا على هذه الحال، مؤثِرَاً الخلوة إلى نفسي ، هائما في عالم الفن حتى غدا هذا العالم و اهله احظى لديَّ من خاصتي، وكان صوت ام كلثوم نعم الأنيس ساعة الخلوة افزع إليه كلما نفى الهَمُّ رقادي .
وكنت لأول عهدي أحترس في كتمان هذا الأمر احتراسا شديدا تحرُّجاً من سخرية الساخرين ، بيد أنَّ صدري كان يضيق عن كتمانه، فكان كلفي الشديد بالحديث عن السنباطي - مثلا - وتقليد حركاته وسكناته قد هتك حجاب ستر ما أحرص على كتمانه ، ثم إن الأمر شاع بين أقراني في المدرسة ، وكنت احسب ان حالي عنهم خافية، وكان احد الظرفاء يتندر ويخطب بطلاب الصف مشيرا إلي :
" يا قوم، هاهو السنباطي قد بُعِثَ من جديد!"
وانا جالس متسربل بحيائي وقد عقل الخجل لساني فيمتنع مني الكلام .
ألا قاتل الله زهير بن أبي سلمى كأنه اطلع على حالي عندما قال:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تُعلَم ِ
وما زلت على هذه الصفة أصرف وقتي بين قراءة اخبار ذلك العصر والانصات لعذب غناء أم كلثوم ، وكانت هذه الاوقات تملأ نفسي سكينة وحبورا ، وتردني إلى الراحة بعد التعب.
وكان لي قريب في مثل سني توطدت علائق المحبة بيننا مذ كنا صغارا، فكنت إذا اجتمعت به أقبلت أحدثه بما قرأت عن الفنان فلان و المطرب علان وما كان من شأنهم.
فلما أبصرني على تلك الحال انتظرني حتى إذا فرغت من حديثي قال : " بئس ما تحدثني به ليل نهار، نشدتك الله إلا كففت، فلا آمن ان يذهب حب هؤلاء القوم ببقية عقلك!".
~~~~~~~~
محمد سرحان
~~~~~~~~~
من لدن كنت يافعا لم أعرف شيئا أشد علي من مخالطة الآخرين، وقد حببت إلي الخلوة متى وجدت إلى ذلك سبيلا، فتراني فزعت إليها كلما ادلهم علي خطب من خطوب الحياة ، وكانت أكثر اللحظات عندي سُعُوداً جلوسي مستمعا للمذياع، فإذا ابتدأت فترة ام كلثوم لم ازل مصغيا لها ولاهيا عما انا فيه ما دامت تغني ، وكانت قد وقعت من قلبي موقعا فريدا من ذلك الحين، فما يسرني أنَّ لي بصوتها ملء الأرض ذهبا.
ولست أدري لِمَ أُلقِيَ في روعي و قَرَّ في نفسي أني سأغدو " سنباطيا آخر "، وكنت قد قرأت في بعض كتب علم النفس أن أول علائم بزوغ الموهبة ان يجنح صاحبها إلى العزلة، ولعلي كنت أجد في هذا السلوك خيطا يربطني بشخصية هذا الموسيقار العظيم الذي يؤثر الانطواء، ويشيح بوجهه عن الاضواء وهي ملء راحتيه.
كما أن العباقرة هم من ارتفعوا فوق احلام الطفولة الساذجة وأطلقوا لعواطفهم العنان غير حافلين بتقاليد البيئة الجامدة .
ثم إن هذه الفكرة أطربتني ولعبت براسي كما تلعب الكأس في رأس شاربها ، فجعلت اهيئ الأسرة بشتى الوسائل لهذا " الحدث الفني العظيم "! ، وكان هؤلاء إذا تأملوا حالي اشتدَّ وَجَلُهم ، ثم تلقفوا مقالتي بين زاجر لي ومرتاب بي، لكأنما اجترحت كبيرة من الكبائر، ولكن نفسي لم ترعو من هذا الزجر، ولم تحفل بتلك الريبة، ولم أزدد إلا مثابرة على هذا الرأي.
فلمَّا كان من أمري ما كان، انقسموا بعد ذلك شِيَعَاً ثلاث :
شيعة يتضرعون إلى السماء رجاء أن يبرء الله تعالى ابنهم مما ألم بعقله من لوثة الجنون.
وشيعة عدَّتْ ما اقوم به ضربا من عبث الصبية، فيقابلون هذه الطموحات الطفولية بالقهقهات.
و آخرون - وهم الاقل تطرفا - تعاطفوا مع هذه التطلعات، وإن كان لسان حالها يقول : حتَّامَ ترجع عن غيك؟!
مضيت على هذه الحال لا يثنيني شيء عما هممت به ، ولا ازداد إلا تماديا فيه، و قد أوتيت من رباطة الجأش ما جعلني ألقي كل نظرات الازدراء وراء ظهري ، ذلك أني كنت اتأسى بالفنانين الكبار وما كانوا يلقونه في بداية طريقهم من عنت شديد .
وكنت أحدث نفسي : "
ليس ينبغي للمرء إذا ما طمح لغاية أن يغتم لأول طارقة تلم ، فلا بد دون النجاح من تضحيات جسام، وليس من الخير ان يجزع الفنان لأول نكبة تعتريه"
وربما كنت أتجاوز حد الشطط في آمالي، واقول :
"لأصنعَنَّ لكم اسما في عالم الفن يتحدث الناس عنه إلى ما شاء الله! وسيُقرَنُ اسمي بالفحول من عظماء النغم، فاضحكوا ما شاء لكم الضحك، فلا بد أن يشتد سروركم بي يوم أصل إلى شأوي ، وأنكم حينئذ لا محالة ستظهرون التأسف على ما فاتكم من نصرتي!".
رحم الله شوقي كنت أتمثل كثيرا قوله :
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا
إن الحياة عقيدة وكفاح
ثم تصرَّمت شهورٌ وانا على هذه الحال، مؤثِرَاً الخلوة إلى نفسي ، هائما في عالم الفن حتى غدا هذا العالم و اهله احظى لديَّ من خاصتي، وكان صوت ام كلثوم نعم الأنيس ساعة الخلوة افزع إليه كلما نفى الهَمُّ رقادي .
وكنت لأول عهدي أحترس في كتمان هذا الأمر احتراسا شديدا تحرُّجاً من سخرية الساخرين ، بيد أنَّ صدري كان يضيق عن كتمانه، فكان كلفي الشديد بالحديث عن السنباطي - مثلا - وتقليد حركاته وسكناته قد هتك حجاب ستر ما أحرص على كتمانه ، ثم إن الأمر شاع بين أقراني في المدرسة ، وكنت احسب ان حالي عنهم خافية، وكان احد الظرفاء يتندر ويخطب بطلاب الصف مشيرا إلي :
" يا قوم، هاهو السنباطي قد بُعِثَ من جديد!"
وانا جالس متسربل بحيائي وقد عقل الخجل لساني فيمتنع مني الكلام .
ألا قاتل الله زهير بن أبي سلمى كأنه اطلع على حالي عندما قال:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تُعلَم ِ
وما زلت على هذه الصفة أصرف وقتي بين قراءة اخبار ذلك العصر والانصات لعذب غناء أم كلثوم ، وكانت هذه الاوقات تملأ نفسي سكينة وحبورا ، وتردني إلى الراحة بعد التعب.
وكان لي قريب في مثل سني توطدت علائق المحبة بيننا مذ كنا صغارا، فكنت إذا اجتمعت به أقبلت أحدثه بما قرأت عن الفنان فلان و المطرب علان وما كان من شأنهم.
فلما أبصرني على تلك الحال انتظرني حتى إذا فرغت من حديثي قال : " بئس ما تحدثني به ليل نهار، نشدتك الله إلا كففت، فلا آمن ان يذهب حب هؤلاء القوم ببقية عقلك!".
~~~~~~~~
محمد سرحان