حيل شرعيه
حيل شرعيه
Legitimate ruses - Ruses légitimes
الحيل الشرعية
الحيلة قد تكون مصدراً بمعنى الاحتيال، وقد تكون اسماً لما به الاحتيال، وتطلق الحيلة وهي الفعلة من الحول على ما يأتي:
1- على الحذق وجودة النظر، والقدرة على التصرف، فكل من حاول الوصول إلى أمر أو الخلاص منه فما يحاول حيلة يتوصل بها إليه. وبهذا المعنى لا تشعر بمدح ولا ذم، ولا تتقيد بخفاء ولا ظهور، وهذا الإطلاق أساس لمن قال: إن الحيل يعتريها الأحكام الخمسة (الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة).
2- ثم غلب في العرف اللغوي إطلاقها على معنى أخص من الأول. وهو ما يكون من الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى حصول الغرض بنوع من الفطنة، فهو أخص من الأول لأنه قصرها على التوصل إلى المطلوب بوسائل روعي فيها الخفاء.
3- واستعملها بعضهم بمعنى أخص من الثاني، فأطلقها على الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى غرض مذموم. كاستحلال المحرمات وإسقاط الواجبات، أو إسقاط حق لله تعالى أو لآدمي، ومنه ما رواه الإمام أبو عبد الله عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». وهذا الإطلاق أساس لمن تكلم في ذمّ الحيل وإبطالها.
4- أطلقها الحنفية على الأفعال التي يقصد بها الخروج من المضائق، لمن وقع في مأزق يريد التخلص منه بوجه شرعي، فأطلقوا اسم الحيلة على ما في تعاطيه حكمة من الوسائل. ولهذا فإنهم يؤثرون إطلاق اسم المخارج عليها بدلاً من الحيلة.
ولعل أقرب تعريف يجمع هذه المعاني قول الراغب الأصفهاني رحمه الله: الحيلة: ما يتوصل به إلى حالة ما خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما في تعاطيه حكمة، لأنه تضمن الإشارة إلى حالة الخفاء لإخراج ما فيه وضوح وظهور، فإنه أقرب إلى أن يكون سبباً ظاهراً، وليس بحيلة اصطلاحاً كما أشار إلى الحيل المذمومة وهو الذي في تعاطيه خبث، وأشار إلى المخارج من المضائق وهو ما في تعاطيه حكمة.
وفي اللغة ألفاظ تقارب الحيلة في معانيها كالمكر والخديعة والكيد والغرور والتورية والتعريض والذريعة، فإنها تطلق على الأفعال التي يقصد بها فاعلها خلاف ما يقتضيه ظاهرها، وعلى ما يوصل إلى المقصود بنوع خفاء، وأكثر استعمالها في الفعل المذموم وهو المتبادر منها عند الإطلاق في عرف أكثر الناس، وقد تستعمل في الفعل المحمود ومنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم: «الحرب خدعة» وقد استعمل أكثرها في القرآن الكريم بالمعنيين المحمود والمذموم.
الحيلة في النصوص الشرعية
الناظر في المصادر الشرعية ونصوصها يجد أنها مترددة بين اتجاهين، فبعض النصوص تبيحها وترخص بها وأخرى تذمها وتحظرها.
فمن الأول قوله تعالى: ﴿إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً﴾ (النساء 98) استثناهم من المؤاخذة على ترك الهجرة من دار الكفر لأنهم لم يجدوا حيلة إلى ذلك، ولو وجدوا لما عذرهم، وهذا يشير بجواز تعاطيها عند اللزوم، ومنه قوله تعالى: ﴿إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ (النحل 106). فيه الترخيص بإجراء كلمة الكفر على اللسان وقد اطمأن قلبه بالإيمان. ومنه إرشاده تعالى لأيوب عليه السلام لحيلة الخروج من اليمين حين أقسم على ضرب زوجته مائة عصاة في قوله تعالى: ﴿وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث﴾ فأخذ حزمة عيدان تعد مائة وضربها بها ضربة واحدة، وقد عمل النبي r بمثل ذلك في حق الزاني الضعيف الذي لا يحتمل ضرب مائة، فأمر بضربه بعرق نخل فيه مائة شمراخ (أبو داود 4/615) كما أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حيلة التخلص من الربا فيما ورد عن بلال رضي الله عنه قال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين (أي منه) بصاع (من الجيد) ليطعم النبي r فقال له النبي r: «أوَّه ! عين الربا! لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري، فبع التمر ببيع آخر، ثم اشْترِ به» (متفق عليه) أمره أن يخرج من بيع الربوي بجنسه متفاضلاً، وهي الصورة المحظورة إلى الصورة الجائزة وهي بيع الربوي بغير جنسه ولو متفاضلاً.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه أبو داود قالت: قال رسول الله r: «من أحدث في صلاته فلينصرف، فإن كان في صلاة جامعة فليأخذ بأنفه ولينصرف» والأخذ بالأنف حيلة يتستر بها من أحدث في أثناء الصلاة كمن أصيب برعاف ليجد طريقه للخروج من وسط الصفوف.
وهناك نصوص تحرم الحيل وتذمها وتذم فاعلها على ذلك:
1 - قوله تعالى: ﴿ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين﴾ (البقرة 65) ذم اليهود وعاقبهم بالمسخ، لأنهم احتالوا على حرمة العمل والصيد يوم السبت، بأن حفروا حياضاً واسعة وجعلوا لها أبواباً مشرعة إلى البحر، فإذا كان يوم السبت دخلت الحيتان والصيد الحياض آمنة من أمواج البحر والأبواب مفتوحة فلم يأخذوها، وإنما أغلقوا عليها الأبواب، ثم جمعوها في يوم الأحد، فجعل الله ذلك اعتداء منهم على التحريم.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها» (متفق عليه) جعل أكل أثمان الشحوم بعد إذابتها حيلة مذمومة لأكل الشحوم المحرمة عليهم فاستحقوا التوبيخ والذَّم.
وحرم الله التعامل بالعينة لأنها حيلة لأكل الربا، ومن صورها ما رواه أحمد عن امرأة أبي إسحاق السبيعي أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى فقالت أم ولد زيد: إني بعتُ من زيد غلاماً بثمانمئة درهم نسيئة، واشتريته بستمئة نقداً، فقالت: «أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله r إلا أن يتوب، بئس ما اشتريت وبئس ما شريت». لأن المبيع لما عاد بالعقد الثاني إلى صاحبته البائعة، فكأنه لم يخرج منها أصلاً. وآل الأمر إلى ستمئة التي دفعت نقداً سترجع بعد الأجل ثمانمئة.
فلا بد من وجود ضابط يميز بين ما يجوز وما لا يجوز من الحيل، نعرضه فيما يأتي:
أولاً: قال العلماء كل أمر يتخذ لتحقيق مقصود الشارع والوقوف عند حدوده بفعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه، وإثبات الحقوق وحماية الأبرياء، ودفع الأذى من الآثام فهو حيلة مشروعة في الجملة، ويمكن تصويرها في ثلاثة وجوه:
1- أن تكون بفعل مشروع يفضي إلى أمر مشروع، ولاشك في حلها وجوازها كالحيل الواردة في القرآن والسنة ومر ذكر بعضها، ومن صورها: أن ينكح المرأة ليعتز بأهلها أو يستعين بمالها أو بجاهها فيما لا يغضب الله من المقاصد التي لا تنافي عقد الزواج بل تتحقق معه تبعاً لمقاصده الأصلية.
2- أن تكون الحيلة بوسيلة لا توصل في العادة إلى المطلوب، فيتخذها المتحيل وسيلة إلى ذلك كمعاريض الكلام التي يتوصل بها إلى ما هو مطلوب مشروع ولا شك كذلك في جوازها. ومنها حيلة أبي بكر رضي الله عنه لمن سأله خلال هجرته مع النبي r: من صاحبك؟ قال: رجل يهديني السبيل يقصد سبيل الإسلام والإيمان، على حين فهم السائل أنه دليل له على طريق السفر. ومنها حيلة النبي r التي عمَّى بها عن نفسه وأصحابه فقال: لمن سأله ممن أنتم ؟ قال: نحن من ماء. ومضى والسائل يقول: أهم من ماء دجلة أم ماء الفرات؟
3- أن تكون الحيلة بفعل محظور في الأصل لكنه يتخذ وسيلة لتحقيق أمر مشروع كإثبات حق أو دفع باطل، كأن يعمد صاحب الحق الذي لا يملك بينة لإثباته على جاحده إلى اتخاذ شاهدي زور.
ويتردد الحكم في هذا الوجه بين من يجيز وقد غلب جانب الغرض المشروع، وبين من يمنع وقد غلب جانب الوسيلة المحظورة فيحرمها تحريم الوسائل، أو يحكم عليها بناء على قاعدة اجتماع مفسدتين يدفع أعظمهما بالأقل.
ثانياً: وكل حيلة يتوسل بها إلى الإخلال بمقاصد الشرع وتجاوز حدوده بفعل ما حرم الله وارتكاب ما نهى عنه، كإسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وإسقاط حق وظلم بريء فهي حيلة باطلة مذمومة، يأثم صاحبها إثماً يتناسب مع جسامة المحظور الذي ارتكبه ويمكن تصويرها في مرتبتين:
الأولى: اتخاذ الوسيلة المحرمة لمقصود محرم، كمن يحلف بالله كاذباً لإلزام خصمه بدين باطل، أو يزني بحليلة ولده لإبطال نكاحها منه. وكمن طلق زوجته ثلاث تطليقات وأراد إحلالها لنفسه قبل أن ينكحها غيره، فادعى كاذباً فسق شهود العقد عليها وبطلان نكاحه الأول منها، ويبني على ذلك عدم وقوع الطلقات الثلاث عليها.
الثانية: الوسيلة المباحة في نفسها التي يقصد بها ارتكاب محرم، كمن يملك أمواله لأحد الورثة ليمنع الباقين من حقهم في التركة، ومن هذا الباب حيلة اليهود لأخذ الصيد المحرم عليهم يوم السبت.
مذاهب العلماء في أمر الحيل
عند التوغل في ميدان الفقه نجد التباين في المذاهب الفقهية حول اعتبار الحيل بين مضيق متشدد وموسع ميسر، ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف اختلافهم في صيغ العقود، هل المعتبر ألفاظها الظاهرة أو معانيها الباطنة؟
فمن قال: المعتبر الألفاظ الظاهرة دون النوايا الباطنة وسع دائرة الجائز من الحيل ولم يبطل منها إلا ما يتوصل به إلى الحرام والإثم ومناقضة أصول الشريعة وقواعدها، ومن قال: المعتبر المعاني لا مجرد الألفاظ الظاهرة ضيق الدائرة ولم يجز منها إلا ما وافق اللفظ فيه المعنى الذي تدل عليه القرائن.
وأكثر من توسع في دائرة الجائز من الحيل الحنفية وخاصة التي تخرج من المضائق فأفردوها بالتأليف وسموها مخارج، وقريب منهم الشافعية الذين يحترمون النصوص الظاهرة، ويقولون بأن الله قد تعبدنا بالحكم على الظاهر والله يتولى السرائر، كما تشدد الحنابلة في أمر الحيل فضيقوا دائرتها وقالوا: لا يجوز لأحد أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك، ويقرب منهم في ذلك المالكية، ومسألة نكاح التحليل وخلافهم فيها يلقي بعض الضوء على المواقف المتباينة:
فمن طلق زوجته ثلاثاً بانت منه وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فإن تزوجها الآخر نكاح رغبة يقصد به دوام العشرة من غير أن يقصد إحلالها للأول ودخل بها فعلاً، ثم بدا له أن يطلقها لسبب ما فقد حلت للأول بعد انتهاء عدِّتها من الثاني بعقد جديد بإجماع الفقهاء.
أما إن تزوجها قاصداً إحلالها للأول فيختلف الأمر بين أن يشترط في العقد أنه إذا دخل بها الثاني بانت منه أو طلقها لتحل للأول، فالنكاح باطل حرام عند جمهور الفقهاء وعليه يحمل النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمُحلَّلَ له». لأن اللعن لا يكون إلا لفعل حرام، ولأنه صار كنكاح المتعة المؤقت، وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة صحة النكاح وبطلان الشرط، وأما إذا لم يشترط ذلك في العقد، لكنه قصد إحلالها للأول فقد صح العقد عند الشافعية وفي الرواية المعتمدة عند الحنفية وجماعة من فقهاء السلف، لأن النية حديث نفس ولا مؤاخذة به لكنه يكون مكروهاً، وقد قال أبو ثور: لا كراهة فيه بل يكون المُحِلُّ مأجوراً لأنه يكون سبباً في عودة المرأة لزوجها، ونقل عن الحنفية مثل ذلك.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما وجماعة وهو مذهب الحنابلة والمالكية: لا يحللها للأول إلا نكاح رغبة وإنما لعنهما الحديث لما فيه من هتك المروءة وقلة الحمية وخسة النفس، وصار المحلّل كالحيوان المستعار كما نص عليه حديث ابن ماجه: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلِّل له».
وباختصار الحيلة نوعان:
1- حيلة شرعية مباحة: وهي التي لا تهدم مصلحة شرعية، بأن تستخدم طريقة مشروعة لإثبات حق أو دفع مظلمة، أو للتيسير بسبب الحاجة.
2- حيلة شرعية محظورة: وهي التي يقصد بها التحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعاً إلى أحكام أخر، بفعل صحيح الظاهر، لغو في الحقيقة والباطن، وتمنع لأن «الأمور بمقاصدها».
محمد هشام برهاني
- Ruses légitimes
الحيل الشرعية
الحيلة قد تكون مصدراً بمعنى الاحتيال، وقد تكون اسماً لما به الاحتيال، وتطلق الحيلة وهي الفعلة من الحول على ما يأتي:
1- على الحذق وجودة النظر، والقدرة على التصرف، فكل من حاول الوصول إلى أمر أو الخلاص منه فما يحاول حيلة يتوصل بها إليه. وبهذا المعنى لا تشعر بمدح ولا ذم، ولا تتقيد بخفاء ولا ظهور، وهذا الإطلاق أساس لمن قال: إن الحيل يعتريها الأحكام الخمسة (الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة).
2- ثم غلب في العرف اللغوي إطلاقها على معنى أخص من الأول. وهو ما يكون من الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى حصول الغرض بنوع من الفطنة، فهو أخص من الأول لأنه قصرها على التوصل إلى المطلوب بوسائل روعي فيها الخفاء.
3- واستعملها بعضهم بمعنى أخص من الثاني، فأطلقها على الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى غرض مذموم. كاستحلال المحرمات وإسقاط الواجبات، أو إسقاط حق لله تعالى أو لآدمي، ومنه ما رواه الإمام أبو عبد الله عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». وهذا الإطلاق أساس لمن تكلم في ذمّ الحيل وإبطالها.
4- أطلقها الحنفية على الأفعال التي يقصد بها الخروج من المضائق، لمن وقع في مأزق يريد التخلص منه بوجه شرعي، فأطلقوا اسم الحيلة على ما في تعاطيه حكمة من الوسائل. ولهذا فإنهم يؤثرون إطلاق اسم المخارج عليها بدلاً من الحيلة.
ولعل أقرب تعريف يجمع هذه المعاني قول الراغب الأصفهاني رحمه الله: الحيلة: ما يتوصل به إلى حالة ما خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما في تعاطيه حكمة، لأنه تضمن الإشارة إلى حالة الخفاء لإخراج ما فيه وضوح وظهور، فإنه أقرب إلى أن يكون سبباً ظاهراً، وليس بحيلة اصطلاحاً كما أشار إلى الحيل المذمومة وهو الذي في تعاطيه خبث، وأشار إلى المخارج من المضائق وهو ما في تعاطيه حكمة.
وفي اللغة ألفاظ تقارب الحيلة في معانيها كالمكر والخديعة والكيد والغرور والتورية والتعريض والذريعة، فإنها تطلق على الأفعال التي يقصد بها فاعلها خلاف ما يقتضيه ظاهرها، وعلى ما يوصل إلى المقصود بنوع خفاء، وأكثر استعمالها في الفعل المذموم وهو المتبادر منها عند الإطلاق في عرف أكثر الناس، وقد تستعمل في الفعل المحمود ومنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم: «الحرب خدعة» وقد استعمل أكثرها في القرآن الكريم بالمعنيين المحمود والمذموم.
الحيلة في النصوص الشرعية
الناظر في المصادر الشرعية ونصوصها يجد أنها مترددة بين اتجاهين، فبعض النصوص تبيحها وترخص بها وأخرى تذمها وتحظرها.
فمن الأول قوله تعالى: ﴿إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً﴾ (النساء 98) استثناهم من المؤاخذة على ترك الهجرة من دار الكفر لأنهم لم يجدوا حيلة إلى ذلك، ولو وجدوا لما عذرهم، وهذا يشير بجواز تعاطيها عند اللزوم، ومنه قوله تعالى: ﴿إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ (النحل 106). فيه الترخيص بإجراء كلمة الكفر على اللسان وقد اطمأن قلبه بالإيمان. ومنه إرشاده تعالى لأيوب عليه السلام لحيلة الخروج من اليمين حين أقسم على ضرب زوجته مائة عصاة في قوله تعالى: ﴿وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث﴾ فأخذ حزمة عيدان تعد مائة وضربها بها ضربة واحدة، وقد عمل النبي r بمثل ذلك في حق الزاني الضعيف الذي لا يحتمل ضرب مائة، فأمر بضربه بعرق نخل فيه مائة شمراخ (أبو داود 4/615) كما أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حيلة التخلص من الربا فيما ورد عن بلال رضي الله عنه قال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين (أي منه) بصاع (من الجيد) ليطعم النبي r فقال له النبي r: «أوَّه ! عين الربا! لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري، فبع التمر ببيع آخر، ثم اشْترِ به» (متفق عليه) أمره أن يخرج من بيع الربوي بجنسه متفاضلاً، وهي الصورة المحظورة إلى الصورة الجائزة وهي بيع الربوي بغير جنسه ولو متفاضلاً.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه أبو داود قالت: قال رسول الله r: «من أحدث في صلاته فلينصرف، فإن كان في صلاة جامعة فليأخذ بأنفه ولينصرف» والأخذ بالأنف حيلة يتستر بها من أحدث في أثناء الصلاة كمن أصيب برعاف ليجد طريقه للخروج من وسط الصفوف.
وهناك نصوص تحرم الحيل وتذمها وتذم فاعلها على ذلك:
1 - قوله تعالى: ﴿ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين﴾ (البقرة 65) ذم اليهود وعاقبهم بالمسخ، لأنهم احتالوا على حرمة العمل والصيد يوم السبت، بأن حفروا حياضاً واسعة وجعلوا لها أبواباً مشرعة إلى البحر، فإذا كان يوم السبت دخلت الحيتان والصيد الحياض آمنة من أمواج البحر والأبواب مفتوحة فلم يأخذوها، وإنما أغلقوا عليها الأبواب، ثم جمعوها في يوم الأحد، فجعل الله ذلك اعتداء منهم على التحريم.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها» (متفق عليه) جعل أكل أثمان الشحوم بعد إذابتها حيلة مذمومة لأكل الشحوم المحرمة عليهم فاستحقوا التوبيخ والذَّم.
وحرم الله التعامل بالعينة لأنها حيلة لأكل الربا، ومن صورها ما رواه أحمد عن امرأة أبي إسحاق السبيعي أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى فقالت أم ولد زيد: إني بعتُ من زيد غلاماً بثمانمئة درهم نسيئة، واشتريته بستمئة نقداً، فقالت: «أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله r إلا أن يتوب، بئس ما اشتريت وبئس ما شريت». لأن المبيع لما عاد بالعقد الثاني إلى صاحبته البائعة، فكأنه لم يخرج منها أصلاً. وآل الأمر إلى ستمئة التي دفعت نقداً سترجع بعد الأجل ثمانمئة.
فلا بد من وجود ضابط يميز بين ما يجوز وما لا يجوز من الحيل، نعرضه فيما يأتي:
أولاً: قال العلماء كل أمر يتخذ لتحقيق مقصود الشارع والوقوف عند حدوده بفعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه، وإثبات الحقوق وحماية الأبرياء، ودفع الأذى من الآثام فهو حيلة مشروعة في الجملة، ويمكن تصويرها في ثلاثة وجوه:
1- أن تكون بفعل مشروع يفضي إلى أمر مشروع، ولاشك في حلها وجوازها كالحيل الواردة في القرآن والسنة ومر ذكر بعضها، ومن صورها: أن ينكح المرأة ليعتز بأهلها أو يستعين بمالها أو بجاهها فيما لا يغضب الله من المقاصد التي لا تنافي عقد الزواج بل تتحقق معه تبعاً لمقاصده الأصلية.
2- أن تكون الحيلة بوسيلة لا توصل في العادة إلى المطلوب، فيتخذها المتحيل وسيلة إلى ذلك كمعاريض الكلام التي يتوصل بها إلى ما هو مطلوب مشروع ولا شك كذلك في جوازها. ومنها حيلة أبي بكر رضي الله عنه لمن سأله خلال هجرته مع النبي r: من صاحبك؟ قال: رجل يهديني السبيل يقصد سبيل الإسلام والإيمان، على حين فهم السائل أنه دليل له على طريق السفر. ومنها حيلة النبي r التي عمَّى بها عن نفسه وأصحابه فقال: لمن سأله ممن أنتم ؟ قال: نحن من ماء. ومضى والسائل يقول: أهم من ماء دجلة أم ماء الفرات؟
3- أن تكون الحيلة بفعل محظور في الأصل لكنه يتخذ وسيلة لتحقيق أمر مشروع كإثبات حق أو دفع باطل، كأن يعمد صاحب الحق الذي لا يملك بينة لإثباته على جاحده إلى اتخاذ شاهدي زور.
ويتردد الحكم في هذا الوجه بين من يجيز وقد غلب جانب الغرض المشروع، وبين من يمنع وقد غلب جانب الوسيلة المحظورة فيحرمها تحريم الوسائل، أو يحكم عليها بناء على قاعدة اجتماع مفسدتين يدفع أعظمهما بالأقل.
ثانياً: وكل حيلة يتوسل بها إلى الإخلال بمقاصد الشرع وتجاوز حدوده بفعل ما حرم الله وارتكاب ما نهى عنه، كإسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وإسقاط حق وظلم بريء فهي حيلة باطلة مذمومة، يأثم صاحبها إثماً يتناسب مع جسامة المحظور الذي ارتكبه ويمكن تصويرها في مرتبتين:
الأولى: اتخاذ الوسيلة المحرمة لمقصود محرم، كمن يحلف بالله كاذباً لإلزام خصمه بدين باطل، أو يزني بحليلة ولده لإبطال نكاحها منه. وكمن طلق زوجته ثلاث تطليقات وأراد إحلالها لنفسه قبل أن ينكحها غيره، فادعى كاذباً فسق شهود العقد عليها وبطلان نكاحه الأول منها، ويبني على ذلك عدم وقوع الطلقات الثلاث عليها.
الثانية: الوسيلة المباحة في نفسها التي يقصد بها ارتكاب محرم، كمن يملك أمواله لأحد الورثة ليمنع الباقين من حقهم في التركة، ومن هذا الباب حيلة اليهود لأخذ الصيد المحرم عليهم يوم السبت.
مذاهب العلماء في أمر الحيل
عند التوغل في ميدان الفقه نجد التباين في المذاهب الفقهية حول اعتبار الحيل بين مضيق متشدد وموسع ميسر، ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف اختلافهم في صيغ العقود، هل المعتبر ألفاظها الظاهرة أو معانيها الباطنة؟
فمن قال: المعتبر الألفاظ الظاهرة دون النوايا الباطنة وسع دائرة الجائز من الحيل ولم يبطل منها إلا ما يتوصل به إلى الحرام والإثم ومناقضة أصول الشريعة وقواعدها، ومن قال: المعتبر المعاني لا مجرد الألفاظ الظاهرة ضيق الدائرة ولم يجز منها إلا ما وافق اللفظ فيه المعنى الذي تدل عليه القرائن.
وأكثر من توسع في دائرة الجائز من الحيل الحنفية وخاصة التي تخرج من المضائق فأفردوها بالتأليف وسموها مخارج، وقريب منهم الشافعية الذين يحترمون النصوص الظاهرة، ويقولون بأن الله قد تعبدنا بالحكم على الظاهر والله يتولى السرائر، كما تشدد الحنابلة في أمر الحيل فضيقوا دائرتها وقالوا: لا يجوز لأحد أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك، ويقرب منهم في ذلك المالكية، ومسألة نكاح التحليل وخلافهم فيها يلقي بعض الضوء على المواقف المتباينة:
فمن طلق زوجته ثلاثاً بانت منه وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فإن تزوجها الآخر نكاح رغبة يقصد به دوام العشرة من غير أن يقصد إحلالها للأول ودخل بها فعلاً، ثم بدا له أن يطلقها لسبب ما فقد حلت للأول بعد انتهاء عدِّتها من الثاني بعقد جديد بإجماع الفقهاء.
أما إن تزوجها قاصداً إحلالها للأول فيختلف الأمر بين أن يشترط في العقد أنه إذا دخل بها الثاني بانت منه أو طلقها لتحل للأول، فالنكاح باطل حرام عند جمهور الفقهاء وعليه يحمل النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمُحلَّلَ له». لأن اللعن لا يكون إلا لفعل حرام، ولأنه صار كنكاح المتعة المؤقت، وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة صحة النكاح وبطلان الشرط، وأما إذا لم يشترط ذلك في العقد، لكنه قصد إحلالها للأول فقد صح العقد عند الشافعية وفي الرواية المعتمدة عند الحنفية وجماعة من فقهاء السلف، لأن النية حديث نفس ولا مؤاخذة به لكنه يكون مكروهاً، وقد قال أبو ثور: لا كراهة فيه بل يكون المُحِلُّ مأجوراً لأنه يكون سبباً في عودة المرأة لزوجها، ونقل عن الحنفية مثل ذلك.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما وجماعة وهو مذهب الحنابلة والمالكية: لا يحللها للأول إلا نكاح رغبة وإنما لعنهما الحديث لما فيه من هتك المروءة وقلة الحمية وخسة النفس، وصار المحلّل كالحيوان المستعار كما نص عليه حديث ابن ماجه: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلِّل له».
وباختصار الحيلة نوعان:
1- حيلة شرعية مباحة: وهي التي لا تهدم مصلحة شرعية، بأن تستخدم طريقة مشروعة لإثبات حق أو دفع مظلمة، أو للتيسير بسبب الحاجة.
2- حيلة شرعية محظورة: وهي التي يقصد بها التحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعاً إلى أحكام أخر، بفعل صحيح الظاهر، لغو في الحقيقة والباطن، وتمنع لأن «الأمور بمقاصدها».
محمد هشام برهاني
حيل شرعيه
Legitimate ruses - Ruses légitimes
الحيل الشرعية
الحيلة قد تكون مصدراً بمعنى الاحتيال، وقد تكون اسماً لما به الاحتيال، وتطلق الحيلة وهي الفعلة من الحول على ما يأتي:
1- على الحذق وجودة النظر، والقدرة على التصرف، فكل من حاول الوصول إلى أمر أو الخلاص منه فما يحاول حيلة يتوصل بها إليه. وبهذا المعنى لا تشعر بمدح ولا ذم، ولا تتقيد بخفاء ولا ظهور، وهذا الإطلاق أساس لمن قال: إن الحيل يعتريها الأحكام الخمسة (الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة).
2- ثم غلب في العرف اللغوي إطلاقها على معنى أخص من الأول. وهو ما يكون من الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى حصول الغرض بنوع من الفطنة، فهو أخص من الأول لأنه قصرها على التوصل إلى المطلوب بوسائل روعي فيها الخفاء.
3- واستعملها بعضهم بمعنى أخص من الثاني، فأطلقها على الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى غرض مذموم. كاستحلال المحرمات وإسقاط الواجبات، أو إسقاط حق لله تعالى أو لآدمي، ومنه ما رواه الإمام أبو عبد الله عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». وهذا الإطلاق أساس لمن تكلم في ذمّ الحيل وإبطالها.
4- أطلقها الحنفية على الأفعال التي يقصد بها الخروج من المضائق، لمن وقع في مأزق يريد التخلص منه بوجه شرعي، فأطلقوا اسم الحيلة على ما في تعاطيه حكمة من الوسائل. ولهذا فإنهم يؤثرون إطلاق اسم المخارج عليها بدلاً من الحيلة.
ولعل أقرب تعريف يجمع هذه المعاني قول الراغب الأصفهاني رحمه الله: الحيلة: ما يتوصل به إلى حالة ما خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما في تعاطيه حكمة، لأنه تضمن الإشارة إلى حالة الخفاء لإخراج ما فيه وضوح وظهور، فإنه أقرب إلى أن يكون سبباً ظاهراً، وليس بحيلة اصطلاحاً كما أشار إلى الحيل المذمومة وهو الذي في تعاطيه خبث، وأشار إلى المخارج من المضائق وهو ما في تعاطيه حكمة.
وفي اللغة ألفاظ تقارب الحيلة في معانيها كالمكر والخديعة والكيد والغرور والتورية والتعريض والذريعة، فإنها تطلق على الأفعال التي يقصد بها فاعلها خلاف ما يقتضيه ظاهرها، وعلى ما يوصل إلى المقصود بنوع خفاء، وأكثر استعمالها في الفعل المذموم وهو المتبادر منها عند الإطلاق في عرف أكثر الناس، وقد تستعمل في الفعل المحمود ومنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم: «الحرب خدعة» وقد استعمل أكثرها في القرآن الكريم بالمعنيين المحمود والمذموم.
الحيلة في النصوص الشرعية
الناظر في المصادر الشرعية ونصوصها يجد أنها مترددة بين اتجاهين، فبعض النصوص تبيحها وترخص بها وأخرى تذمها وتحظرها.
فمن الأول قوله تعالى: ﴿إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً﴾ (النساء 98) استثناهم من المؤاخذة على ترك الهجرة من دار الكفر لأنهم لم يجدوا حيلة إلى ذلك، ولو وجدوا لما عذرهم، وهذا يشير بجواز تعاطيها عند اللزوم، ومنه قوله تعالى: ﴿إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ (النحل 106). فيه الترخيص بإجراء كلمة الكفر على اللسان وقد اطمأن قلبه بالإيمان. ومنه إرشاده تعالى لأيوب عليه السلام لحيلة الخروج من اليمين حين أقسم على ضرب زوجته مائة عصاة في قوله تعالى: ﴿وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث﴾ فأخذ حزمة عيدان تعد مائة وضربها بها ضربة واحدة، وقد عمل النبي r بمثل ذلك في حق الزاني الضعيف الذي لا يحتمل ضرب مائة، فأمر بضربه بعرق نخل فيه مائة شمراخ (أبو داود 4/615) كما أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حيلة التخلص من الربا فيما ورد عن بلال رضي الله عنه قال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين (أي منه) بصاع (من الجيد) ليطعم النبي r فقال له النبي r: «أوَّه ! عين الربا! لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري، فبع التمر ببيع آخر، ثم اشْترِ به» (متفق عليه) أمره أن يخرج من بيع الربوي بجنسه متفاضلاً، وهي الصورة المحظورة إلى الصورة الجائزة وهي بيع الربوي بغير جنسه ولو متفاضلاً.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه أبو داود قالت: قال رسول الله r: «من أحدث في صلاته فلينصرف، فإن كان في صلاة جامعة فليأخذ بأنفه ولينصرف» والأخذ بالأنف حيلة يتستر بها من أحدث في أثناء الصلاة كمن أصيب برعاف ليجد طريقه للخروج من وسط الصفوف.
وهناك نصوص تحرم الحيل وتذمها وتذم فاعلها على ذلك:
1 - قوله تعالى: ﴿ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين﴾ (البقرة 65) ذم اليهود وعاقبهم بالمسخ، لأنهم احتالوا على حرمة العمل والصيد يوم السبت، بأن حفروا حياضاً واسعة وجعلوا لها أبواباً مشرعة إلى البحر، فإذا كان يوم السبت دخلت الحيتان والصيد الحياض آمنة من أمواج البحر والأبواب مفتوحة فلم يأخذوها، وإنما أغلقوا عليها الأبواب، ثم جمعوها في يوم الأحد، فجعل الله ذلك اعتداء منهم على التحريم.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها» (متفق عليه) جعل أكل أثمان الشحوم بعد إذابتها حيلة مذمومة لأكل الشحوم المحرمة عليهم فاستحقوا التوبيخ والذَّم.
وحرم الله التعامل بالعينة لأنها حيلة لأكل الربا، ومن صورها ما رواه أحمد عن امرأة أبي إسحاق السبيعي أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى فقالت أم ولد زيد: إني بعتُ من زيد غلاماً بثمانمئة درهم نسيئة، واشتريته بستمئة نقداً، فقالت: «أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله r إلا أن يتوب، بئس ما اشتريت وبئس ما شريت». لأن المبيع لما عاد بالعقد الثاني إلى صاحبته البائعة، فكأنه لم يخرج منها أصلاً. وآل الأمر إلى ستمئة التي دفعت نقداً سترجع بعد الأجل ثمانمئة.
فلا بد من وجود ضابط يميز بين ما يجوز وما لا يجوز من الحيل، نعرضه فيما يأتي:
أولاً: قال العلماء كل أمر يتخذ لتحقيق مقصود الشارع والوقوف عند حدوده بفعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه، وإثبات الحقوق وحماية الأبرياء، ودفع الأذى من الآثام فهو حيلة مشروعة في الجملة، ويمكن تصويرها في ثلاثة وجوه:
1- أن تكون بفعل مشروع يفضي إلى أمر مشروع، ولاشك في حلها وجوازها كالحيل الواردة في القرآن والسنة ومر ذكر بعضها، ومن صورها: أن ينكح المرأة ليعتز بأهلها أو يستعين بمالها أو بجاهها فيما لا يغضب الله من المقاصد التي لا تنافي عقد الزواج بل تتحقق معه تبعاً لمقاصده الأصلية.
2- أن تكون الحيلة بوسيلة لا توصل في العادة إلى المطلوب، فيتخذها المتحيل وسيلة إلى ذلك كمعاريض الكلام التي يتوصل بها إلى ما هو مطلوب مشروع ولا شك كذلك في جوازها. ومنها حيلة أبي بكر رضي الله عنه لمن سأله خلال هجرته مع النبي r: من صاحبك؟ قال: رجل يهديني السبيل يقصد سبيل الإسلام والإيمان، على حين فهم السائل أنه دليل له على طريق السفر. ومنها حيلة النبي r التي عمَّى بها عن نفسه وأصحابه فقال: لمن سأله ممن أنتم ؟ قال: نحن من ماء. ومضى والسائل يقول: أهم من ماء دجلة أم ماء الفرات؟
3- أن تكون الحيلة بفعل محظور في الأصل لكنه يتخذ وسيلة لتحقيق أمر مشروع كإثبات حق أو دفع باطل، كأن يعمد صاحب الحق الذي لا يملك بينة لإثباته على جاحده إلى اتخاذ شاهدي زور.
ويتردد الحكم في هذا الوجه بين من يجيز وقد غلب جانب الغرض المشروع، وبين من يمنع وقد غلب جانب الوسيلة المحظورة فيحرمها تحريم الوسائل، أو يحكم عليها بناء على قاعدة اجتماع مفسدتين يدفع أعظمهما بالأقل.
ثانياً: وكل حيلة يتوسل بها إلى الإخلال بمقاصد الشرع وتجاوز حدوده بفعل ما حرم الله وارتكاب ما نهى عنه، كإسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وإسقاط حق وظلم بريء فهي حيلة باطلة مذمومة، يأثم صاحبها إثماً يتناسب مع جسامة المحظور الذي ارتكبه ويمكن تصويرها في مرتبتين:
الأولى: اتخاذ الوسيلة المحرمة لمقصود محرم، كمن يحلف بالله كاذباً لإلزام خصمه بدين باطل، أو يزني بحليلة ولده لإبطال نكاحها منه. وكمن طلق زوجته ثلاث تطليقات وأراد إحلالها لنفسه قبل أن ينكحها غيره، فادعى كاذباً فسق شهود العقد عليها وبطلان نكاحه الأول منها، ويبني على ذلك عدم وقوع الطلقات الثلاث عليها.
الثانية: الوسيلة المباحة في نفسها التي يقصد بها ارتكاب محرم، كمن يملك أمواله لأحد الورثة ليمنع الباقين من حقهم في التركة، ومن هذا الباب حيلة اليهود لأخذ الصيد المحرم عليهم يوم السبت.
مذاهب العلماء في أمر الحيل
عند التوغل في ميدان الفقه نجد التباين في المذاهب الفقهية حول اعتبار الحيل بين مضيق متشدد وموسع ميسر، ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف اختلافهم في صيغ العقود، هل المعتبر ألفاظها الظاهرة أو معانيها الباطنة؟
فمن قال: المعتبر الألفاظ الظاهرة دون النوايا الباطنة وسع دائرة الجائز من الحيل ولم يبطل منها إلا ما يتوصل به إلى الحرام والإثم ومناقضة أصول الشريعة وقواعدها، ومن قال: المعتبر المعاني لا مجرد الألفاظ الظاهرة ضيق الدائرة ولم يجز منها إلا ما وافق اللفظ فيه المعنى الذي تدل عليه القرائن.
وأكثر من توسع في دائرة الجائز من الحيل الحنفية وخاصة التي تخرج من المضائق فأفردوها بالتأليف وسموها مخارج، وقريب منهم الشافعية الذين يحترمون النصوص الظاهرة، ويقولون بأن الله قد تعبدنا بالحكم على الظاهر والله يتولى السرائر، كما تشدد الحنابلة في أمر الحيل فضيقوا دائرتها وقالوا: لا يجوز لأحد أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك، ويقرب منهم في ذلك المالكية، ومسألة نكاح التحليل وخلافهم فيها يلقي بعض الضوء على المواقف المتباينة:
فمن طلق زوجته ثلاثاً بانت منه وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فإن تزوجها الآخر نكاح رغبة يقصد به دوام العشرة من غير أن يقصد إحلالها للأول ودخل بها فعلاً، ثم بدا له أن يطلقها لسبب ما فقد حلت للأول بعد انتهاء عدِّتها من الثاني بعقد جديد بإجماع الفقهاء.
أما إن تزوجها قاصداً إحلالها للأول فيختلف الأمر بين أن يشترط في العقد أنه إذا دخل بها الثاني بانت منه أو طلقها لتحل للأول، فالنكاح باطل حرام عند جمهور الفقهاء وعليه يحمل النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمُحلَّلَ له». لأن اللعن لا يكون إلا لفعل حرام، ولأنه صار كنكاح المتعة المؤقت، وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة صحة النكاح وبطلان الشرط، وأما إذا لم يشترط ذلك في العقد، لكنه قصد إحلالها للأول فقد صح العقد عند الشافعية وفي الرواية المعتمدة عند الحنفية وجماعة من فقهاء السلف، لأن النية حديث نفس ولا مؤاخذة به لكنه يكون مكروهاً، وقد قال أبو ثور: لا كراهة فيه بل يكون المُحِلُّ مأجوراً لأنه يكون سبباً في عودة المرأة لزوجها، ونقل عن الحنفية مثل ذلك.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما وجماعة وهو مذهب الحنابلة والمالكية: لا يحللها للأول إلا نكاح رغبة وإنما لعنهما الحديث لما فيه من هتك المروءة وقلة الحمية وخسة النفس، وصار المحلّل كالحيوان المستعار كما نص عليه حديث ابن ماجه: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلِّل له».
وباختصار الحيلة نوعان:
1- حيلة شرعية مباحة: وهي التي لا تهدم مصلحة شرعية، بأن تستخدم طريقة مشروعة لإثبات حق أو دفع مظلمة، أو للتيسير بسبب الحاجة.
2- حيلة شرعية محظورة: وهي التي يقصد بها التحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعاً إلى أحكام أخر، بفعل صحيح الظاهر، لغو في الحقيقة والباطن، وتمنع لأن «الأمور بمقاصدها».
محمد هشام برهاني
- Ruses légitimes
الحيل الشرعية
الحيلة قد تكون مصدراً بمعنى الاحتيال، وقد تكون اسماً لما به الاحتيال، وتطلق الحيلة وهي الفعلة من الحول على ما يأتي:
1- على الحذق وجودة النظر، والقدرة على التصرف، فكل من حاول الوصول إلى أمر أو الخلاص منه فما يحاول حيلة يتوصل بها إليه. وبهذا المعنى لا تشعر بمدح ولا ذم، ولا تتقيد بخفاء ولا ظهور، وهذا الإطلاق أساس لمن قال: إن الحيل يعتريها الأحكام الخمسة (الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة).
2- ثم غلب في العرف اللغوي إطلاقها على معنى أخص من الأول. وهو ما يكون من الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى حصول الغرض بنوع من الفطنة، فهو أخص من الأول لأنه قصرها على التوصل إلى المطلوب بوسائل روعي فيها الخفاء.
3- واستعملها بعضهم بمعنى أخص من الثاني، فأطلقها على الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى غرض مذموم. كاستحلال المحرمات وإسقاط الواجبات، أو إسقاط حق لله تعالى أو لآدمي، ومنه ما رواه الإمام أبو عبد الله عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». وهذا الإطلاق أساس لمن تكلم في ذمّ الحيل وإبطالها.
4- أطلقها الحنفية على الأفعال التي يقصد بها الخروج من المضائق، لمن وقع في مأزق يريد التخلص منه بوجه شرعي، فأطلقوا اسم الحيلة على ما في تعاطيه حكمة من الوسائل. ولهذا فإنهم يؤثرون إطلاق اسم المخارج عليها بدلاً من الحيلة.
ولعل أقرب تعريف يجمع هذه المعاني قول الراغب الأصفهاني رحمه الله: الحيلة: ما يتوصل به إلى حالة ما خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما في تعاطيه حكمة، لأنه تضمن الإشارة إلى حالة الخفاء لإخراج ما فيه وضوح وظهور، فإنه أقرب إلى أن يكون سبباً ظاهراً، وليس بحيلة اصطلاحاً كما أشار إلى الحيل المذمومة وهو الذي في تعاطيه خبث، وأشار إلى المخارج من المضائق وهو ما في تعاطيه حكمة.
وفي اللغة ألفاظ تقارب الحيلة في معانيها كالمكر والخديعة والكيد والغرور والتورية والتعريض والذريعة، فإنها تطلق على الأفعال التي يقصد بها فاعلها خلاف ما يقتضيه ظاهرها، وعلى ما يوصل إلى المقصود بنوع خفاء، وأكثر استعمالها في الفعل المذموم وهو المتبادر منها عند الإطلاق في عرف أكثر الناس، وقد تستعمل في الفعل المحمود ومنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم: «الحرب خدعة» وقد استعمل أكثرها في القرآن الكريم بالمعنيين المحمود والمذموم.
الحيلة في النصوص الشرعية
الناظر في المصادر الشرعية ونصوصها يجد أنها مترددة بين اتجاهين، فبعض النصوص تبيحها وترخص بها وأخرى تذمها وتحظرها.
فمن الأول قوله تعالى: ﴿إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً﴾ (النساء 98) استثناهم من المؤاخذة على ترك الهجرة من دار الكفر لأنهم لم يجدوا حيلة إلى ذلك، ولو وجدوا لما عذرهم، وهذا يشير بجواز تعاطيها عند اللزوم، ومنه قوله تعالى: ﴿إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ (النحل 106). فيه الترخيص بإجراء كلمة الكفر على اللسان وقد اطمأن قلبه بالإيمان. ومنه إرشاده تعالى لأيوب عليه السلام لحيلة الخروج من اليمين حين أقسم على ضرب زوجته مائة عصاة في قوله تعالى: ﴿وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث﴾ فأخذ حزمة عيدان تعد مائة وضربها بها ضربة واحدة، وقد عمل النبي r بمثل ذلك في حق الزاني الضعيف الذي لا يحتمل ضرب مائة، فأمر بضربه بعرق نخل فيه مائة شمراخ (أبو داود 4/615) كما أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حيلة التخلص من الربا فيما ورد عن بلال رضي الله عنه قال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين (أي منه) بصاع (من الجيد) ليطعم النبي r فقال له النبي r: «أوَّه ! عين الربا! لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري، فبع التمر ببيع آخر، ثم اشْترِ به» (متفق عليه) أمره أن يخرج من بيع الربوي بجنسه متفاضلاً، وهي الصورة المحظورة إلى الصورة الجائزة وهي بيع الربوي بغير جنسه ولو متفاضلاً.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه أبو داود قالت: قال رسول الله r: «من أحدث في صلاته فلينصرف، فإن كان في صلاة جامعة فليأخذ بأنفه ولينصرف» والأخذ بالأنف حيلة يتستر بها من أحدث في أثناء الصلاة كمن أصيب برعاف ليجد طريقه للخروج من وسط الصفوف.
وهناك نصوص تحرم الحيل وتذمها وتذم فاعلها على ذلك:
1 - قوله تعالى: ﴿ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين﴾ (البقرة 65) ذم اليهود وعاقبهم بالمسخ، لأنهم احتالوا على حرمة العمل والصيد يوم السبت، بأن حفروا حياضاً واسعة وجعلوا لها أبواباً مشرعة إلى البحر، فإذا كان يوم السبت دخلت الحيتان والصيد الحياض آمنة من أمواج البحر والأبواب مفتوحة فلم يأخذوها، وإنما أغلقوا عليها الأبواب، ثم جمعوها في يوم الأحد، فجعل الله ذلك اعتداء منهم على التحريم.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها» (متفق عليه) جعل أكل أثمان الشحوم بعد إذابتها حيلة مذمومة لأكل الشحوم المحرمة عليهم فاستحقوا التوبيخ والذَّم.
وحرم الله التعامل بالعينة لأنها حيلة لأكل الربا، ومن صورها ما رواه أحمد عن امرأة أبي إسحاق السبيعي أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى فقالت أم ولد زيد: إني بعتُ من زيد غلاماً بثمانمئة درهم نسيئة، واشتريته بستمئة نقداً، فقالت: «أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله r إلا أن يتوب، بئس ما اشتريت وبئس ما شريت». لأن المبيع لما عاد بالعقد الثاني إلى صاحبته البائعة، فكأنه لم يخرج منها أصلاً. وآل الأمر إلى ستمئة التي دفعت نقداً سترجع بعد الأجل ثمانمئة.
فلا بد من وجود ضابط يميز بين ما يجوز وما لا يجوز من الحيل، نعرضه فيما يأتي:
أولاً: قال العلماء كل أمر يتخذ لتحقيق مقصود الشارع والوقوف عند حدوده بفعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه، وإثبات الحقوق وحماية الأبرياء، ودفع الأذى من الآثام فهو حيلة مشروعة في الجملة، ويمكن تصويرها في ثلاثة وجوه:
1- أن تكون بفعل مشروع يفضي إلى أمر مشروع، ولاشك في حلها وجوازها كالحيل الواردة في القرآن والسنة ومر ذكر بعضها، ومن صورها: أن ينكح المرأة ليعتز بأهلها أو يستعين بمالها أو بجاهها فيما لا يغضب الله من المقاصد التي لا تنافي عقد الزواج بل تتحقق معه تبعاً لمقاصده الأصلية.
2- أن تكون الحيلة بوسيلة لا توصل في العادة إلى المطلوب، فيتخذها المتحيل وسيلة إلى ذلك كمعاريض الكلام التي يتوصل بها إلى ما هو مطلوب مشروع ولا شك كذلك في جوازها. ومنها حيلة أبي بكر رضي الله عنه لمن سأله خلال هجرته مع النبي r: من صاحبك؟ قال: رجل يهديني السبيل يقصد سبيل الإسلام والإيمان، على حين فهم السائل أنه دليل له على طريق السفر. ومنها حيلة النبي r التي عمَّى بها عن نفسه وأصحابه فقال: لمن سأله ممن أنتم ؟ قال: نحن من ماء. ومضى والسائل يقول: أهم من ماء دجلة أم ماء الفرات؟
3- أن تكون الحيلة بفعل محظور في الأصل لكنه يتخذ وسيلة لتحقيق أمر مشروع كإثبات حق أو دفع باطل، كأن يعمد صاحب الحق الذي لا يملك بينة لإثباته على جاحده إلى اتخاذ شاهدي زور.
ويتردد الحكم في هذا الوجه بين من يجيز وقد غلب جانب الغرض المشروع، وبين من يمنع وقد غلب جانب الوسيلة المحظورة فيحرمها تحريم الوسائل، أو يحكم عليها بناء على قاعدة اجتماع مفسدتين يدفع أعظمهما بالأقل.
ثانياً: وكل حيلة يتوسل بها إلى الإخلال بمقاصد الشرع وتجاوز حدوده بفعل ما حرم الله وارتكاب ما نهى عنه، كإسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وإسقاط حق وظلم بريء فهي حيلة باطلة مذمومة، يأثم صاحبها إثماً يتناسب مع جسامة المحظور الذي ارتكبه ويمكن تصويرها في مرتبتين:
الأولى: اتخاذ الوسيلة المحرمة لمقصود محرم، كمن يحلف بالله كاذباً لإلزام خصمه بدين باطل، أو يزني بحليلة ولده لإبطال نكاحها منه. وكمن طلق زوجته ثلاث تطليقات وأراد إحلالها لنفسه قبل أن ينكحها غيره، فادعى كاذباً فسق شهود العقد عليها وبطلان نكاحه الأول منها، ويبني على ذلك عدم وقوع الطلقات الثلاث عليها.
الثانية: الوسيلة المباحة في نفسها التي يقصد بها ارتكاب محرم، كمن يملك أمواله لأحد الورثة ليمنع الباقين من حقهم في التركة، ومن هذا الباب حيلة اليهود لأخذ الصيد المحرم عليهم يوم السبت.
مذاهب العلماء في أمر الحيل
عند التوغل في ميدان الفقه نجد التباين في المذاهب الفقهية حول اعتبار الحيل بين مضيق متشدد وموسع ميسر، ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف اختلافهم في صيغ العقود، هل المعتبر ألفاظها الظاهرة أو معانيها الباطنة؟
فمن قال: المعتبر الألفاظ الظاهرة دون النوايا الباطنة وسع دائرة الجائز من الحيل ولم يبطل منها إلا ما يتوصل به إلى الحرام والإثم ومناقضة أصول الشريعة وقواعدها، ومن قال: المعتبر المعاني لا مجرد الألفاظ الظاهرة ضيق الدائرة ولم يجز منها إلا ما وافق اللفظ فيه المعنى الذي تدل عليه القرائن.
وأكثر من توسع في دائرة الجائز من الحيل الحنفية وخاصة التي تخرج من المضائق فأفردوها بالتأليف وسموها مخارج، وقريب منهم الشافعية الذين يحترمون النصوص الظاهرة، ويقولون بأن الله قد تعبدنا بالحكم على الظاهر والله يتولى السرائر، كما تشدد الحنابلة في أمر الحيل فضيقوا دائرتها وقالوا: لا يجوز لأحد أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك، ويقرب منهم في ذلك المالكية، ومسألة نكاح التحليل وخلافهم فيها يلقي بعض الضوء على المواقف المتباينة:
فمن طلق زوجته ثلاثاً بانت منه وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فإن تزوجها الآخر نكاح رغبة يقصد به دوام العشرة من غير أن يقصد إحلالها للأول ودخل بها فعلاً، ثم بدا له أن يطلقها لسبب ما فقد حلت للأول بعد انتهاء عدِّتها من الثاني بعقد جديد بإجماع الفقهاء.
أما إن تزوجها قاصداً إحلالها للأول فيختلف الأمر بين أن يشترط في العقد أنه إذا دخل بها الثاني بانت منه أو طلقها لتحل للأول، فالنكاح باطل حرام عند جمهور الفقهاء وعليه يحمل النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمُحلَّلَ له». لأن اللعن لا يكون إلا لفعل حرام، ولأنه صار كنكاح المتعة المؤقت، وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة صحة النكاح وبطلان الشرط، وأما إذا لم يشترط ذلك في العقد، لكنه قصد إحلالها للأول فقد صح العقد عند الشافعية وفي الرواية المعتمدة عند الحنفية وجماعة من فقهاء السلف، لأن النية حديث نفس ولا مؤاخذة به لكنه يكون مكروهاً، وقد قال أبو ثور: لا كراهة فيه بل يكون المُحِلُّ مأجوراً لأنه يكون سبباً في عودة المرأة لزوجها، ونقل عن الحنفية مثل ذلك.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما وجماعة وهو مذهب الحنابلة والمالكية: لا يحللها للأول إلا نكاح رغبة وإنما لعنهما الحديث لما فيه من هتك المروءة وقلة الحمية وخسة النفس، وصار المحلّل كالحيوان المستعار كما نص عليه حديث ابن ماجه: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلِّل له».
وباختصار الحيلة نوعان:
1- حيلة شرعية مباحة: وهي التي لا تهدم مصلحة شرعية، بأن تستخدم طريقة مشروعة لإثبات حق أو دفع مظلمة، أو للتيسير بسبب الحاجة.
2- حيلة شرعية محظورة: وهي التي يقصد بها التحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعاً إلى أحكام أخر، بفعل صحيح الظاهر، لغو في الحقيقة والباطن، وتمنع لأن «الأمور بمقاصدها».
محمد هشام برهاني