عسكر (فهد صالح)
Al-Askar (Fahd Saleh-) - Al-Askar (Fahd Saleh-)
العسـكر (فهـد صـالح ـ)
(1916ـ 1951م)
فهد بن صالح العسكر أحد أكثر شعراء الكويت شهرة في النصف الأول من القرن العشرين، إذ مثَّل علامةً مهمة من علامات التغيير، سواء من حيث الشعر الكويتي أم من حيث العلاقات الاجتماعية. أخبار الشاعر قليلة ومضطربة ويلف بعض مفاصلها الغموض، وُلِدَ في مدينة الكويت حينما كانت مدينة صغيرة مسورة شبه مغلقة على نفسها، تحكمها تقاليد صارمة، وقد اخْتُلِفَ في سنة ولادته، ولعلَّ هذا التاريخ 1916 أقرب إلى الواقع، نشأ فهد في أسرة متدينة فأبوه صالح كان إماماً لأحد المساجد، ثم ترك الإمامة للعمل في الجمارك، ثم أصبح وكيلاً على أملاك الشيخ مبارك الصباح، وعلى أملاك ولديه من بعده جابر وسالم، وأكسبه هذا العمل ثروة مكنته من أن ينفق على أولاده بسخاء، وقد تميزت حياة فهد في طفولته بالتدين.
التحق فهد أولاً بالكتّاب، ثم انتسب إلى أول مدرسة رسمية عرفتها الكويت، وهي مدرسة المباركية التي قامت برامجها على الثقافة التقليدية وبعض المعارف الحديثة، وتفتحت مواهبه الشعرية في أثناء دراسته، فكان ينظم بعض القصائد ويعرضها على معلمه الشاعر محمود شوقي الأيوبي، الذي أصبح مرشده الشعري، يوجِّهه ويصوِّب له قصائده.
وبعد أن انتهى من مرحلة الدراسة، والتي لم تتعد المرحلة المتوسطة، دعاه الملك عبد العزيز إلى زيارته في الرياض، بعد أن مدحه بقصيدة، فلبى الدعوة، وعرض الملك عبد العزيز عليه وظيفة كاتب لأحد أبنائه الذي كان يرابط على الحدود السعودية اليمنية، فلم يستطع فهد تحمل مشاق هذه الوظيفة الصغيرة، فاعتذر وعاد إلى الكويت.
لم يمارس فهد أي عمل حكومي أو حر بعد هذه التجربة، بل عاش على الثروة التي خلَّفها له أبوه مسرفاً في إنفاقها حتى استنفدها وعاش بقية عمره في فقر مدقع.
كانت الكويت في العشرينيات من القرن الماضي قد شهدت بعض نسمات الانفتاح على العالم الخارجي؛ تمثلت في افتتاح أولى المدارس الرسمية، وتأسيس ناد أدبي ومكتبة، وصدور أول مجلة، ودخلت الكويت بعض الكتب والمجلات العربية من مصر والعراق، وقد أثَّر هذا الانفتاح المحدود في تكوين نخبة مثقفة معدودة تتطلع إلى التغيير وسط مجتمع راكد، وقد أقبل فهد بعد أن تشبع في البيئة العائلية والمدرسية بالقيم التقليدية على قراءة دواوين الشعر والاطلاع على الوافد من الكتب والمجلات، إذ أخذت الأفكار الجديدة تسري في وجدانه، وحدث لفهد في عنفوان شبابه انقلاب كبير في أفكاره، إذ تحول إلى متمرد على الواقع بعد أن كان مسايراً له وملتحماً به، ولم يكن فهد، الذي اعتدَّ بذاته وحُجِبَتْ عنه رؤية الواقع الاجتماعي، يستند إلى قوة اجتماعية في نزوعه، ولم يكن لديه أي مشروع واقعي للتغيير، ولذلك بدت ثورته أقرب إلى الثورة الطفولية، وما دامت الآفاق مسدودة أمامه فإن إيلام المجتمع وصدمه كانا الوسيلة التي تعبر بها طاقته المخبوءة عن رغبته الذاتية في تأسيس عالم جديد غامض ومثالي على أنقاض العالم القائم.
أقبل فهد على شرب الخمر وجهر بذلك في قصائده، وصاغ غزله مكشوفاً. وصوَّر المرأة الكويتية التي كانت قابعة في البيوت عاشقةً تشرب الخمر وتلتقي بالشاعر في غفلة عن رقابة الأهل لتطارحه معه الغرام، وبالغ في ذلك فاتهم الشاعر بالجنون والكفر والخلاعة، وصرّح عما جرى له بقوله:
هذا رماني بالشذوذ
وذا رماني بالجنونِ
وهناك منهم من رماني
بالخلاعة والمجونِ
وتطاول المتعصّبون
وما كفرتُ وكفَّروني
ولهذا التمرد حدثت هوة عميقة بين الشاعر ومجتمعه أفقدته التواصل حتى مع عائلته، وأدت إلى عزلة الشاعر؛ إذ عاش سنواته الأخيرة منفرداً في غرفة مظلمة يعاني الفقر والمرض، ولم يكن يتردد عليه إلا قلة من الأصدقاء يطارحهم الشعر.
كان فهد مكثراً من الشعر، ولم يعرف فناً غيره، وقد نشر بعض القصائد في صحف بحرينية وعراقية، كما ألقى بعض قصائده في مناسبات دينية وقومية، ويقال إنه اختار بعض قصائده لتطبع في ديوان، ولكن الموت عاجله ولم يُعرف مصير هذه المختارات. ويلف الغموض مصير شعره، فهناك من يدَّعي أن شعره قد أحرق بعد موته بطلبٍ من فهد، أو بتصرف من بعض أفراد عائلته، وهناك من ينكر هذه الواقعة ويرجع ضياع شعره إلى الإهمال وعزلة الشاعر، وقد قام زكريا عبد الله زكريا الأنصاري وهو من أقرب أصدقاء الشاعر، بجمع ما استطاع من قصائد سواء مما دوَّنه عن الشاعر، أو مما احتفظ به بعض الأصدقاء، أو ممَّا نُشِرَ في بعض الصحف، وقدَّم لهذه القصائد بدراسة عن حياة فهد وشعره، وقد بلغت هذه القصائد في آخر طبعة للكتاب (54) قصيدة، ويعتقد الشاعر أن هذا المقدار ليس إلا جزءاً من نتاج فهد الشعري الضخم.
يتمحور فهد في شعره حول ذاته، مما يضفي على هذا الشعر القسمات الرومانسية التي اكتسبها نتيجة لتأثره بالموجة الرومانسية التي غزت الشعر العربي في العقد الثالث من القرن الماضي، وكانت الشكوى من المجتمع الموضوع الأساسي المسيطر على شعره، وهذا المحور يتغلغل في معظم قصائده سواء أكانت غزلية أم قومية أم في وصف الطبيعة:
وطني وأدتُ بك الشبابَ
وكلّ ما ملكتْ يميني
وقبرتُ فيك مواهبي
واستنزفت غللي شؤوني
ودفنتُ شتَّى الذكريات
بغور خافقي الطعين
وإذا كانت الرؤية الاجتماعية لدى فهد غائمة ومثالية؛ فإن رؤيته للوضع العربي كانت أكثر واقعية:
أبناءَ يعربَ والكوارثُ جمّةُ
هيّا انبذوا الأحقادَ والأضغانا
وتآلفُوا وتكاتفوا وتساندوا
متراصفينَ وحرّروا الأوطانا
إنا بعصرٍ لا يعيشُ به سوى
من كان يملك صارما وسنانا
توزعت قصائد فهد المتبقية بين الشكوى والغزل والخمر بصورة رئيسية إلى جانب بعض القصائد القومية. يعُدّ فهد مجدداً في البيئة الشعرية في الكويت والجزيرة العربية، إذ نقل الشعر من التمحور حول الموضوعات الاجتماعية والثقافية المألوفة ، إلى مرجعية الذات إذ تصبح أحلام الشاعر وهواجسه وتطلعاته هي المرجعية المشروعة، وانتقل من الموضوعات التقليدية المستقرة ذات الحدود الواضحة (مدح ـ هجاء ـ رثاء …) إلى الموضوع المختلط، وتتجاذب في القصيدة موضوعات متعددة تجد ارتكازها في نفس الشاعر القلقة، ومن اللغة المعجمية إلى لغة مأنوسة سهلة، فلم يكن فهد إلا مقلِّداً لشعراء الرومانسية الكبار ولم يأت بجديد.
أصيب الشاعر بالعمى في آخر حياته بعد أن عانى مرضاً في العينين حالَ الفقرُ دون علاجه، ثم أصيب بالتدرن الرئوي وأمضى الشهرين الأخيرين من حياته في مستشفى بالكويت، وغادر الحياة من دون أن يدري به إلا قلة من أصدقائه.
وإذا كانت حياته تمثّل مأساة فردية، فإن بعض شعره ظلَّ من بعده ليروي قصة التمرد المحبط لذات ظنت أن تصوراتها المعزولة هي الحقيقة بل الحقيقة المطلقة.
ماجد الحكواتي
Al-Askar (Fahd Saleh-) - Al-Askar (Fahd Saleh-)
العسـكر (فهـد صـالح ـ)
(1916ـ 1951م)
فهد بن صالح العسكر أحد أكثر شعراء الكويت شهرة في النصف الأول من القرن العشرين، إذ مثَّل علامةً مهمة من علامات التغيير، سواء من حيث الشعر الكويتي أم من حيث العلاقات الاجتماعية. أخبار الشاعر قليلة ومضطربة ويلف بعض مفاصلها الغموض، وُلِدَ في مدينة الكويت حينما كانت مدينة صغيرة مسورة شبه مغلقة على نفسها، تحكمها تقاليد صارمة، وقد اخْتُلِفَ في سنة ولادته، ولعلَّ هذا التاريخ 1916 أقرب إلى الواقع، نشأ فهد في أسرة متدينة فأبوه صالح كان إماماً لأحد المساجد، ثم ترك الإمامة للعمل في الجمارك، ثم أصبح وكيلاً على أملاك الشيخ مبارك الصباح، وعلى أملاك ولديه من بعده جابر وسالم، وأكسبه هذا العمل ثروة مكنته من أن ينفق على أولاده بسخاء، وقد تميزت حياة فهد في طفولته بالتدين.
التحق فهد أولاً بالكتّاب، ثم انتسب إلى أول مدرسة رسمية عرفتها الكويت، وهي مدرسة المباركية التي قامت برامجها على الثقافة التقليدية وبعض المعارف الحديثة، وتفتحت مواهبه الشعرية في أثناء دراسته، فكان ينظم بعض القصائد ويعرضها على معلمه الشاعر محمود شوقي الأيوبي، الذي أصبح مرشده الشعري، يوجِّهه ويصوِّب له قصائده.
وبعد أن انتهى من مرحلة الدراسة، والتي لم تتعد المرحلة المتوسطة، دعاه الملك عبد العزيز إلى زيارته في الرياض، بعد أن مدحه بقصيدة، فلبى الدعوة، وعرض الملك عبد العزيز عليه وظيفة كاتب لأحد أبنائه الذي كان يرابط على الحدود السعودية اليمنية، فلم يستطع فهد تحمل مشاق هذه الوظيفة الصغيرة، فاعتذر وعاد إلى الكويت.
لم يمارس فهد أي عمل حكومي أو حر بعد هذه التجربة، بل عاش على الثروة التي خلَّفها له أبوه مسرفاً في إنفاقها حتى استنفدها وعاش بقية عمره في فقر مدقع.
كانت الكويت في العشرينيات من القرن الماضي قد شهدت بعض نسمات الانفتاح على العالم الخارجي؛ تمثلت في افتتاح أولى المدارس الرسمية، وتأسيس ناد أدبي ومكتبة، وصدور أول مجلة، ودخلت الكويت بعض الكتب والمجلات العربية من مصر والعراق، وقد أثَّر هذا الانفتاح المحدود في تكوين نخبة مثقفة معدودة تتطلع إلى التغيير وسط مجتمع راكد، وقد أقبل فهد بعد أن تشبع في البيئة العائلية والمدرسية بالقيم التقليدية على قراءة دواوين الشعر والاطلاع على الوافد من الكتب والمجلات، إذ أخذت الأفكار الجديدة تسري في وجدانه، وحدث لفهد في عنفوان شبابه انقلاب كبير في أفكاره، إذ تحول إلى متمرد على الواقع بعد أن كان مسايراً له وملتحماً به، ولم يكن فهد، الذي اعتدَّ بذاته وحُجِبَتْ عنه رؤية الواقع الاجتماعي، يستند إلى قوة اجتماعية في نزوعه، ولم يكن لديه أي مشروع واقعي للتغيير، ولذلك بدت ثورته أقرب إلى الثورة الطفولية، وما دامت الآفاق مسدودة أمامه فإن إيلام المجتمع وصدمه كانا الوسيلة التي تعبر بها طاقته المخبوءة عن رغبته الذاتية في تأسيس عالم جديد غامض ومثالي على أنقاض العالم القائم.
أقبل فهد على شرب الخمر وجهر بذلك في قصائده، وصاغ غزله مكشوفاً. وصوَّر المرأة الكويتية التي كانت قابعة في البيوت عاشقةً تشرب الخمر وتلتقي بالشاعر في غفلة عن رقابة الأهل لتطارحه معه الغرام، وبالغ في ذلك فاتهم الشاعر بالجنون والكفر والخلاعة، وصرّح عما جرى له بقوله:
هذا رماني بالشذوذ
وذا رماني بالجنونِ
وهناك منهم من رماني
بالخلاعة والمجونِ
وتطاول المتعصّبون
وما كفرتُ وكفَّروني
ولهذا التمرد حدثت هوة عميقة بين الشاعر ومجتمعه أفقدته التواصل حتى مع عائلته، وأدت إلى عزلة الشاعر؛ إذ عاش سنواته الأخيرة منفرداً في غرفة مظلمة يعاني الفقر والمرض، ولم يكن يتردد عليه إلا قلة من الأصدقاء يطارحهم الشعر.
كان فهد مكثراً من الشعر، ولم يعرف فناً غيره، وقد نشر بعض القصائد في صحف بحرينية وعراقية، كما ألقى بعض قصائده في مناسبات دينية وقومية، ويقال إنه اختار بعض قصائده لتطبع في ديوان، ولكن الموت عاجله ولم يُعرف مصير هذه المختارات. ويلف الغموض مصير شعره، فهناك من يدَّعي أن شعره قد أحرق بعد موته بطلبٍ من فهد، أو بتصرف من بعض أفراد عائلته، وهناك من ينكر هذه الواقعة ويرجع ضياع شعره إلى الإهمال وعزلة الشاعر، وقد قام زكريا عبد الله زكريا الأنصاري وهو من أقرب أصدقاء الشاعر، بجمع ما استطاع من قصائد سواء مما دوَّنه عن الشاعر، أو مما احتفظ به بعض الأصدقاء، أو ممَّا نُشِرَ في بعض الصحف، وقدَّم لهذه القصائد بدراسة عن حياة فهد وشعره، وقد بلغت هذه القصائد في آخر طبعة للكتاب (54) قصيدة، ويعتقد الشاعر أن هذا المقدار ليس إلا جزءاً من نتاج فهد الشعري الضخم.
يتمحور فهد في شعره حول ذاته، مما يضفي على هذا الشعر القسمات الرومانسية التي اكتسبها نتيجة لتأثره بالموجة الرومانسية التي غزت الشعر العربي في العقد الثالث من القرن الماضي، وكانت الشكوى من المجتمع الموضوع الأساسي المسيطر على شعره، وهذا المحور يتغلغل في معظم قصائده سواء أكانت غزلية أم قومية أم في وصف الطبيعة:
وطني وأدتُ بك الشبابَ
وكلّ ما ملكتْ يميني
وقبرتُ فيك مواهبي
واستنزفت غللي شؤوني
ودفنتُ شتَّى الذكريات
بغور خافقي الطعين
وإذا كانت الرؤية الاجتماعية لدى فهد غائمة ومثالية؛ فإن رؤيته للوضع العربي كانت أكثر واقعية:
أبناءَ يعربَ والكوارثُ جمّةُ
هيّا انبذوا الأحقادَ والأضغانا
وتآلفُوا وتكاتفوا وتساندوا
متراصفينَ وحرّروا الأوطانا
إنا بعصرٍ لا يعيشُ به سوى
من كان يملك صارما وسنانا
توزعت قصائد فهد المتبقية بين الشكوى والغزل والخمر بصورة رئيسية إلى جانب بعض القصائد القومية. يعُدّ فهد مجدداً في البيئة الشعرية في الكويت والجزيرة العربية، إذ نقل الشعر من التمحور حول الموضوعات الاجتماعية والثقافية المألوفة ، إلى مرجعية الذات إذ تصبح أحلام الشاعر وهواجسه وتطلعاته هي المرجعية المشروعة، وانتقل من الموضوعات التقليدية المستقرة ذات الحدود الواضحة (مدح ـ هجاء ـ رثاء …) إلى الموضوع المختلط، وتتجاذب في القصيدة موضوعات متعددة تجد ارتكازها في نفس الشاعر القلقة، ومن اللغة المعجمية إلى لغة مأنوسة سهلة، فلم يكن فهد إلا مقلِّداً لشعراء الرومانسية الكبار ولم يأت بجديد.
أصيب الشاعر بالعمى في آخر حياته بعد أن عانى مرضاً في العينين حالَ الفقرُ دون علاجه، ثم أصيب بالتدرن الرئوي وأمضى الشهرين الأخيرين من حياته في مستشفى بالكويت، وغادر الحياة من دون أن يدري به إلا قلة من أصدقائه.
وإذا كانت حياته تمثّل مأساة فردية، فإن بعض شعره ظلَّ من بعده ليروي قصة التمرد المحبط لذات ظنت أن تصوراتها المعزولة هي الحقيقة بل الحقيقة المطلقة.
ماجد الحكواتي