عمود شعر
- -
عمود الشعر
مصطلح علمي يتصل ببنية الشعر العربي الموزون المقفى، سبق إلى اكتشاف بعض عناصره عدد من العلماء العرب القدامى من دون التصريح باللفظ الجامع له (عمود الشعر) من أمثال الجاحظ وابن قتيبة وسواهما، حتى جاء القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، والحسن بن بشر الآمدي، واكتملت المعرفة به على يد أبي علي بن أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي.
ويطلق اليوم مصطلح الشعر العمودي للدلالة على الشعر العربي الموزون، بغض النظر عن الدلالة الحقيقية للمصطلح.
ويرتبط مفهوم عمود الشعر بالأحوال الحضارية للعرب، ذلك أن هذا التركيب الإضافي (عمود الشعر) يحمل تشبيهاً ضمنياً يرى أن بيت الشعر يشبه بيتَ الشَّعَر أو خيمة البدوي، وموقع العمود في وسط البيت أو الخيمة يعد شيئاً أساسياً، فإن اهتز اضطرب البيت كله من جهة خزائنه الفنية لا من جهة وزنه العروضي، وإن أزيل هبط السقف على الأرض، وألغي معنى البيت وجوداً أو تكويناً، وإن تغيَّر موضعه زالت فكرة التوازن بين شطري البيت من جهة ثقل السقف على العمود الحامل، فثقلَ بعضُه وخفَّ بعضُه، فكأن العمود عاتق الميزان في توكيد نظرية الوسطية والاعتدال عند العرب.
وأسموه عموداً لأن منهج القصيدة يتناول سطحها من جهة تنوع موضوعاتها وترتيب سردها، على نحو ما حُمِلَ برواية ابن قتيبة من أنها تبدأ بالأطلال مشتبكاً بالنسيب، وتردف بالرحلة إلى الممدوح أو ما يسمى إيجاب الحقوق عند القدماء، فيذكر الشاعر ما يلقاه في الطريق، ويعمد إلى تشبيه ناقته ببعض الحيوان تسلية وتنبيهاً على براعته الفنية، مما جعل شكري فيصل يسميها المقدمة الفنية، ثم يصل إلى المديح، وبه يختم القصيدة، وبعض الشعراء يتبع المديح بخاتمة من الحكمة كما فعل زهير في معلقته.
وأما عمود الشعر فلا يطفو على السطح، بل يخترقه إلى أعماق النص، بمقدار نفوذ بصيرة الناقد ودربته أو ثقافته، ومدى تكشُّف النص له، ومقدار سماحه لرؤيته بالنفوذ. هذا مفهوم عمود الشعر عامة.
ولاريب في أن ملاحظة الكتب التي سيق فيها الحديث عن عمود الشعر تكشف عن حاجة العلماء إليه في قراءتهم للشعر والمفاضلة بين الشعراء، ولاسيما ما يتعلق بشعر المتنبي ومقارنته بمن سبقه ومن عاصره، وهذا يكشف شيئاً من الاختلاف في مفهوم عمود الشعر بين القدماء، وآليات المفاضلة.
وجاء المرزوقي ليقدم الرؤية الشاملة عندما نظر في شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، فجعل نظرية الاختيار قواماً كلياً لحركة النقد العربي، ورأى أن الاختيار يوجب بالطبع والصنعة ليميل الحكم إلى جهة الطبع وينفر من الصنعة المتكلَّفة، ولأجل ذلك كان لابد له من البحث عن عمود الشعر للكشف عن مواطن الإحسان في التجديد، والتقصير في التقليد، ومعرفة المطبوع والمصنوع، والسارق والمسروق، والحقيقة من الزيف، وهذا يعني أن عمود الشعر ماثلًٌ في أشعار العرب من الجاهلية إلى يوم الناس هذا، وإن لم يشعر أحد قبلهم بوجوده العلمي، وإنما الفضل في اكتشافه وتحديده وحسب.
لعمود الشعر أركان أجمَلَها المرزوقي بقوله: «إنهم كانوا يحاولون شرفَ المعنى وصحته، وجزالةَ اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف ـ ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات ـ والمقاربةَ في التشبيهِ، والتحامَ أجزاء النظم والتئامها على تخيُّرٍ من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلةَ اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما. فهذه سبعة أبوابٍ هي عمود الشعر، ولكلِّ باب منها معيار»، فعمود الشعر له سبعة أركان تتحقق في القصيدة من غير قسمة على البيت لكل عنصر، لكنها تقع مواقع الاستحسان باعتدالها، وتأخذ منابر الكراهة بزيادتها واجتلابها.
وأولها ركن المعنى الموصوف بالعلو في طريقة تناوله والصحة في أدائها، ويلي ذلك الركن الثاني وهو اللفظ، واشترط له الجزالة؛ أي قوة موافقة لاختياره الباطن مناسباً الحال والمقتضى للموقف، على أنه أصل المعنى الشعري الداعي للإبداع، واستقامة اللفظ على قوانين العربية نحواً وصرفاً وفناً شعرياً، والركن الثالث الإصابة في الوصف الخادم لغرض النص الشعري مدحاً أو فخراً أو هجاءً، وأن يصفه بما ينبغي أن يكون عليه بمقتضى الفن الشعري، وليس بمقتضى واقع الممدوح، ويأتي الركن الرابع المسمى المقاربة في التشبيه التي تشير إلى طبيعة التصوير الفني الشعري المعبر عن مقاربة الإشارة للغرض من غير التصريح به مباشرة، ذلك أن المباشرة مدفوعة في الفن كله ما لم يكن وعظياً يخاطب العامة، ويقوم الركن الخامس بالتحام أجزاء النظم والتئامها على تخيِّرٍ من لذيذ الوزن، فيؤدي ذلك إلى تلاحم البناء الشعري بالتئام الأركان السابقة في النص بأوزانٍ متناغمة على ألاَّ يحدثَ في البنيان خلخلة بين نظم المعاني باللفظ وصورها بعلاقتها بالغرض الشعري والأفكار المقطعية الجزئية، وارتياحها في قوالب الوزن اللذيذ المتخير لها طبعاً وسجية في العقل الباطن.
والركن السادس مناسبة المستعار منه للمستعار له ليتم الالتئام والالتحام السابق ذكرهما، ثم يأتي الركن السابع بمجانسة اللفظ للمعنى، وليس المعنى للفظ، ذلك أن المعنى هو الأصل في تجارب المطبوعين من الشعراء، ولاتكفي المشاكلة بينهما، بل لابد من شدة اقتضاء القافية لهما بعد تحقق الالتحام بالوزن، ويتحقق ذلك بطول الدربة في طريق الشعر وممارسة الإبداع الشعري.
وتُختم المسألة بقول المرزوقي: «هذه خصال عمود الشعر، فمن لزمها بحقها، وبنى شعره عليها، فهو عندهم المُفلِقُ المُعَظَّمُ، والمُحسِن المقدَّمُ. ومن لم يجمعها كلها فبِقدَرِ سُهمتهِ منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان، وهذا إجماعٌ مأخوذ به ومُتَّبَعٌ نهجه حتى الآن» ولابد من ملاحظة أن الإفراط في ذلك كان سبباً لذم شعر أبي تمام، وأن التفريط ببعضه كان سبباً لاستقباح شعر غيره أيضاً.
عبد الكريم محمد حسين
- -
عمود الشعر
مصطلح علمي يتصل ببنية الشعر العربي الموزون المقفى، سبق إلى اكتشاف بعض عناصره عدد من العلماء العرب القدامى من دون التصريح باللفظ الجامع له (عمود الشعر) من أمثال الجاحظ وابن قتيبة وسواهما، حتى جاء القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، والحسن بن بشر الآمدي، واكتملت المعرفة به على يد أبي علي بن أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي.
ويطلق اليوم مصطلح الشعر العمودي للدلالة على الشعر العربي الموزون، بغض النظر عن الدلالة الحقيقية للمصطلح.
ويرتبط مفهوم عمود الشعر بالأحوال الحضارية للعرب، ذلك أن هذا التركيب الإضافي (عمود الشعر) يحمل تشبيهاً ضمنياً يرى أن بيت الشعر يشبه بيتَ الشَّعَر أو خيمة البدوي، وموقع العمود في وسط البيت أو الخيمة يعد شيئاً أساسياً، فإن اهتز اضطرب البيت كله من جهة خزائنه الفنية لا من جهة وزنه العروضي، وإن أزيل هبط السقف على الأرض، وألغي معنى البيت وجوداً أو تكويناً، وإن تغيَّر موضعه زالت فكرة التوازن بين شطري البيت من جهة ثقل السقف على العمود الحامل، فثقلَ بعضُه وخفَّ بعضُه، فكأن العمود عاتق الميزان في توكيد نظرية الوسطية والاعتدال عند العرب.
وأسموه عموداً لأن منهج القصيدة يتناول سطحها من جهة تنوع موضوعاتها وترتيب سردها، على نحو ما حُمِلَ برواية ابن قتيبة من أنها تبدأ بالأطلال مشتبكاً بالنسيب، وتردف بالرحلة إلى الممدوح أو ما يسمى إيجاب الحقوق عند القدماء، فيذكر الشاعر ما يلقاه في الطريق، ويعمد إلى تشبيه ناقته ببعض الحيوان تسلية وتنبيهاً على براعته الفنية، مما جعل شكري فيصل يسميها المقدمة الفنية، ثم يصل إلى المديح، وبه يختم القصيدة، وبعض الشعراء يتبع المديح بخاتمة من الحكمة كما فعل زهير في معلقته.
وأما عمود الشعر فلا يطفو على السطح، بل يخترقه إلى أعماق النص، بمقدار نفوذ بصيرة الناقد ودربته أو ثقافته، ومدى تكشُّف النص له، ومقدار سماحه لرؤيته بالنفوذ. هذا مفهوم عمود الشعر عامة.
ولاريب في أن ملاحظة الكتب التي سيق فيها الحديث عن عمود الشعر تكشف عن حاجة العلماء إليه في قراءتهم للشعر والمفاضلة بين الشعراء، ولاسيما ما يتعلق بشعر المتنبي ومقارنته بمن سبقه ومن عاصره، وهذا يكشف شيئاً من الاختلاف في مفهوم عمود الشعر بين القدماء، وآليات المفاضلة.
وجاء المرزوقي ليقدم الرؤية الشاملة عندما نظر في شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، فجعل نظرية الاختيار قواماً كلياً لحركة النقد العربي، ورأى أن الاختيار يوجب بالطبع والصنعة ليميل الحكم إلى جهة الطبع وينفر من الصنعة المتكلَّفة، ولأجل ذلك كان لابد له من البحث عن عمود الشعر للكشف عن مواطن الإحسان في التجديد، والتقصير في التقليد، ومعرفة المطبوع والمصنوع، والسارق والمسروق، والحقيقة من الزيف، وهذا يعني أن عمود الشعر ماثلًٌ في أشعار العرب من الجاهلية إلى يوم الناس هذا، وإن لم يشعر أحد قبلهم بوجوده العلمي، وإنما الفضل في اكتشافه وتحديده وحسب.
لعمود الشعر أركان أجمَلَها المرزوقي بقوله: «إنهم كانوا يحاولون شرفَ المعنى وصحته، وجزالةَ اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف ـ ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات ـ والمقاربةَ في التشبيهِ، والتحامَ أجزاء النظم والتئامها على تخيُّرٍ من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلةَ اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما. فهذه سبعة أبوابٍ هي عمود الشعر، ولكلِّ باب منها معيار»، فعمود الشعر له سبعة أركان تتحقق في القصيدة من غير قسمة على البيت لكل عنصر، لكنها تقع مواقع الاستحسان باعتدالها، وتأخذ منابر الكراهة بزيادتها واجتلابها.
وأولها ركن المعنى الموصوف بالعلو في طريقة تناوله والصحة في أدائها، ويلي ذلك الركن الثاني وهو اللفظ، واشترط له الجزالة؛ أي قوة موافقة لاختياره الباطن مناسباً الحال والمقتضى للموقف، على أنه أصل المعنى الشعري الداعي للإبداع، واستقامة اللفظ على قوانين العربية نحواً وصرفاً وفناً شعرياً، والركن الثالث الإصابة في الوصف الخادم لغرض النص الشعري مدحاً أو فخراً أو هجاءً، وأن يصفه بما ينبغي أن يكون عليه بمقتضى الفن الشعري، وليس بمقتضى واقع الممدوح، ويأتي الركن الرابع المسمى المقاربة في التشبيه التي تشير إلى طبيعة التصوير الفني الشعري المعبر عن مقاربة الإشارة للغرض من غير التصريح به مباشرة، ذلك أن المباشرة مدفوعة في الفن كله ما لم يكن وعظياً يخاطب العامة، ويقوم الركن الخامس بالتحام أجزاء النظم والتئامها على تخيِّرٍ من لذيذ الوزن، فيؤدي ذلك إلى تلاحم البناء الشعري بالتئام الأركان السابقة في النص بأوزانٍ متناغمة على ألاَّ يحدثَ في البنيان خلخلة بين نظم المعاني باللفظ وصورها بعلاقتها بالغرض الشعري والأفكار المقطعية الجزئية، وارتياحها في قوالب الوزن اللذيذ المتخير لها طبعاً وسجية في العقل الباطن.
والركن السادس مناسبة المستعار منه للمستعار له ليتم الالتئام والالتحام السابق ذكرهما، ثم يأتي الركن السابع بمجانسة اللفظ للمعنى، وليس المعنى للفظ، ذلك أن المعنى هو الأصل في تجارب المطبوعين من الشعراء، ولاتكفي المشاكلة بينهما، بل لابد من شدة اقتضاء القافية لهما بعد تحقق الالتحام بالوزن، ويتحقق ذلك بطول الدربة في طريق الشعر وممارسة الإبداع الشعري.
وتُختم المسألة بقول المرزوقي: «هذه خصال عمود الشعر، فمن لزمها بحقها، وبنى شعره عليها، فهو عندهم المُفلِقُ المُعَظَّمُ، والمُحسِن المقدَّمُ. ومن لم يجمعها كلها فبِقدَرِ سُهمتهِ منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان، وهذا إجماعٌ مأخوذ به ومُتَّبَعٌ نهجه حتى الآن» ولابد من ملاحظة أن الإفراط في ذلك كان سبباً لذم شعر أبي تمام، وأن التفريط ببعضه كان سبباً لاستقباح شعر غيره أيضاً.
عبد الكريم محمد حسين