عين جالوت (معركه)
-
عين جالوت (معركة ـ)
عين جالوت واحدة من المعارك المهمة في التاريخ الإسلامي؛ جرت أحداثها بين العرب المسلمين والمغول في بداية قيام الدولة المملوكية في منتصف القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي على مقربة من بلدة عين جالوت الفلسطينية (10كم شمال مدينة بيسان) وهي منسوبة إلى عين ماء يذكرها السكان باسم: عين جالود، أو نهر الجالود، والموقع تكتنفه الأحراش والغابات الكثيفة، وهو ذو أهمية استراتيجية من الناحية العسكرية، فقد ذكرت بعض المصادر أن عين جالوت كانت بيد الصليبيين ثم استنقذها منهم السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 579هـ/1183م، واتخذ منها مركزاً لتجميع قواته، ومنها كان يشن غاراته الأولية على الإمارات الصليبية التي سبقت معركة حطين، وفي هذا الموقع جرت أيضاً معركة عُرِفَتْ باسم معركة عين جالوت الأولى، بين الملك العادل الأيوبي والصليبيين سنة 594هـ/1197م.
مقدمات المعركة
سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية بيد المغول القادمين من الشرق الآسيوي في20 محرم 656هـ/27/كانون الثاني/يناير/1258م، بعد مقتل الخليفة المستعصم بالله بن المستنصر الذي لم يكن من التيقظ والحزم في شيء؛ إذ لم يبق من معالم خلافة بني العباس سوى خلافة صورية كان يُدعى لبعض رموزها على منابر مصر والشام، وأخذ حكام الإمارات الواقعة ما بين الجزيرة ومصر يصانعون المغول، ويسارعون إلى تقديم الولاءات والخضوع التام للخان الأعظم هولاكو من خلال الهدايا وكتب الموالاة، في سنة 657هـ/1259م سقطت الموصل وحَرَّان الرَّها وآمد ونِصِيْبِيِن والبِيْرة ومَنْبِج وسروج التي ذبح أهلها عن آخرهم، ثم تبعتها مدينة حلب، وفتك المغول بأهلها وأعملوا فيهم القتل والسلب والنهب، ففر نائبها توران شاه المولى من قبل الملك الناصر يوسف صاحب دمشق الذي هرب أيضاً، بعدما وصلت إليه أخبار ما فعله المغول بحلب تاركاً دمشق لمصيرها، ولاذ بصحراء سيناء ليدرأ عن نفسه الخطر الداهم، وأخذ يتنقل بين قبائلها البدوية إلى أن ألقي القبض عليه من قبل أحد أعدائه فسلمه للمغول ليقتلوه لاحقاً.
في هذه الأثناء اغتيل عِزُّ الدين أَيبك (الجاشنكير) زوج شجرة الدر في مصر، ونصّب المماليك سيف الدين قطز ليكون أتابكا (قائداً) للجيش ونائباً عن الملك الصغير نور الدين علي، وبدأ مهمته في ظروف صعبة جداً، ومع ذلك وحَّدَ صفوف المماليك وقضى على تمرد المنشقين والطامعين منهم في الاستيلاء على الحكم في مصر، ونجح في استمالة بيبرس بالانضمام إليه، متناسين ما كان بينهم من خصومات قديمة بعد أن استشعر الجميع الخطر القادم من الشرق، وكان للعلماء وفي مقدمتهم العِزُّ بن عبد السلام دور لافت في توحيد الجهود وتهيئة الناس للدفاع عن العقيدة والبلاد بعد أن استولى المغول على بلاد الشام، وعندما سلَّمت دمشق مفاتيحها للغزاة أصبح الطريق مفتوحاً أمامهم إلى مصر التي جاء دورها،حينما وصلت طلائعهم إلى فلسطين، يتقدمهم «كتبغا فويزبك» بالمغاني والطبول، وقد وصل إلى قطز خطاب هولاكو يطلب إليه وإلى المصريين تسليم البلاد فوراً ومن دون قيود، ومما جاء في هذا الخطاب: «قد سمعتم أننا قوم فتحنا البلاد، وطهَّرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلَّب… فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، فما من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص… يا أهل مصر، أنتم قوم ضعاف، فصونوا دماءكم مني ولا تقاتلوني أبداً فتندموا، فنحن ما نرحم من بكى ولا نَرِقُّ لمن شكى…» إلى غير ذلك من الألفاظ التي لا يسع أهل النخوة والحمية أن يقبلوها.
كان قطز يدرك تماماً أن المغول لا يأبهون لعهد قطعوه، فقد فتحت لهم بغداد أبوابها بموجب أمان كتبوه على أنفسهم، فقتلوا خليفتها، ودمروا قائمها، وسَبَوا نساءها، وسرقوا أموالها، وما فعلوه في بغداد فعلوه في حلب وحماة وباقي مدن الشام، فهم يمنحون أماناً لا أمان فيه.
جمع قطز أمراء جيشه ومن قدم إليه من الشام لائذاً ومنضماً وأطلعهم على ما جاء بكتاب هولاكو مذكراً بغدرهم وعدم وفائهم، ومع ذلك أشار عليه بعضهم بالموادعة لاعتقادهم بصعوبة التغلب عليهم وهم الذين هزموا جند العراق والشام، ولاسيما إذا انضم إليهم الصليبيون في المعركة، واقترح آخرون التوجه إلى شمالي إفريقيا طلباً للنجاة، ولكن قطز لم يجبن إزاء هذا التهديد، وحسم موقفه حينما وقف بين أمراء جنده مذكِّراً بما للمسلمين في أعناقهم من حق «وأن من أكل من بيت مال المسلمين وجب عليه الدفاع عن حرمتهم وحرمة أرضهم». أحيا هذا الموقف من جانب قطز ميت الآمال في نفوس أصحابه، وقوَّى روحهم المعنوية وحفزهم على القتال من أجل تحقيق النصر، فبايعوه على الجهاد «فإن ظفروا فهو المراد، وإلا فلن يكونوا ملومين»، وأمر لتوه بقتل الرسل الذين جاؤوا إليه بخطاب هولاكو في إشارة واضحة إلى المواجهة المحتمة، وأمر بقرع الطبول إيذاناً بالحشد والتعبئة وإعلان الجهاد.
حينما علم كتبغا قائد المغول في فلسطين بموقف قطز أرسل طليعة جيشه بقيادة أحد قادته (الأمير بايدرا) لاستطلاع الأحوال، ولتمهيد الطريق أمام الجيش، فوصلت إلى غزة، وبلغه موقف المصريين الرافض وما يقوم به المماليك بقيادة أميرهم قطز، فأعلم قائده (كتبغا) بذلك وأن ثمة فرقة من جيش مصر على رأسها بيبرس العلائي البندقداري قد اتجهت إلى فلسطين لملاقاته، فأوعز كتبغا إلى بايدرا أن يتشبث في موقعه ويدافع عنه، أو على الأقل أن يشاغل المصريين بانتظار قدومه إليه. في هذه الأثناء كان بيبرس قد علم بوصول بايدرا إلى غزة، فلم يدع الفرصة تفوته، فباغتهم على حين غرة، فقتل بايدرا ومعظم من كان معه من الجنود، وغنم الأموال والعتاد الذي كان بحوزتهم، وأصبح الطريق مأموناً أمام الجيش المصري. ومع أن هذه المعركة لم تسفر عن نتائج ملموسة من حيث أهميتها العسكرية غير أنها الأولى التي انتصف فيها العرب المسلمون لأنفسهم من المغول، وأيقظت في نفوسهم حب الجهاد والدفاع عن كرامة الأمة، وأعادت الثقة بنفس الجنود على النحو الذي سيكون له أبلغ الأثر في نتائج المعركة القادمة.
مجريات المعركة
عبأ قطز قواته، وخرج على رأسها من القاهرة وبصحبته عدد من ملوك وأمراء بني أيوب أصحاب الشام، يتقدمهم صاحب حماة المنصور وأخوه الأفضل علي إلى الرَّيْدانية، ومنها اتجه الجميع إلى الصالحية ثم الفرما فالعريش، حيث التقى بأمير مقدمته بيبرس، فخرج إليها بعض أمراء الصليبين المسيطرين على بعض المواقع الساحلية في بلاد الشام وعرضوا عليهم المساعدة لمواجهة المغول، وكان الصليبيون على ما يبدو قد تأذَّوا منهم في أثناء اجتياحهم صيدا وغيرها من الحصون، غير أن قطز كان يخشى غدر الصليبيين من جهته واستغلالهم للموقف فينقلبوا عليه، وخلص إلى الاتفاق معهم على أن يكونوا على الحياد وهددهم من مغبة الغدر، وبعد أن توثق من تحييدهم اتجه نحو عكا غاذاً في السير نحو الجنوب ليوهم المغول أنه في طريقه إلى دمشق لاستردادها، وعند وصوله إلى موقع عين جالوت اتفق وبيبرسَ وكبار قادته على أن يكون قسم من الجيش بإمرة بيبرس، ومهمته التقدم لملاقاة المغول، وقسمٌ آخرُ تمَّ توزيعه وإخفاؤه ضمن مجموعات بين الأحراش والغابات المحيطة بعين جالوت، تكون مهمته الإطباق على العدو بعد استدراجه إلى المكان المحدد، وفي يوم الجمعة 25 رمضان 658هـ/3/أيلول/سبتمبر1260م جرى اللقاء التاريخي بين العرب المسلمين والمغول واندفع كتبغا «كأنه بحر من اللهيب»، فتأخر قطز بميمنة الجيش متظاهراً بالهزيمة، ثم تبعته الميسرة، فأطبق الجيش المختبئ على المغول من الخلف والمجنبتين، ولقي كتبغا مصرعه ودارت الدائرة على معظم جيشه، وأسر ولده وفارقه الملك الأشرف موسى صاحب حمص طالباً الأمان لنفسه من قطز، وأرسلت رأس كتبغا إلى القاهرة وعُلِّقت على باب زويلة، في حين تابع بيبرس مطاردة الهاربين من المغول وتحرير ما كان بأيديهم من أسرى المسلمين، وأعاد ما نهبوه من أموال ونفائس الشام والعراق، وتشير بعض المصادر إلى أنهم تخلوا حتى عن أولادهم فتخطفهم الناس. وتابع قطز فلولهم إلى نواحي بيسان حينما بلغه أنهم قاموا بإعادة تنظيم صفوفهم مرة ثانية، وحمل عليهم حملة صادقة بعد أن امتلأت نفسه بالإيمان والإخلاص وهو ينادي «وا إسلاماه»، فمزَّق شملهم، ولاذ من بقي منهم بالفرار نحو دمشق طالباً النجاة لنفسه، وتابع بيبرس فلولهم إلى خارج بلاد الشام، في حين دخل المظفر قطز دمشق مزهواً بنصره، فاستقبله أهلها بالحفاوة والتكريم، ونزل في قلعتها تؤمه وفود المهنئين.
اللافت هنا أن قطز ومن كان معه من المماليك هم من الأتراك المجلوبين من بلاد القفجاق والقوقاز، ومن ثمَّ هم والتتار من جنس واحد، وتجمعهم صفات مشتركة، فكان من غريب المصادفة أن تكون هزيمة المغول على يد واحد من أبناء جنسهم، وإلى ذلك أشار بعض الشعراء قائلاً:
غلب التتار على البلاد فجاءهم
من مصر تركيٌّ يجود بنفسِهِ
في الشام أهلكهم وبدَّد شملَهم
ولكل شيء آفةٌ من جنسِه
نتائج المعركة
عد المؤرخون معركة عين جالوت من المعارك الفاصلة في التاريخ، بالنظر إلى النتائج التي أسفرت عنها، فهي من جهة أعادت الوحدة إلى بلاد الشام بعد أن كانت قد تمزقت إلى دويلات على إثر وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكوَّنَتْ في مصر البداية الأولى لقيام دولة المماليك التي أصبحت ولمدة ثلاثة قرون تقريباً مركز الخلافة الإسلامية، ومع أنها لم تكن تفرض سيطرتها على كل الأنساق التي تفرعت عن أصل الدولة الإسلامية، غير أنها مثَّلت في قرنين على الأقل القوة العسكرية الأولى التي حمت العرب والمسلمين من المخاطر التي كانوا يواجهونها في المشرق العربي. وأسهمت عين جالوت بطريقة أو بأخرى في قبول المماليك في الوسط العربي كأمراء وسلاطين، بعد أن كان يُنظَر إليهم أنهم من طبقة العبيد.
من جهة أخرى أعادت عين جالوت الثقة بالنفس، وأكدت قدرة العرب المسلمين على درء المخاطر، وأسقطت كل الحسابات التي كانت تراهن على عجز المقاتل العربي عن مواجهة التفوق المغولي، ممَّا مهد إلى تصفية الوجود الصليبي واقتلاعه من قلب الوطن العربي لاحقا، ونتج من موقعة عين جالوت أيضاً أن انهارت معنويات المغول حتى على المستوى الداخلي، فقد ألقت هزيمتهم هذه بظلالها على مصير حملاتهم الأخرى، وأنقذت أوربا لتراجعهم عبر آسيا الصغرى التي لم يعودوا إليها إلا في أثناء هجمتهم الثانية بقيادة تيمورلنك أواخر القرن الثامن الهجري.
على أن من أهم النتائج التي تمخضت عنها هزيمة المغول في عين جالوت هو منح مصر مركز الريادة في العالم الإسلامي، فهي من جهة حالت دون وصول المغول إلى شمالي إفريقيا الإسلامي، وأنقذت ما فيه من المراكز العلمية من عبث المغول، ومن جهة ثانية تابعت القاهرة مسيرتها في بناء الحضارة العربية والإسلامية، فكانت موئلاً للعلماء والمفكرين طوال العهد المملوكي، وتخليداً لهذا النصر العظيم ذكرت بعض المصادر أن الظاهر بيبرس أقام نصباً تذكارياً في المكان الذي جرت فيه أحداث المعركة سماه «مشهد النصر» احتفاءً بهذا اليوم المجيد، وقد يكون من وجهة نظر علماء الآثار أول نصب تذكاري من نوعه في تاريخ الدولة الإسلامية.
مقتل السلطان قطز
بعد دخول السلطان المظفر قطز إلى دمشق؛ أعاد تنظيم البلاد وجعل عليها النواب والحكام، وسمح لبعض أمراء البيت الأيوبي الذين انضموا إليه بالعودة إلى مواقعهم، ولكن بعد الاعتراف به سلطاناً عليهم، وكانوا يدفعون إليه الأموال، ويتوجهون له بالدعاء على المنابر، وطلب إلى بيبرس أن يلاحق فلول المغول إلى ما وراء جبال طوروس، وتمكن هذا من أداء مهمته بنجاح.
ويبدو أن ثمة إحن وعداوات بين بيبرس وقطز يعود تاريخها إلى أيام عز الدين أيبك، وجاءت أحداث عين جالوت لتنكأ بنتائجها جراح تلك العداوة من جديد حينما شعر بيبرس أنه غُمِطَ حقاً كان يرجو الحصول عليه بوعد من قطز، وكان هذا الأخير قد أقر بإعطائه حلب تقديراً لجهوده، لكن قطز تنكر لوعوده، وولَّى على حلب الأمير علاء الدين بن بدر الدين لؤلؤ، متجاهلاً موقع بيبرس الذي كان ينظر إليه من قِبَلِ المماليك على أنه صانع النصر الحقيقي في عين جالوت، فتغير موقفه من قطز وأخذ يخطط لاغتياله، ومع أن قطز بلغه ما يخطط له بيبرس غير أنه فاته أن يحتاط لنفسه، فاغتاله بمكيدة مع رهط من مماليكه، حينما أوهمه بتقبيل يديه لإنعاماته عليه بموقع الصالحية في ذي القعدة 658 هـ/أواخر تشرين أول/أكتوبر 1260م، في حين كانت فيه القاهرة تستعد لاستقباله، ونودي بالظاهر بيبرس سلطاناً جديداً على البلاد.
مصطفى الخطيب
-
عين جالوت (معركة ـ)
عين جالوت واحدة من المعارك المهمة في التاريخ الإسلامي؛ جرت أحداثها بين العرب المسلمين والمغول في بداية قيام الدولة المملوكية في منتصف القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي على مقربة من بلدة عين جالوت الفلسطينية (10كم شمال مدينة بيسان) وهي منسوبة إلى عين ماء يذكرها السكان باسم: عين جالود، أو نهر الجالود، والموقع تكتنفه الأحراش والغابات الكثيفة، وهو ذو أهمية استراتيجية من الناحية العسكرية، فقد ذكرت بعض المصادر أن عين جالوت كانت بيد الصليبيين ثم استنقذها منهم السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 579هـ/1183م، واتخذ منها مركزاً لتجميع قواته، ومنها كان يشن غاراته الأولية على الإمارات الصليبية التي سبقت معركة حطين، وفي هذا الموقع جرت أيضاً معركة عُرِفَتْ باسم معركة عين جالوت الأولى، بين الملك العادل الأيوبي والصليبيين سنة 594هـ/1197م.
مقدمات المعركة
سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية بيد المغول القادمين من الشرق الآسيوي في20 محرم 656هـ/27/كانون الثاني/يناير/1258م، بعد مقتل الخليفة المستعصم بالله بن المستنصر الذي لم يكن من التيقظ والحزم في شيء؛ إذ لم يبق من معالم خلافة بني العباس سوى خلافة صورية كان يُدعى لبعض رموزها على منابر مصر والشام، وأخذ حكام الإمارات الواقعة ما بين الجزيرة ومصر يصانعون المغول، ويسارعون إلى تقديم الولاءات والخضوع التام للخان الأعظم هولاكو من خلال الهدايا وكتب الموالاة، في سنة 657هـ/1259م سقطت الموصل وحَرَّان الرَّها وآمد ونِصِيْبِيِن والبِيْرة ومَنْبِج وسروج التي ذبح أهلها عن آخرهم، ثم تبعتها مدينة حلب، وفتك المغول بأهلها وأعملوا فيهم القتل والسلب والنهب، ففر نائبها توران شاه المولى من قبل الملك الناصر يوسف صاحب دمشق الذي هرب أيضاً، بعدما وصلت إليه أخبار ما فعله المغول بحلب تاركاً دمشق لمصيرها، ولاذ بصحراء سيناء ليدرأ عن نفسه الخطر الداهم، وأخذ يتنقل بين قبائلها البدوية إلى أن ألقي القبض عليه من قبل أحد أعدائه فسلمه للمغول ليقتلوه لاحقاً.
في هذه الأثناء اغتيل عِزُّ الدين أَيبك (الجاشنكير) زوج شجرة الدر في مصر، ونصّب المماليك سيف الدين قطز ليكون أتابكا (قائداً) للجيش ونائباً عن الملك الصغير نور الدين علي، وبدأ مهمته في ظروف صعبة جداً، ومع ذلك وحَّدَ صفوف المماليك وقضى على تمرد المنشقين والطامعين منهم في الاستيلاء على الحكم في مصر، ونجح في استمالة بيبرس بالانضمام إليه، متناسين ما كان بينهم من خصومات قديمة بعد أن استشعر الجميع الخطر القادم من الشرق، وكان للعلماء وفي مقدمتهم العِزُّ بن عبد السلام دور لافت في توحيد الجهود وتهيئة الناس للدفاع عن العقيدة والبلاد بعد أن استولى المغول على بلاد الشام، وعندما سلَّمت دمشق مفاتيحها للغزاة أصبح الطريق مفتوحاً أمامهم إلى مصر التي جاء دورها،حينما وصلت طلائعهم إلى فلسطين، يتقدمهم «كتبغا فويزبك» بالمغاني والطبول، وقد وصل إلى قطز خطاب هولاكو يطلب إليه وإلى المصريين تسليم البلاد فوراً ومن دون قيود، ومما جاء في هذا الخطاب: «قد سمعتم أننا قوم فتحنا البلاد، وطهَّرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلَّب… فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، فما من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص… يا أهل مصر، أنتم قوم ضعاف، فصونوا دماءكم مني ولا تقاتلوني أبداً فتندموا، فنحن ما نرحم من بكى ولا نَرِقُّ لمن شكى…» إلى غير ذلك من الألفاظ التي لا يسع أهل النخوة والحمية أن يقبلوها.
كان قطز يدرك تماماً أن المغول لا يأبهون لعهد قطعوه، فقد فتحت لهم بغداد أبوابها بموجب أمان كتبوه على أنفسهم، فقتلوا خليفتها، ودمروا قائمها، وسَبَوا نساءها، وسرقوا أموالها، وما فعلوه في بغداد فعلوه في حلب وحماة وباقي مدن الشام، فهم يمنحون أماناً لا أمان فيه.
جمع قطز أمراء جيشه ومن قدم إليه من الشام لائذاً ومنضماً وأطلعهم على ما جاء بكتاب هولاكو مذكراً بغدرهم وعدم وفائهم، ومع ذلك أشار عليه بعضهم بالموادعة لاعتقادهم بصعوبة التغلب عليهم وهم الذين هزموا جند العراق والشام، ولاسيما إذا انضم إليهم الصليبيون في المعركة، واقترح آخرون التوجه إلى شمالي إفريقيا طلباً للنجاة، ولكن قطز لم يجبن إزاء هذا التهديد، وحسم موقفه حينما وقف بين أمراء جنده مذكِّراً بما للمسلمين في أعناقهم من حق «وأن من أكل من بيت مال المسلمين وجب عليه الدفاع عن حرمتهم وحرمة أرضهم». أحيا هذا الموقف من جانب قطز ميت الآمال في نفوس أصحابه، وقوَّى روحهم المعنوية وحفزهم على القتال من أجل تحقيق النصر، فبايعوه على الجهاد «فإن ظفروا فهو المراد، وإلا فلن يكونوا ملومين»، وأمر لتوه بقتل الرسل الذين جاؤوا إليه بخطاب هولاكو في إشارة واضحة إلى المواجهة المحتمة، وأمر بقرع الطبول إيذاناً بالحشد والتعبئة وإعلان الجهاد.
حينما علم كتبغا قائد المغول في فلسطين بموقف قطز أرسل طليعة جيشه بقيادة أحد قادته (الأمير بايدرا) لاستطلاع الأحوال، ولتمهيد الطريق أمام الجيش، فوصلت إلى غزة، وبلغه موقف المصريين الرافض وما يقوم به المماليك بقيادة أميرهم قطز، فأعلم قائده (كتبغا) بذلك وأن ثمة فرقة من جيش مصر على رأسها بيبرس العلائي البندقداري قد اتجهت إلى فلسطين لملاقاته، فأوعز كتبغا إلى بايدرا أن يتشبث في موقعه ويدافع عنه، أو على الأقل أن يشاغل المصريين بانتظار قدومه إليه. في هذه الأثناء كان بيبرس قد علم بوصول بايدرا إلى غزة، فلم يدع الفرصة تفوته، فباغتهم على حين غرة، فقتل بايدرا ومعظم من كان معه من الجنود، وغنم الأموال والعتاد الذي كان بحوزتهم، وأصبح الطريق مأموناً أمام الجيش المصري. ومع أن هذه المعركة لم تسفر عن نتائج ملموسة من حيث أهميتها العسكرية غير أنها الأولى التي انتصف فيها العرب المسلمون لأنفسهم من المغول، وأيقظت في نفوسهم حب الجهاد والدفاع عن كرامة الأمة، وأعادت الثقة بنفس الجنود على النحو الذي سيكون له أبلغ الأثر في نتائج المعركة القادمة.
مجريات المعركة
عبأ قطز قواته، وخرج على رأسها من القاهرة وبصحبته عدد من ملوك وأمراء بني أيوب أصحاب الشام، يتقدمهم صاحب حماة المنصور وأخوه الأفضل علي إلى الرَّيْدانية، ومنها اتجه الجميع إلى الصالحية ثم الفرما فالعريش، حيث التقى بأمير مقدمته بيبرس، فخرج إليها بعض أمراء الصليبين المسيطرين على بعض المواقع الساحلية في بلاد الشام وعرضوا عليهم المساعدة لمواجهة المغول، وكان الصليبيون على ما يبدو قد تأذَّوا منهم في أثناء اجتياحهم صيدا وغيرها من الحصون، غير أن قطز كان يخشى غدر الصليبيين من جهته واستغلالهم للموقف فينقلبوا عليه، وخلص إلى الاتفاق معهم على أن يكونوا على الحياد وهددهم من مغبة الغدر، وبعد أن توثق من تحييدهم اتجه نحو عكا غاذاً في السير نحو الجنوب ليوهم المغول أنه في طريقه إلى دمشق لاستردادها، وعند وصوله إلى موقع عين جالوت اتفق وبيبرسَ وكبار قادته على أن يكون قسم من الجيش بإمرة بيبرس، ومهمته التقدم لملاقاة المغول، وقسمٌ آخرُ تمَّ توزيعه وإخفاؤه ضمن مجموعات بين الأحراش والغابات المحيطة بعين جالوت، تكون مهمته الإطباق على العدو بعد استدراجه إلى المكان المحدد، وفي يوم الجمعة 25 رمضان 658هـ/3/أيلول/سبتمبر1260م جرى اللقاء التاريخي بين العرب المسلمين والمغول واندفع كتبغا «كأنه بحر من اللهيب»، فتأخر قطز بميمنة الجيش متظاهراً بالهزيمة، ثم تبعته الميسرة، فأطبق الجيش المختبئ على المغول من الخلف والمجنبتين، ولقي كتبغا مصرعه ودارت الدائرة على معظم جيشه، وأسر ولده وفارقه الملك الأشرف موسى صاحب حمص طالباً الأمان لنفسه من قطز، وأرسلت رأس كتبغا إلى القاهرة وعُلِّقت على باب زويلة، في حين تابع بيبرس مطاردة الهاربين من المغول وتحرير ما كان بأيديهم من أسرى المسلمين، وأعاد ما نهبوه من أموال ونفائس الشام والعراق، وتشير بعض المصادر إلى أنهم تخلوا حتى عن أولادهم فتخطفهم الناس. وتابع قطز فلولهم إلى نواحي بيسان حينما بلغه أنهم قاموا بإعادة تنظيم صفوفهم مرة ثانية، وحمل عليهم حملة صادقة بعد أن امتلأت نفسه بالإيمان والإخلاص وهو ينادي «وا إسلاماه»، فمزَّق شملهم، ولاذ من بقي منهم بالفرار نحو دمشق طالباً النجاة لنفسه، وتابع بيبرس فلولهم إلى خارج بلاد الشام، في حين دخل المظفر قطز دمشق مزهواً بنصره، فاستقبله أهلها بالحفاوة والتكريم، ونزل في قلعتها تؤمه وفود المهنئين.
اللافت هنا أن قطز ومن كان معه من المماليك هم من الأتراك المجلوبين من بلاد القفجاق والقوقاز، ومن ثمَّ هم والتتار من جنس واحد، وتجمعهم صفات مشتركة، فكان من غريب المصادفة أن تكون هزيمة المغول على يد واحد من أبناء جنسهم، وإلى ذلك أشار بعض الشعراء قائلاً:
غلب التتار على البلاد فجاءهم
من مصر تركيٌّ يجود بنفسِهِ
في الشام أهلكهم وبدَّد شملَهم
ولكل شيء آفةٌ من جنسِه
نتائج المعركة
عد المؤرخون معركة عين جالوت من المعارك الفاصلة في التاريخ، بالنظر إلى النتائج التي أسفرت عنها، فهي من جهة أعادت الوحدة إلى بلاد الشام بعد أن كانت قد تمزقت إلى دويلات على إثر وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكوَّنَتْ في مصر البداية الأولى لقيام دولة المماليك التي أصبحت ولمدة ثلاثة قرون تقريباً مركز الخلافة الإسلامية، ومع أنها لم تكن تفرض سيطرتها على كل الأنساق التي تفرعت عن أصل الدولة الإسلامية، غير أنها مثَّلت في قرنين على الأقل القوة العسكرية الأولى التي حمت العرب والمسلمين من المخاطر التي كانوا يواجهونها في المشرق العربي. وأسهمت عين جالوت بطريقة أو بأخرى في قبول المماليك في الوسط العربي كأمراء وسلاطين، بعد أن كان يُنظَر إليهم أنهم من طبقة العبيد.
من جهة أخرى أعادت عين جالوت الثقة بالنفس، وأكدت قدرة العرب المسلمين على درء المخاطر، وأسقطت كل الحسابات التي كانت تراهن على عجز المقاتل العربي عن مواجهة التفوق المغولي، ممَّا مهد إلى تصفية الوجود الصليبي واقتلاعه من قلب الوطن العربي لاحقا، ونتج من موقعة عين جالوت أيضاً أن انهارت معنويات المغول حتى على المستوى الداخلي، فقد ألقت هزيمتهم هذه بظلالها على مصير حملاتهم الأخرى، وأنقذت أوربا لتراجعهم عبر آسيا الصغرى التي لم يعودوا إليها إلا في أثناء هجمتهم الثانية بقيادة تيمورلنك أواخر القرن الثامن الهجري.
على أن من أهم النتائج التي تمخضت عنها هزيمة المغول في عين جالوت هو منح مصر مركز الريادة في العالم الإسلامي، فهي من جهة حالت دون وصول المغول إلى شمالي إفريقيا الإسلامي، وأنقذت ما فيه من المراكز العلمية من عبث المغول، ومن جهة ثانية تابعت القاهرة مسيرتها في بناء الحضارة العربية والإسلامية، فكانت موئلاً للعلماء والمفكرين طوال العهد المملوكي، وتخليداً لهذا النصر العظيم ذكرت بعض المصادر أن الظاهر بيبرس أقام نصباً تذكارياً في المكان الذي جرت فيه أحداث المعركة سماه «مشهد النصر» احتفاءً بهذا اليوم المجيد، وقد يكون من وجهة نظر علماء الآثار أول نصب تذكاري من نوعه في تاريخ الدولة الإسلامية.
مقتل السلطان قطز
بعد دخول السلطان المظفر قطز إلى دمشق؛ أعاد تنظيم البلاد وجعل عليها النواب والحكام، وسمح لبعض أمراء البيت الأيوبي الذين انضموا إليه بالعودة إلى مواقعهم، ولكن بعد الاعتراف به سلطاناً عليهم، وكانوا يدفعون إليه الأموال، ويتوجهون له بالدعاء على المنابر، وطلب إلى بيبرس أن يلاحق فلول المغول إلى ما وراء جبال طوروس، وتمكن هذا من أداء مهمته بنجاح.
ويبدو أن ثمة إحن وعداوات بين بيبرس وقطز يعود تاريخها إلى أيام عز الدين أيبك، وجاءت أحداث عين جالوت لتنكأ بنتائجها جراح تلك العداوة من جديد حينما شعر بيبرس أنه غُمِطَ حقاً كان يرجو الحصول عليه بوعد من قطز، وكان هذا الأخير قد أقر بإعطائه حلب تقديراً لجهوده، لكن قطز تنكر لوعوده، وولَّى على حلب الأمير علاء الدين بن بدر الدين لؤلؤ، متجاهلاً موقع بيبرس الذي كان ينظر إليه من قِبَلِ المماليك على أنه صانع النصر الحقيقي في عين جالوت، فتغير موقفه من قطز وأخذ يخطط لاغتياله، ومع أن قطز بلغه ما يخطط له بيبرس غير أنه فاته أن يحتاط لنفسه، فاغتاله بمكيدة مع رهط من مماليكه، حينما أوهمه بتقبيل يديه لإنعاماته عليه بموقع الصالحية في ذي القعدة 658 هـ/أواخر تشرين أول/أكتوبر 1260م، في حين كانت فيه القاهرة تستعد لاستقباله، ونودي بالظاهر بيبرس سلطاناً جديداً على البلاد.
مصطفى الخطيب