حلاج (حسين منصور)
Al-Hallaj (al-Hussein ibn al-Mansur-) - Al-Hallaj (al-Hussein ibn al-Mansur-)
الحلاّج (الحسين بن منصور -)
(242-309هـ/858-922م)
أبو المغيث الحسين بن منصور البيضاوي، عَلَم بارز في التصوف وعلم الكلام الإسلاميين. شَغَل مريديه في عصره وبعده. وشَغَلَ سائر الناس والباحثين حياً مفكراً أو مصلوباً معضِلاً.
ولد في بيضاء من أعمال فارس الجنوبية بناحية شيراز. ولعل أباه كان حلاّجاَ. أما هو فغلب عليه اسم الحلاّج لكلامه على أسرار الناس وقيل الشيخ حلاّج الأسرار. حفظ القرآن حتى الثانية عشرة من عمره، وسافر إلى الأهواز في السادسة عشرة حيث تعلم التصوف عن سهل بن عبد الله التستري[ر] وخدمه عامين. ثم قصد البصرة في العشرين من عمره، وتلقى الخدمة من يد عمرو بن عثمان المكي.
خرج إلى مكة، وجاور فيها سنة وكان يأخذ نفسه بالمجاهدة الشديدة معتكفاً في حالة صوم وصلاة دائمين اقتداء بمريم، ورجع بعدها إلى الأهواز مع جماعة من فقراء الصوفية وبدأ دعوته حتى «قبله الخاص والعام» كما يقول الخطيب البغدادي[ر] مما أثار حفيظة الصوفية فألبّوا عليه العامّة واتهموه بالشعوذة وادعاء الكرامات وكان لا يفتأ يستعمل مصطلحات اعتزالية مثل العدل والشكر، وسواها غير مبالٍ بالتكتم والإسرار.
كثر مريدوه. وصحبه في الحج مرة ثانية، أربعمئة من تلاميذه ومالبث خصومه أن اتهموه بأعمال سحرية وبالاتصال بالجان. ولما عاد إلى خوزستان خلع اللباس الصوفي وقام برحلة طويلة إلى الهند، وخراسان وبلاد ما وراء النهر وتركستان مع القوافل الأهوازية.
حجّ أبو مغيث حجة ثالثة وأخيرة سنة (290هـ/902م) وكان يرتدي المرقعة والفوطة ويروى أنه وقف بعرفة صائحاً: لبيك! وسائلاً الله أن يزيده فقراً ويجعل الناس تكرهه وتنبذه حتى يكون الله وحده هو الذي يُشعر نفسه بنفسه من خلال شفتيه.
عاد إلى بغداد. وأقام في بيته كعبة مصغّرة. وكان يصلي في الليل عند القبور، مثل قبر ابن حنبل. وفي النهار ينطق بأقوال غريبة، بشطحات، كما فعل في جامع المنصور حين أهاب بمن حوله: «اعلموا أن الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني.. اقتلوني تؤجروا وأسترح.. ليس في الدنيا للمسلمين شغل أهم من قتلي». أو قوله: «على دين الصليب يكون موتي...» وقد سئل عن المعنى فأجاب: «أن تقتل هذه الملعونة، وأشار إلى نفسه».
أهاجت تعابير الحلاج «المتطرفة» أكثر ما أهاجت، غضب القاضي الظاهري محمد بن أبي داود[ر] لادعاء الحلاّج الاتحاد الصوفي بالله وطلب إلى المحكمة إدانته وقتله.
وعارض ذلك القاضي الشافعي ابن سُريج[ر] وكان مما نُسب إليه قوله أيضاً في جامع المنصور: «أنا الحق!» كما أُخذ عليه موقفه من محاولات الإصلاح السنيّة عام (296/908) التي أقامت خلافة «حنبلية» دامت يوماً واحداً لابن المعتز فأخفقت وآلت الوزارة إلى الشيعي ابن الفرات الذي أمر بالقبض على الحلاّج وعلى أتباعه، ففر ونجا مع أحدهم، هو الكرنباني، وأُسر اثنان آخران، وظلّ الحلاّج مختفياً في مدينة سوس بالأهواز ثلاث سنوات إلى أن اعتقل وجيء به إلى بغداد حيث استمرت محاكمته ما يقرب من تسع سنوات.
شملت وزارة ابن الفرات في عضويتها ابن عمه حّمد القنائي الذي كان حلاجياً صريحاً، فعمل على إطلاق سراح تلاميذ الحلاج بالاستناد إلى فتوى ابن سريج. وظفر خصوم الحلاج بعرضه حياً مصلوباً ثلاثة أيام (301/913) لاتهامه بأنه «داعية قرمطي». وفي نهاية سنة 303هـ/915م شفى الحلاج الخليفة المقتدر من أزمة حمى. وسُمح له بالمثول في حضرته وسُجن في دار السلطان، فوعظ المسجونين، وفاز باسترضاء والدة الخليفة، وأتيحت له فرصة كتابة مؤلفاته الأخيرة مثل «طواسين الأزل» و«المعراج» وفي أولهما ردّ على الشيعي المتطرف الشلمغاني ذي التأثير الكبير في استئناف المحاكمة (308-309هـ/921-922م) إلى أن كانت جلسة الحكم فنطق بالإدانة القاضي أبو عمر بن يوسف قائلاً: «يا حلال الدم».
أٌحضر الحلاج أمام جمع غفير في باب خراسان وضرب ألف سوط، وقطعت يداه ورجلاه، وصُلب وهو لا يزال حياً، فكانت الفرصة لا تزال قائمة عند أصدقائه وأعدائه لاستجوابه. ولم يأت أمر الخليفة بالإجهاز عليه إلا في المساء، فأُجل الإعدام إلى صبيحة الغد، وإذ ذاك دُعي الشهود الحاضرون إلى أن يصيحوا قائلين: «نعم، اقتله، ففي قتله صلاح المسلمين، ودمه في رقابنا». ويروى أنهم سمعوا آخر كلماته: «إلهي إذا توددت إلى من يؤذيك، فكيف لم تتودد إلى من يُؤذى فيك؟». ثم قال: «حسب الواحد إفراد الواحد له». سقطت رأس الحلاج. وصُب على جذعه الزيت وأُحرق بالنار. وأُلقي برماده من أعلى المئذنة في دجلة.
آثاره ومذهبه
ذكر النديم أن للحلاج نيفاً وسبعة وأربعين مصنفاً منها كتاب الأحرف المحدثة والأزلية، والأسماء الكلية، وكتاب الأصول والفروع، وكتاب سر العالم والمبعوث وكتاب العدل والتوحيد، وقد اشتهر المستشرق لوي ماسينيون بدراسة فكر وحياة الحلاج وتأويلها وبطباعة جل آثاره ومن أهم ما نشر منها «كتاب الطواسين» (1913) و«أخبار الحلاّج» (1922) و«ديوان الحلاج» (1931) إلى جانب الدراسة القيمة بعنوان «استشهاد الحلاج» (1931).
حاول الحلاج مزج النظر الكلامي بالحب الصوفي. وغلب لديه الحب فعاش آراءه الصوفية وشطحاته، حتى أنه قتل بها في جو معضل من تفاوت الآراء بين من اعتقدوا بصلاحه بل بألوهيته وكان منهم فرقة الحلاّجية، وبين خصوم ولاسيما من القضاة وأولي النفوذ الذين انتهوا إلى إدانته بذريعة مراسلاته «السرية» مع القرامطة أعداء الخلافة والدولة، ولإنكاره مثلهم، فريضة الحج خاصة، وادعائه الاتصال بالله حتى قال: «أنا الحق» ولم يتردد ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» بنقده واتهامه بالكذب فهو يمد يده إلى الهواء ويطرح الذهب في أيدي الناس ويُحضر فاكهة الصيف في الشتاء، وبالعكس..
الحلاّج ولي في رأي فريق، وكافر في نظر آخرين. الأولون يرون أنه اضطهد لبوحه بسرّ الاتحاد بين ذاته والذات الإلهية، ومنهم الشاعران الفارسيان الشهيران جلال الدين الرومي الذي أثنى عليه، وفريد الدين العطار الذي لقبه بشهيد الحق. والآخرون يفنّدون قوله المشُاكل للنظرية المسيحية بصدد الناسوت واللاهوت.
ومن قوله بما ينمّ عن الحلول:
مُزِجَتْ روحك في روحي كما
تمزج الخمر في الماء الزلال
فإذا مسّك شيء مسّني
فإذا أنت أنا في كل حال
ثم قوله:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
ومن صلة الناسوت باللاهوت، مزجاً أو حلولاً، يخلص الحلاّج إلى حقيقة الصورة الإنسانية المخلوقة عامة وإلى صورة النور الأزلي القديم الخاصة بالرسول، فهي أزلية من جهة، ومحدودة في شخصه من جهة أخرى. وإنما النور المحمدي سابق في الوجود على كل كائن موجود، والأديان التي جاء بها الأنبياء واحدة، وكلها أسماء متعددة لمسمى واحد، واختلافها ظاهري يدل عبر وحـدة الأديـان على أنـها جميعها الله.
عادل العوا
Al-Hallaj (al-Hussein ibn al-Mansur-) - Al-Hallaj (al-Hussein ibn al-Mansur-)
الحلاّج (الحسين بن منصور -)
(242-309هـ/858-922م)
أبو المغيث الحسين بن منصور البيضاوي، عَلَم بارز في التصوف وعلم الكلام الإسلاميين. شَغَل مريديه في عصره وبعده. وشَغَلَ سائر الناس والباحثين حياً مفكراً أو مصلوباً معضِلاً.
ولد في بيضاء من أعمال فارس الجنوبية بناحية شيراز. ولعل أباه كان حلاّجاَ. أما هو فغلب عليه اسم الحلاّج لكلامه على أسرار الناس وقيل الشيخ حلاّج الأسرار. حفظ القرآن حتى الثانية عشرة من عمره، وسافر إلى الأهواز في السادسة عشرة حيث تعلم التصوف عن سهل بن عبد الله التستري[ر] وخدمه عامين. ثم قصد البصرة في العشرين من عمره، وتلقى الخدمة من يد عمرو بن عثمان المكي.
خرج إلى مكة، وجاور فيها سنة وكان يأخذ نفسه بالمجاهدة الشديدة معتكفاً في حالة صوم وصلاة دائمين اقتداء بمريم، ورجع بعدها إلى الأهواز مع جماعة من فقراء الصوفية وبدأ دعوته حتى «قبله الخاص والعام» كما يقول الخطيب البغدادي[ر] مما أثار حفيظة الصوفية فألبّوا عليه العامّة واتهموه بالشعوذة وادعاء الكرامات وكان لا يفتأ يستعمل مصطلحات اعتزالية مثل العدل والشكر، وسواها غير مبالٍ بالتكتم والإسرار.
كثر مريدوه. وصحبه في الحج مرة ثانية، أربعمئة من تلاميذه ومالبث خصومه أن اتهموه بأعمال سحرية وبالاتصال بالجان. ولما عاد إلى خوزستان خلع اللباس الصوفي وقام برحلة طويلة إلى الهند، وخراسان وبلاد ما وراء النهر وتركستان مع القوافل الأهوازية.
حجّ أبو مغيث حجة ثالثة وأخيرة سنة (290هـ/902م) وكان يرتدي المرقعة والفوطة ويروى أنه وقف بعرفة صائحاً: لبيك! وسائلاً الله أن يزيده فقراً ويجعل الناس تكرهه وتنبذه حتى يكون الله وحده هو الذي يُشعر نفسه بنفسه من خلال شفتيه.
عاد إلى بغداد. وأقام في بيته كعبة مصغّرة. وكان يصلي في الليل عند القبور، مثل قبر ابن حنبل. وفي النهار ينطق بأقوال غريبة، بشطحات، كما فعل في جامع المنصور حين أهاب بمن حوله: «اعلموا أن الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني.. اقتلوني تؤجروا وأسترح.. ليس في الدنيا للمسلمين شغل أهم من قتلي». أو قوله: «على دين الصليب يكون موتي...» وقد سئل عن المعنى فأجاب: «أن تقتل هذه الملعونة، وأشار إلى نفسه».
أهاجت تعابير الحلاج «المتطرفة» أكثر ما أهاجت، غضب القاضي الظاهري محمد بن أبي داود[ر] لادعاء الحلاّج الاتحاد الصوفي بالله وطلب إلى المحكمة إدانته وقتله.
وعارض ذلك القاضي الشافعي ابن سُريج[ر] وكان مما نُسب إليه قوله أيضاً في جامع المنصور: «أنا الحق!» كما أُخذ عليه موقفه من محاولات الإصلاح السنيّة عام (296/908) التي أقامت خلافة «حنبلية» دامت يوماً واحداً لابن المعتز فأخفقت وآلت الوزارة إلى الشيعي ابن الفرات الذي أمر بالقبض على الحلاّج وعلى أتباعه، ففر ونجا مع أحدهم، هو الكرنباني، وأُسر اثنان آخران، وظلّ الحلاّج مختفياً في مدينة سوس بالأهواز ثلاث سنوات إلى أن اعتقل وجيء به إلى بغداد حيث استمرت محاكمته ما يقرب من تسع سنوات.
شملت وزارة ابن الفرات في عضويتها ابن عمه حّمد القنائي الذي كان حلاجياً صريحاً، فعمل على إطلاق سراح تلاميذ الحلاج بالاستناد إلى فتوى ابن سريج. وظفر خصوم الحلاج بعرضه حياً مصلوباً ثلاثة أيام (301/913) لاتهامه بأنه «داعية قرمطي». وفي نهاية سنة 303هـ/915م شفى الحلاج الخليفة المقتدر من أزمة حمى. وسُمح له بالمثول في حضرته وسُجن في دار السلطان، فوعظ المسجونين، وفاز باسترضاء والدة الخليفة، وأتيحت له فرصة كتابة مؤلفاته الأخيرة مثل «طواسين الأزل» و«المعراج» وفي أولهما ردّ على الشيعي المتطرف الشلمغاني ذي التأثير الكبير في استئناف المحاكمة (308-309هـ/921-922م) إلى أن كانت جلسة الحكم فنطق بالإدانة القاضي أبو عمر بن يوسف قائلاً: «يا حلال الدم».
أٌحضر الحلاج أمام جمع غفير في باب خراسان وضرب ألف سوط، وقطعت يداه ورجلاه، وصُلب وهو لا يزال حياً، فكانت الفرصة لا تزال قائمة عند أصدقائه وأعدائه لاستجوابه. ولم يأت أمر الخليفة بالإجهاز عليه إلا في المساء، فأُجل الإعدام إلى صبيحة الغد، وإذ ذاك دُعي الشهود الحاضرون إلى أن يصيحوا قائلين: «نعم، اقتله، ففي قتله صلاح المسلمين، ودمه في رقابنا». ويروى أنهم سمعوا آخر كلماته: «إلهي إذا توددت إلى من يؤذيك، فكيف لم تتودد إلى من يُؤذى فيك؟». ثم قال: «حسب الواحد إفراد الواحد له». سقطت رأس الحلاج. وصُب على جذعه الزيت وأُحرق بالنار. وأُلقي برماده من أعلى المئذنة في دجلة.
آثاره ومذهبه
ذكر النديم أن للحلاج نيفاً وسبعة وأربعين مصنفاً منها كتاب الأحرف المحدثة والأزلية، والأسماء الكلية، وكتاب الأصول والفروع، وكتاب سر العالم والمبعوث وكتاب العدل والتوحيد، وقد اشتهر المستشرق لوي ماسينيون بدراسة فكر وحياة الحلاج وتأويلها وبطباعة جل آثاره ومن أهم ما نشر منها «كتاب الطواسين» (1913) و«أخبار الحلاّج» (1922) و«ديوان الحلاج» (1931) إلى جانب الدراسة القيمة بعنوان «استشهاد الحلاج» (1931).
حاول الحلاج مزج النظر الكلامي بالحب الصوفي. وغلب لديه الحب فعاش آراءه الصوفية وشطحاته، حتى أنه قتل بها في جو معضل من تفاوت الآراء بين من اعتقدوا بصلاحه بل بألوهيته وكان منهم فرقة الحلاّجية، وبين خصوم ولاسيما من القضاة وأولي النفوذ الذين انتهوا إلى إدانته بذريعة مراسلاته «السرية» مع القرامطة أعداء الخلافة والدولة، ولإنكاره مثلهم، فريضة الحج خاصة، وادعائه الاتصال بالله حتى قال: «أنا الحق» ولم يتردد ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» بنقده واتهامه بالكذب فهو يمد يده إلى الهواء ويطرح الذهب في أيدي الناس ويُحضر فاكهة الصيف في الشتاء، وبالعكس..
الحلاّج ولي في رأي فريق، وكافر في نظر آخرين. الأولون يرون أنه اضطهد لبوحه بسرّ الاتحاد بين ذاته والذات الإلهية، ومنهم الشاعران الفارسيان الشهيران جلال الدين الرومي الذي أثنى عليه، وفريد الدين العطار الذي لقبه بشهيد الحق. والآخرون يفنّدون قوله المشُاكل للنظرية المسيحية بصدد الناسوت واللاهوت.
ومن قوله بما ينمّ عن الحلول:
مُزِجَتْ روحك في روحي كما
تمزج الخمر في الماء الزلال
فإذا مسّك شيء مسّني
فإذا أنت أنا في كل حال
ثم قوله:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
ومن صلة الناسوت باللاهوت، مزجاً أو حلولاً، يخلص الحلاّج إلى حقيقة الصورة الإنسانية المخلوقة عامة وإلى صورة النور الأزلي القديم الخاصة بالرسول، فهي أزلية من جهة، ومحدودة في شخصه من جهة أخرى. وإنما النور المحمدي سابق في الوجود على كل كائن موجود، والأديان التي جاء بها الأنبياء واحدة، وكلها أسماء متعددة لمسمى واحد، واختلافها ظاهري يدل عبر وحـدة الأديـان على أنـها جميعها الله.
عادل العوا