قاد اكتشاف أكثر عناصر الجدول الدوري استقرارًا إلى الأضواء المتوهجة التي تعجّ بها المدن الضخمة. إن ممانعة الغازات النبيلة من تكوين الروابط الكيميائية هي المفتاح لصنع أضواء النيون التقليدية.
اكتُشفت الغازات النبيلة في القرن التاسع عشر باعتبارها أكثر المجموعات استقرارًا ضمن عناصر الجدول الدوري، وتشمل ستة غازات وهي: الهيليوم، والنيون، والآرغون، والكريبتون، والزينون، والرادون.
تمتلك هذه الغازات نطاقًا واسعًا من التطبيقات، وعندما اكتشفت لأول مرة، شكلت خصائصها الغريبة لغزًا لدى مكتشفيها. بدت تلك العناصر النبيلة خالية من أي تفاعلات كيميائية لما تحمله من استقرار، ولكن من خلال فهم ذلك الاستقرار؛ اكتشف الفيزيائيون مفتاحًا نحو الترابط الكيميائي.
وأضاف ديميتري مينديليف (Dmitri Mendeleev) الغازات النبيلة إلى الجدول الدوري عام 1902 عندما رتب العناصر بصورة مجدولة اعتمادًا على وزنها الذري.
وتمكن مينديليف من ملاحظة أنماط متكررة في خصائصها، إذ ظهرت الغازات النبيلة بصورة اعتيادية عند الموقع الثامن بالنسبة إلى العناصر الأخف وزنًا، وعانى الفيزيائيون في إيجاد نموذجٍ يفسر هذه المشاهدات الغريبة، فما هي الأهمية التي حملها الرقم ثمانية لهذه الغازات؟
في عام 1912، أتى الفيزيائي الدنماركي نيلز بور (Niels Bohr) بتفسيرٍ جديد غيّر من فهمنا للذرة، وكان العالم آنذاك شابًا صغيرًا وأكمل للتو دراسة الدكتوراه في الدنمارك، ثم انتقل إلى إنجلترا للعمل مع الفيزيائي الشهير إرنست رذرفورد (Ernest Rutherford) الذي اقترح لتوّه أن الإلكترونات تدور حول نواة الذرة، تمامًا كالكواكب.
وبرغم عدم تناسق النموذج آنذاك مع البيانات التجريبية، فإن نيلز بور أدرك حينها أن نموذج رذرفورد كان على المسار الصحيح.
لذلك أضاف بور إلى دوران الإلكترون حول النواة الموجبة إضافة بسيطة، وهي أن تلك الإلكترونات لا تستطيع التواجد إلا على مسافة محددة من النواة (ضمن مدار).
كما اقترح بور بأن الإلكترونات قد تأخذ حيزًا من الطاقة يحيط بنواة الذرة كقشور البصل، لكنها لا تستطيع التواجد بين حيزين، ولا ريب أن نموذج بور حقق إنجازًا، وكان خطوة مفتاحية نحو تطوير ميكانيكا الكم، وسمي ذلك الحيز بالمدار.
وبالاستعانة بنموذج بور، تمكن الفيزيائي جيلبرت لويس (Gilbert Lewis) من الإتيان بتفسير لاستقرار الغازات النبيلة غير المسبوق، فوفقًا لجيلبرت، فإن كل مدار إلكترونات حول الذرة يحصل على الاستقرار الأكبر عندما يمتلك ثمانية إلكترونات باستثناء المدار الأول، الذي يصل الاستقرار باحتوائه على اثنين فقط.
فضلًا عن ذلك، ستقطع الذرات شوطًا كبيرًا لضمان حصول مدارها الخارجي على ثمانية إلكترونات، وعندما لا يكتمل نصاب ذلك المدار، ستحاول الذرات ملئه بالاستعارة، أو التبرع، أو حتى المشاركة مع ذراتٍ أخرى، أي تكوين روابط كيميائية لتشكل تلك العناصر في المحصلة مركبات كيميائية.
ونتيجة لامتلاك المدار الخارجي للغازات النبيلة ثمانية إلكترونات (باستثناء الهيليوم؛ الذي يمتلك اثنان فقط) فإنها تبدي مقاومة عنيفة تجاه تكوين الروابط.
ولا يعني هذا بأن تكوين روابط كيميائية لدى الغازات النبيلة أمرًا مستحيلًا: إذ يتفاعل الزينون والكربتون مع غاز الفلورين الذي يعتبر مؤكسدًا قويًا لتكوين مركباتٍ كثنائي فلوريد الزينون.
واعتقد قديمًا بعدم وجود مركبات مستقرة تتكون من الهيليوم والنيون، إلى أن أبلغ فريقٌ من العلماء عام 2017 بأن الهيليوم قد يتفاعل مع الصوديوم تحت ظروف ضغط متطرفة لتكوين مركب صيغته «Na2He».
تأثير استقرار الغازات النبيلة على استخداماتها
وبرغم تلك التفاعلات، فإن المحرّك الرئيس للتطبيقات العملية للغازات النبيلة هو استقرارها، إذ يستخدم الآرغون في اللحام، ويستخدم الهيليوم كمبردٍ في أجهزة الرنين المغناطيسي والموصلات الفائقة، ولأن الهيليوم لا يسبب احتراقًا، فمن الممكن استخدامه في طفو مناطيد المراقبة دون المجازفة باحتراقها وسقوطها.
وتكمن أكثر التطبيقات الغازات النبيلة شيوعًا في مصابيح التفريغ الغازي، كأضواء النيون، التي تعمل من خلال تدفق شحنات كهربائية عالية الفولتية عبر أنبوب غاز نيون منخفض الضغط.
وتحفز الشحنات الكهربائية الإلكترونات في ذرات النيون ما يسبب قفز الشحنات من مدارٍ مستقر إلى آخر أقل استقرارًا.
فتخترق نتيجة لذلك قاعدة لويس للثمانية إلكترونات في المدار الخارجي، ثم يستريح عندها الإلكترون المحفز في مداره المفضل، وبعودته إلى مدار أقل، فإنها تطلق طاقة بصورة فوتونات.
ويعتمد الطول الموجي للضوء على الفرق في الطاقة بين المدارات العليا والمدارات الدنيا؛ ما يعني أن كل عنصر يمنح بعض الأطوال الموجية الخاصة به عندما تحفز إلكتروناته بسبب اختلاف المدارات التي تنتقل بينها الإلكترونات في كل عنصر.
وهذا هو سبب إشعاع مصابيح النيون بالأضواء البراقة حمراء اللون وبرتقالية اللون، ومصابيح الآرغون التي تشع أضواء أرجوانية زرقاء ومصابيح الزينون التي تشع أضواءً خضراء زرقاء.
وكل ذلك يتعلق بالإلكترونات المحفزة وقدرتها على الاستقرار في مدارٍ معين واستكمال مدارها الخارجي.
وفي المحصلة، فإننا نستطيع استنتاج كلًا من استقرار الغازات النبيلة ولمعان أضواء النيون المتوهجة اعتمادًا على قاعدة ميكانيكا الكم الشهيرة؛ أي قاعدة الثمانية لجيلبرت لويس.
اكتُشفت الغازات النبيلة في القرن التاسع عشر باعتبارها أكثر المجموعات استقرارًا ضمن عناصر الجدول الدوري، وتشمل ستة غازات وهي: الهيليوم، والنيون، والآرغون، والكريبتون، والزينون، والرادون.
تمتلك هذه الغازات نطاقًا واسعًا من التطبيقات، وعندما اكتشفت لأول مرة، شكلت خصائصها الغريبة لغزًا لدى مكتشفيها. بدت تلك العناصر النبيلة خالية من أي تفاعلات كيميائية لما تحمله من استقرار، ولكن من خلال فهم ذلك الاستقرار؛ اكتشف الفيزيائيون مفتاحًا نحو الترابط الكيميائي.
وأضاف ديميتري مينديليف (Dmitri Mendeleev) الغازات النبيلة إلى الجدول الدوري عام 1902 عندما رتب العناصر بصورة مجدولة اعتمادًا على وزنها الذري.
وتمكن مينديليف من ملاحظة أنماط متكررة في خصائصها، إذ ظهرت الغازات النبيلة بصورة اعتيادية عند الموقع الثامن بالنسبة إلى العناصر الأخف وزنًا، وعانى الفيزيائيون في إيجاد نموذجٍ يفسر هذه المشاهدات الغريبة، فما هي الأهمية التي حملها الرقم ثمانية لهذه الغازات؟
في عام 1912، أتى الفيزيائي الدنماركي نيلز بور (Niels Bohr) بتفسيرٍ جديد غيّر من فهمنا للذرة، وكان العالم آنذاك شابًا صغيرًا وأكمل للتو دراسة الدكتوراه في الدنمارك، ثم انتقل إلى إنجلترا للعمل مع الفيزيائي الشهير إرنست رذرفورد (Ernest Rutherford) الذي اقترح لتوّه أن الإلكترونات تدور حول نواة الذرة، تمامًا كالكواكب.
وبرغم عدم تناسق النموذج آنذاك مع البيانات التجريبية، فإن نيلز بور أدرك حينها أن نموذج رذرفورد كان على المسار الصحيح.
لذلك أضاف بور إلى دوران الإلكترون حول النواة الموجبة إضافة بسيطة، وهي أن تلك الإلكترونات لا تستطيع التواجد إلا على مسافة محددة من النواة (ضمن مدار).
كما اقترح بور بأن الإلكترونات قد تأخذ حيزًا من الطاقة يحيط بنواة الذرة كقشور البصل، لكنها لا تستطيع التواجد بين حيزين، ولا ريب أن نموذج بور حقق إنجازًا، وكان خطوة مفتاحية نحو تطوير ميكانيكا الكم، وسمي ذلك الحيز بالمدار.
وبالاستعانة بنموذج بور، تمكن الفيزيائي جيلبرت لويس (Gilbert Lewis) من الإتيان بتفسير لاستقرار الغازات النبيلة غير المسبوق، فوفقًا لجيلبرت، فإن كل مدار إلكترونات حول الذرة يحصل على الاستقرار الأكبر عندما يمتلك ثمانية إلكترونات باستثناء المدار الأول، الذي يصل الاستقرار باحتوائه على اثنين فقط.
فضلًا عن ذلك، ستقطع الذرات شوطًا كبيرًا لضمان حصول مدارها الخارجي على ثمانية إلكترونات، وعندما لا يكتمل نصاب ذلك المدار، ستحاول الذرات ملئه بالاستعارة، أو التبرع، أو حتى المشاركة مع ذراتٍ أخرى، أي تكوين روابط كيميائية لتشكل تلك العناصر في المحصلة مركبات كيميائية.
ونتيجة لامتلاك المدار الخارجي للغازات النبيلة ثمانية إلكترونات (باستثناء الهيليوم؛ الذي يمتلك اثنان فقط) فإنها تبدي مقاومة عنيفة تجاه تكوين الروابط.
ولا يعني هذا بأن تكوين روابط كيميائية لدى الغازات النبيلة أمرًا مستحيلًا: إذ يتفاعل الزينون والكربتون مع غاز الفلورين الذي يعتبر مؤكسدًا قويًا لتكوين مركباتٍ كثنائي فلوريد الزينون.
واعتقد قديمًا بعدم وجود مركبات مستقرة تتكون من الهيليوم والنيون، إلى أن أبلغ فريقٌ من العلماء عام 2017 بأن الهيليوم قد يتفاعل مع الصوديوم تحت ظروف ضغط متطرفة لتكوين مركب صيغته «Na2He».
تأثير استقرار الغازات النبيلة على استخداماتها
وبرغم تلك التفاعلات، فإن المحرّك الرئيس للتطبيقات العملية للغازات النبيلة هو استقرارها، إذ يستخدم الآرغون في اللحام، ويستخدم الهيليوم كمبردٍ في أجهزة الرنين المغناطيسي والموصلات الفائقة، ولأن الهيليوم لا يسبب احتراقًا، فمن الممكن استخدامه في طفو مناطيد المراقبة دون المجازفة باحتراقها وسقوطها.
وتكمن أكثر التطبيقات الغازات النبيلة شيوعًا في مصابيح التفريغ الغازي، كأضواء النيون، التي تعمل من خلال تدفق شحنات كهربائية عالية الفولتية عبر أنبوب غاز نيون منخفض الضغط.
وتحفز الشحنات الكهربائية الإلكترونات في ذرات النيون ما يسبب قفز الشحنات من مدارٍ مستقر إلى آخر أقل استقرارًا.
فتخترق نتيجة لذلك قاعدة لويس للثمانية إلكترونات في المدار الخارجي، ثم يستريح عندها الإلكترون المحفز في مداره المفضل، وبعودته إلى مدار أقل، فإنها تطلق طاقة بصورة فوتونات.
ويعتمد الطول الموجي للضوء على الفرق في الطاقة بين المدارات العليا والمدارات الدنيا؛ ما يعني أن كل عنصر يمنح بعض الأطوال الموجية الخاصة به عندما تحفز إلكتروناته بسبب اختلاف المدارات التي تنتقل بينها الإلكترونات في كل عنصر.
وهذا هو سبب إشعاع مصابيح النيون بالأضواء البراقة حمراء اللون وبرتقالية اللون، ومصابيح الآرغون التي تشع أضواء أرجوانية زرقاء ومصابيح الزينون التي تشع أضواءً خضراء زرقاء.
وكل ذلك يتعلق بالإلكترونات المحفزة وقدرتها على الاستقرار في مدارٍ معين واستكمال مدارها الخارجي.
وفي المحصلة، فإننا نستطيع استنتاج كلًا من استقرار الغازات النبيلة ولمعان أضواء النيون المتوهجة اعتمادًا على قاعدة ميكانيكا الكم الشهيرة؛ أي قاعدة الثمانية لجيلبرت لويس.