إذا كنت تتذكر حصص الكيمياء في الثانوية، ستعلم أن الهيليوم غريب الأطوار حقًا.
هذا الغاز النبيل هو أقل العناصر تفاعليةً في الجدول الدوري، وبالنظر إلى غلافه الخارجي المكتمل، تقول الحكمة التقليدية أن الهيليوم ليس بإمكانه التفاعل مع الذرات الأخرى لتكوين مركبات مستقرة.
في حين أظهرت الغازات النبيلة الأخرى علامات على تكوين مركبات تحت الضغط الكبير، بقي الهيليوم مشكّلًا الاستثناء حتى الآن.
قام علماء بإعلان تكوينهم لما يبدو مركبًا مستقرًا للهيليوم-صوديوم، وذلك يتحدى أبسط فرضيات الكيمياء الحديثة.
إذ يقول إيفان بوبوف (Ivan Popov) من جامعة يوتاه، وأحد أعضاء فريق البحث: «تتغير الكيمياء عند تطبيق ضغطٍ عالٍ، وذلك يمكن أن يحصل داخل أرضنا أو على كوكبٍ آخر مثل زحل. لكن هذا الأمر يستدعي تغييرًا للكتب».
إذا ما أردت تذكيرًا لمعلوماتك حول الكيمياء، الهيليوم هو ثاني أكثر العناصر شيوعًا في الكون، وينتمي إلى مجموعة تضم ست عناصر تسمى بالغازات النبيلة ــ تسمى كذلك نظرًا لانطوائها الواضح الذي يمنعها من تكوين مركبات مع عناصر أخرى بشكلٍ سهل.
مع أنها حصلت على سمعتها “النبيلة”، أظهرت بعض هذه الغازات علامات على تفاعليتها تحت ظروف قاسية ــ يمكن تصنيف الغازات النبيلة في مجموعتين، الكريبتون والزينون والرادون كغازات تفاعلية نسبيًا، والأرغون والنيون والهيليوم التي تعتبر غير تفاعلية بشكلٍ كبير.
وجد الباحثون طرقًا لإقران الهيليوم مع عناصر أخرى في الماضي، لكن حتى الآن، لم تكن تلك النتائج دائمة.
من أكثر الأمثلة شيوعًا لتفاعل الهيليوم مع عناصر أخرى تشير إلى ” قوى فان درفال” ــ القوة الجذب أو التنافر التي لا تحتاج إلى رابطة تساهمية أو روابط أيونية من أجل التكوُّن.
من المعروف أن قوى فان درفال الضعيفة للغاية توجد بين الهيليوم و الذرات الأخرى، وتحت درجات حرارة منخفضة للغاية، بإمكان الهيليوم أن يكون جزيئات فان درفال ــ تجمعات من الذرات أو الجزيئات لها روابط ضعيفة للغاية ــ لكن لا يمكن أن يتم المحافظة عليها لمدة طويلة.
استقرار الهيليوم القوي يعود إلى الغلاف المغلق لتكوينه الإلكتروني ــ غلافه الخارجي كامل، مما يعني انعدام مساحة لكي يقترن بذرات أخرى عبر مشاركة الإلكترونات.
لكن ذلك يتناسب مع الظروف الثابتة التي نعرفها على سطح كوكب الأرض.
باعتباره واحدًا من أكثر العناصر شيوعًا في الكون، والمسؤول عن تكوين النجوم والكواكب الغازية العملاقة، قد يلعب الهيليوم أدوارًا مختلفة تحت قواعد مختلفة تمامًا في الفضاء الخارجي وفي باطن أرضنا، وقد وجد الباحثون أول دليلٍ على ذلك السلوك الغريب.
يقول آلكس بولديرف (Alex Boldyrev) أحد أعضاء الفريق من جامعة يوتاه لموقع Phys.org:
«الضغط العالي بشكلٍ هائل، مثل ذلك الذي نجده في نواة الأرض وجيرانها العمالقة، تغير من كيمياء الهيليوم بشكلٍ كامل».
قام الباحثون باستعمال “هيكل كريستالي-تنبؤي” كنموذج حاسوبي من أجل التنبؤ بإمكانية تكون مركبات هيليوم-صوديوم مستقرة، تحت ضغطٍ هائل.
ثم أنشأوا المركب الذي لم نرَ مثله من قبل فيزيائيًا، والذي يحمل الصيغة الكيميائية Na2He، في تجربة لخلية سندان الماس، سمحت لهم بتعريض ذرات الهيليوم والصوديوم لضغط وصل إلى حوالي 1.1 مليون مرة أكثر من الضغط الجوي الأرضي.
في هذا الشأن تقول ماري آن موفوليتو (Mary-Ann Muffoletto) أستاذة الكيمياء: «تلك الاكتشافات كانت غير متوقعة بشكلٍ كبير، حيث يقول بولديرف أنه وزملاءه كافحوا أكثر من سنتين من أجل إقناع المراجعين العلميين والمحررين بنشر نتائجهم».
حسب تلك النتائج، توقع الفريق أن يقوم الصوديوم بخلق رابطة بشكلٍ سهل مع الهيليوم من أجل خلق مركب مستقر (Na2He) تحت ضغط يصل إلى 10 ملايين مرة أعلى من المستوى الذي قاموا بإنجاز التجربة فيه.
وبشكلٍ غريب، ظهر أن المركب قد يتشكل دون الحاجة إلى روابط كيميائية.
يقول شياو دونج (Xiao Dong) من جامعة نانكاي الصينية، وأحد أعضاء البحث: «المركب الذي قمنا باكتشافه هو غريب للغاية: ذرات الهيليوم لا تشكل في الحقيقة أية روابط كيميائية، لكن رغم ذلك، حضورها يغير التفاعل الكيميائية بين ذرات الصوديوم بشكلٍ جوهري، مما يجبر الإلكترونات على الانحصار في الفراغات المكعبة للهيكل، وهذا ما يجعل هذه المادة عازلة».
هذا هو الهيكل الكريستالي لمركب Na2He ــ تركيبة ثابتة للصوديوم المتناوب (بنفسجي) وذرات الهيليوم (أخضر)، مع الإلكترونات (أحمر) الموجودة في الفراغات ما بينها:
كما يقول بوبوف: «إنها ليست روابط حقيقية»، مثل الروابط الأيونية والروابط التساهمية، لكن «يقوم الهيليوم بتثبيت الهيكل. إذا ما نزعت ذرات الهيليوم تلك، لن يصبح الهيكل مستقرًا من جديد».
وهذه رسوم توضيحية إضافية للمركب الجديد، مع صوديوم (وردي) وهيليوم (أبيض) على اليسار؛ ومكعبات صوديوم وهيليوم (رمادي) وإلكترونات (أحمر) على اليمين:
حصلت الكيمياء على عددٍ لابأس به من الاكتشافات “الخارقة للقواعد” مؤخرًا، مع فِرقٍ متفرقة تخلق أول نموذج للهيدروجين المعدني، و جزيئات كربون بست روابط ــ وليس أربعة ــ الشهر الفارط.
وبسبب تحديها للحكمة التقليدية، دائمًا ما تلقى هذه الاكتشافات شكًا كبيرًا في صحتها مع المطالبة بتكرار التجربة بشكلٍ مستقل.
وبالحديث عن هذه الدراسة، النتائج تبدو قوية حتى الآن، لذلك نتوقع أن نرى نتائج مهمة للغاية في التجارب القادمة.
حيث يقول الفيزيائي هنري رزيبا (Henry Rzepa) من الكلية الإمبريالية بلندن، عند مقارنة روابط الهيليوم مع اكتشاف الهيدروجين المعدني: «إن هذا العلم سليم بشكلٍ كبير»، ليضيف في موقعٍ آخر: «مركب الهيليوم هو اختراق علمي».
يجب أن تقام تجارب أخرى لكي نكون على يقين مما يجري هنا، لكن يبدو أن سنة 2017 تعد بوضع العديد من الفرضيات الأساسية القاعدية للكيمياء على طاولة الاختبار، ولن يسعنا سوى الانتظار لنرى ما قد يحصل لاحقًا.