التشابك الكمي _quantum entanglement هي واحدة من أغرب الظواهر التي تتعرض لها الأمور العلمية جميعها، ففيها يتفاعل جسيمان ويصبحان متشابكان على قدر من الإحكام كي يتشاركان نوعاً ما من الوجود وإن ابتعدا عن بعضهما سنواتٍ ضوئية.
لم يتقبل آينشتاين هذه الفكرة، وقرر بالنهاية أن هذا الأمر غريب على أن يكون صحيحاً، لكن للتو توصلت تجربة جديدة إلى واقع غريب في مجال التشابك الكمي، ما يُظهر غرابة كوننا ليتسق مع توقعاتنا.
في حوارٍ دار بين ديفيد كايسر_David Kaiser وجينيفر شو_ Jennifer Chu من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا_MIT طُرح أمرٌ مفاده:
“إن نفوذ المشككين بميكانيكا الكم قد انحسر انحساراً ملحوظاً، لم نتخلص منهم بعد، لكننا تمكنا من حصرهم بمقدار 16 ضعفاً”
بالحديث عن التشابك الكمي مفاهيمياً يعد من أكثر الأشياء صعوبةً في الإثبات، فبينما يراقب الفيزيائيون هذه الظاهرة بسهولة (الجسيمات المتشابكة من أساسيات الحوسبة الكمية)، إلا أنه من الاستحالة التيقن من ما اذا كان هناك وجود لمتغيرات مخفية تتلاعب بالنتائج لتوهمنا بتشابك الجسيمات بالفعل.
إن لم تسمع عن التشابك الكمي من قبل فتبسيطه يكون كالتالي: تخيل جسيمان يفترقان عن بعضهما عدة أمتار أو عدة سنوات ضوئية، لكن برغم المسافة يحصل التشابك بينهما، ما يعني أنه ولسببٍ غير مفهوم يُحافظ الجُسيّمان على ترابط مميز، أي إن تم قياس أحد الجسيمين سنعرف القياسات الدقيقة للجسيم الآخر.
هذه الظاهرة الغريبة تزداد غرابة، وما يزيد من ذلك حقيقة أن الجسيمات لا تمتلك صفات قائمة بذاتها، بل تنشأ بمجرد إجراء عملية القياس، إذاً كيف تملك الجسيمات صفات ما رغم عدم قياسها؟
برغم وجود عدد لا نهائي من التجارب خلال القرن الماضي التي أثبتت وجود سلوك التشابك الكمي، لكن لم يتم تفسيره كلياً، حتى آينشتاين بقي متشككاً حياله حتى لحظاته الأخيرة، واصفاً الظاهرة بأنها “حركة غريبة حاصلة عبر مسافة”، لم ينكر آينشتاين تشابك الجسيمات كمومياً، لكنه جادل بوجود متغيرات خفية تلعب دوراً بهذا الشأن.
في ستينيات القرن الماضي أنشأ الفيزيائي جون بيل_John Bell نوع من الاختبارات لقياس احتمالية وجود تشابك كمي فعلي أم وجود متغيرات توهمنا بهذا التشابك، تضمنت تجاربه التي عُرفت باسم تجارب بيل لانعدام المساواة، ممارسة قياسات مستقلة على كل جُسيّم متشابك لمعرفة أي الخيارين أكثر إقناعاً.
أدلت إليزابيث جيبني _ Elizabeth Gibeny لمجلة Nature: “أظهرت نتائج بيل ترابطاً إحصائياً، تتخطى الترابطات حدوداً تجعل من الاستحالة تفسير وجود جسيمات ذات خصائص خفية، بل وبالعوض عن ذلك أبدت نتائج قياس جسيم وكأنها تُغيّر بشكل غامض من خصائص الجُسيم الآخر”.
لاحقاً وبوقت قصير، لاحظ العلماء ثغرات في حدود بيل، والتي تركت مجالاً مفتوحاً أمام التنبؤات بوجود تفسيرات غير كميّة لهكذا ظواهر، إحدى الثغرات هي احتمالية تشارك الجسيمات للمعلومات بسرعة الضوء، وأن أجهزتنا قاصرة عن قياس هذا الأمر بسبب بطئها الشديد، أو ربما حقيقة هذه التجارب المتضمنة جسيمات تشاركية كمية فُقدت جزئياً، ما أفرز عن تحريف في نتائجها النهائية.
عُرضت هاتين الثغرتين عام 2015، فقد أُجريت تجربة تاريخية عرّضت التشابك الكمي لاختبار يعد الأصعب من نوعه ما نتج عنه استبعاد للثغرتين كلاهما، مع ذلك بقيت ثغرة واحدة هي ثغرة حرية الاختيار، بحسب تفسير إليزابيث، فإنه وفي كل مرة يُجرى بها اختبار بيل، نفترض امتلاك العلماء القائمين على الاختبار لحرية اختيار القياسات التي يقومون بها على كل زوج من الفوتونات المتشابكة.
ونجد بعض التأثيرات غير المعروفة التي تؤثر على الحسيمين كلاهما واختباراتهما، والتأثير يكون إما على اختيار القياس مباشرة، أو بطريقة معقولة عن طريق تقييد الخيارات المتاحة، لإنتاج ترابط يعطي وهم التشابك الكمي.
بعبراتٍ أخرى، تخيل الكون مطعم به 10 خيرات على قائمة الطعام، تعتقد أنك تمتلك اختيار أي من هذه العشر خيارات، لكن النادل يقول لك: (نفد من عندنا الدجاج، والخيارات المتاحة لدينا حالياً هي 5)، يقول آندرو فريدمان _ Andrew Friedman من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لمجلة كوانتا، “عندها ستبقى عندك حرية اختيار واحد من على الخمس خيارات المتبقية على القائمة، لكنك فعلياً استبقت النتائج وتوقعت حرية اختيار إضافية”.
يضيف فريدمان إنه عندما يتعلق الأمر بتجارب التشابك الكمي، يكون لدينا مجاهيل، قيود، حركات محدودة، وقوانين محافظة، ما يُقيد خياراتنا بطريقة بارعة تجعل من العوامل السابقة تخدعنا بوجود التشابك الكمي.
الجاذبية واحدة من أوضح الأسباب في هذا السيناريو، تأثيرها قلص من عدد القياسات المحتملة التنفيذ على الجسيمات المتشابكة في كوكب الأرض، لذا كيف لنا تخطي ثغرة حرية الاختيار في كون يبدو أنه يعمل ضدنا؟
حاول الباحثون في الماضي تخطي الثغرة بالاستعانة بمولد أرقام عشوائي لاختيار عشوائي لأي صفة يخضعونعا للقياس، ما يعني عدم التحيز في التجربة حيث لا يختار الباحثون الصفات التي يريدون.
أُطلق زوجاً من الجسيمات الكمية باتجاهين متعاكسين نحو مرصدين مختلفين، يختار المولد العشوائي خاصية عشوائية لقياسها في اللحظة الأخيرة قبل وصول الجُسيمين لمرصديهما، أي أن الجسيمات بالكاد تمتلك وقت لتشارك المعلومات، وكما تنبأ آينشتاين ظهر الجسيّمين متشابكين.
تعد هذه التجربة محكمة، لكنها لم تستبعد سوى احتمالية وجود متغيرات خفية قبل إطلاق الجسيمات بعدة ميكرو-ثوان.
ماذا لو كان مصير الجسيمات مقرراً وخاضعاً لقبل الحتمية؟
قبل الحتمية (هي الاعتقاد بأن جميع الأحداث، متضمنة اختياراتنا، تأسست وتحددت مسبقاً).
قرر فريق من علماء معهد ماساتشوستس وجامعة فيينا في النمسا ومعاهد في الصين وألمانيا، استخدام ضوء نجم وسيلة للعودة بالزمن لحين استبعاد وجود متغيرات خفية فيه، تضمنت التجربة تخصيص اللون الأحمر أو الأزرق إلى خصائص معينة يمكن قياسها في الجسيمات المتشابكة، ثم ضبط تلسكوبين لرصد ضوء النجم القادم فإما يكون أحمر أو أزرق، واللون المُرصد يحدد الخصائص التي تقاس في الجسيمات المتشابكة.
الحبكة تكمن في كون لون النجم لا يمكن تغييره على طول الطريق، أي أن المتغيرات اللاكمية تعبث بالجسيمات وتحدد خصائصها قبل حتمياً، ما يعني أن العبث يجب أن يتم قبل انبعاث ضوء النجم.
باستثناء الشمس وبالنظر إلى أقرب النجوم إلى الأرض الذي يبعد عنا 575 سنة ضوئية، فإن تقرير المصير قبل حتمياً لضوء النجم سيجري في وقت قبل 600 سنة ضوئية، ويقول كايسر_ Kaiser لياه _Leah في مجلة New Scientists: “إذا أُعيد ترتيب أي ميكانيكا فيزيائية لتتناسب والأسئلة المطروحة حول كل جسيّم، فإن هذا التلاعب سيدخل إلى النجم عند وشوك إطلاق الشعاع الذي قسناه للتو”.
التجربة لا تسدّ ثغرة حرية الاختيار، لكنها وللمرة الأولى تؤكد وجود غرابة كميّة وجدت منذ نحو 600 عام على الأقل، والآن على الباحثين رفع سقف توقعاتهم.
فريدمان يعتقد بإمكانية تطبيق نفس الآلية على الأجسام المتشابكة باستخدام الضوء الناجم عن الكوازرات البعيدة، ما يدفع بحدودنا نحو مليارات السنين، لكن ما الذي سنتصول إليه في النهاية؟ هل إلى بداية الكون (الإنفجار العظيم)؟
لا يعتمد الفيزيائيون على هكذا أشياء، كما تقول ناتالي ولشوفير _Natalie Wolchover لمجلة كوانتا: “ربما قيد الكون هو حرية الاختيار مذ بداية الكون، ولربما كانت جميع القياسات مقررة قبل حتمياً، بارتباطات تستند بالأساس للانفجار العظيم”.
قبل الحتمية الفائقة _ Super determinism لا تزال مجهولة، تضيف جان إيك لارسون _ Jan Ake Larsson الفيزيائية في جامعة لينكوبينغ في السويد: “لن يتمكن الفريق أبداً من استبعاد وجود صلات موجودة قبل هذه النجوم والكوازرات، أو قبل وجود انبعاث أي ضوء في السماء، ما يعني أننا لن نتخلص أبداً من ثغرة حرية الاختيار كلياً”.
بالنسبة لفريدمان، إن الاحتمالات لا زالت أكثر إثارة من أن يتم الاستغناء عنها، فإما نتخلص تدريجياً من الثغرة أكثر فأكثر، كي نثق بشكل أكبر بنظرية الكمّ، وإما نتجه إلى فيزياء جديدة.