في 4 نوفمبر 1915 نشر أينشتاين أول مقال حول أحد أعظم إنجازات الجنس البشري الفكرية والعلمية: النظرية النسبية العامة.
توصل أينشتاين إلى نظريته بعد سنين طويلة من العمل الدؤوب، وبعد محاولات عديدة للتوفيق بين قوة الجاذبية وبين أفكاره حول الفراغ والزمن (سوف أستعمل في باقي المقال مصطلح الزمكان spacetime)، التي طورها قبل عشر سنوات في عام 1905، المعروفة بالنظرية النسبية الخاصة.
قد تكون النظرية النسبية العامة أعظم إنجاز لعقل إنسان واحد على مدى التاريخ البشري.
ففيها قلب أينشتاين مفاهيمنا الأساسية عن الفيزياء والهندسة، وأظهر أن بينهما علاقة عضوية حميمة لم يتخيلها أحد من قبل: المادة والطاقة تحددان صفات الزمكان، والزمكان يحدد كيف تتحرك المادة.
اليوم فقط، وبعد مئة سنة من هذه النظرية، نفهم عمق تأثيرها وأبعادها التي كانت ستفاجئ، وربما تقلق، أينشتاين نفسه لو ظل حياً حتى اليوم.
شهد القرن العشرون في بدايته ثورتين في الفيزياء أدتا إلى نشوء نظريتين، هما حجرا الأساس في الفيزياء الحديثة.
النظرية الأولى، والتي تُعرف باسم نظرية الكم (Quantum Theory)، تصف تصرف المادة في الأبعاد الصغيرة جدا، كمبنى الذرّة.
طوَّر هذه النظرية عدد كبير من العلماء، بضمنهم أينشتاين نفسه، بهدف تفسير العديد من الظواهر الذرّية وغيرها، التي لم تجد تفسيرها في قوانين الفيزياء المعروفة في حينه.
أما النظرية الثانية، والتي تبحث في تصرف المادة على أبعاد كبيرة جدا، وتُعرَف بالنظرية النسبية العامة، فقد طورها شخص واحد، أينشتاين، ومن دون أي دافع تجريبي أو رصدي يحثه على اقتراح نظرية جديدة، بل أتى بها نتيجة لطرحه أسئلة عميقة حول العلاقة بين مفاهيم فيزيائية معروفة جيدا: قوة الجاذبية والزمكان.
إنجاز أينشتاين الفكري فريد من نوعه، فعمق نظريته الفيزيائي وجمالها الرياضي (من رياضيات) غير مسبوقين في تاريخ العلوم الحديثة.
نقطة الانطلاق لهذه النظرية أتت من فكرة خطرت لأينشتاين في عام 1907، وصفها بأنها “أسعد فكرة في حياته”.
وتلك الفكرة، التي واتته عندما كان يجلس في مكتبه ورأى من نافذته عمالا يعملون على سطح المبنى المقابل، هي أن الأجسام خلال سقوطها تكون في حالة انعدام الوزن.
أي أن انعدام الوزن مكافئ للسقوط الحر، كما هي الحال عند رواد الفضاء، فهم يتحركون تحت تأثير الجاذبية عند دورانهم حول الأرض.
تمخّض عن هذه الفكرة أحد المبدأين الأساسيين في نظريته والمعروف بـ”مبدأ التكافؤ”-− المبدأ الآخر في نظريته هو مبدأ النسبية الذي استعمله أيضا في وضعه للنظرية النسبية الخاصة.
هذه الفكرة الصغيرة التي توصل إليها بخياله الجامح و فكره الوقاد أدّت إلى انقلاب كامل في الفيزياء وفهمها للطبيعة.
يذكر أن أينشتاين أكمل نظريته وهو يعمل في جامعة برلين خلال سنوات الحرب العالمية الأولى.
عارض أينشتاين هذه الحرب بشدة في وقت كان فيه الشعور القومي الألماني في أوجه − كما كانت الحال في الدول الأوروبية الأخرى في حينه.
اعتبر أينشتاين هذه الحرب فشلاً للإنسانية وتحدّى مجتمعه قاطبة برفضه دعم الحرب, متحملا اتهام بعضهم له بالخيانة، فهذا الموقف يبين منزلة أينشتاين الإنسانية لا العلمية فقط.
لكي يحصل القارئ على فكرة مبسطة حول العلاقة بين الجاذبية وهندسة الزمكان في النظرية النسبية العامة سنلجأ إلى الاستعارة التالية.
تخيل سريراً مرتباً مغطّاً بشرشف ممدود بشكل مهندم على وجهه، سطح هذا الشرشف المستوي هو كهندسة الفراغ المستوية.
فكر الآن بماذا يحدث إذا وضعت بعض الكرات الصغيرة ذات أوزان مختلفة بشكل متفرق على سطح الشرشف.
ستُغيِّر هذه الكرات من طبيعة سطح الشرشف حيث إنها ستكوِّن تجويفات حولها، بحيث تُحدِث الكرات الثقيله تجويفات أعمق مقارنة بالكرات الخفيفة.
هذا يشبه ما يحدث في النظرية النسبية العامة، فوجود المادة يُنتج إنحناءات وتجويفات في هندسة الفراغ تماما كما تفعل الكرات التي وضعناها على وجه الشرشف المهندم.
وبالمقابل، إذا دحرجنا كرة صغيرة جدا على سطح الشرشف المتعرج فإنها لن تسير بخط مستقيم، بل ستتابع الانحناءات والتجويفات عليه، تماما كما تؤثر هندسة الزمكان في حركة الأجسام.
تَنَبَأَ أينشتاين، على أساس هذا التغيير الجذري في طبيعة هندسة الفراغ نتيجة لوجود المادة والجاذبية، بأن الشمس تؤدي إلى انحراف في مسار الضوء الآتي من نجوم بعيدة خاصة حين يمر الضوء بقربها، كما يبين الرسم.
فإذا افترضنا مثلا بأن هنالك نجماً يقع خلف الشمس بالنسبة للأرض (في موقع رقم 1 في الرسم)، بحسب النظرية النسبية العامة سوف نراه يظهر من خلفها، نتيجة لحركتها على صفحة السماء، قبل ما نتوقعه وذلك نتيجة للانحناء الذي تُحدثُه الشمس في مسار ضوئه (يظهر لنا كأن مكانه في موقع رقم 2 في الرسم).
مبدئيا، من الممكن فحص انحناء ضوء النجوم بواسطة الشمس بسهولة، إذ تحجب الشمس خلال سيرها في صفحة السماء الكثير من النجوم يوميا.
نستطيع فحص زمن ظهور هذه النجوم التي كانت محجوبة وراء الشمس لنحدد هل كان مسار ضوء هذه النجوم مستقيما أم منحنيا.
ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، فضوء الشمس نفسها يطغى على ضوء هذه النجوم ويمنعنا من رؤيتها (لهذا السبب نفسه لا نرى نجوما خلال النهار).
لهذا اقترح أينشتاين أن يتم القيام بهذه التجربة خلال الحدث الوحيد الذي يحجب ضوء الشمس عن الأرض في وضح النهار، أي خلال كسوف الشمس.
وبالفعل قاد عالم الفلك البريطاني الشهير آرثر إدينچتون (Arthur Eddington) بعثة إلى جزيرة برنسيب قرب الساحل الشرقي الأفريقي لقياس ظهور النجوم من خلف الشمس، خلال كسوفها مؤكدةً صحة تنبؤات النظرية النسبية العامة.
انتشرت نتيجة هذه التجربة في الأوساط العلمية والشعبية كانتشار النار في الهشيم.
وأصبح أينشتاين بين ليلة وضحاها أشهر عالم على وجه الأرض، تزين صورته الصفحات الرئيسية لأهم الصحف في العالم.
كما وخصصت هذه الصحف العديد من صفحاتها في محاولة لشرح هذه النظرية لقرائها لكن دون جدوى، شرح النظرية النسبية العامة ببساطة كان وما زال أمراً صعباً جداً.
ومن القصص الطريفة التي يجدر ذكرها أن أحدهم توجه لآرثر إدينچتون في عام 1919 قائلا: “بروفيسور إدينچتون، لا بد أنك واحد من ثلاثة أشخاص في العالم الذين يفهمون النظرية النسبية العامة”، وعندما تأخر إدينچتون في الرد عليه قال له الرجل “لا تكن متواضعا بروفيسور إدينچتون”، فعندها أجابه إدينچتون “على العكس، فأنا فقط أحاول أن أفكر من هو الشخص الثالث” (أي أن أينشتاين وهو فقط في كل العالم يفهمان هذه النظرية).
شهد أينشتاين خلال حياته عددا من النجاحات الكبيرة لنظريته، مثلا تنبأ بتغيير طفيف في حركة الكوكب السيار عطارد نتيجة قربه من الشمس بحوالي درجة واحدة كل مئة قرن.
لكن أهم هذه النجاحات هو تنبؤ النظرية النسبية العامة بانتشار الكون، ولهذا الموضوع قصة مثيرة للاهتمام.
لقد أدرك أينشتاين بأن الجاذبية لن تسمح للكون بأن يكون ساكنا، فهي قوة تؤدي دائما لجذب المادة بعضها لبعض (لا يمكن إلغاء قوة الجاذبية)، مما ينتج عن كون دائم التغير.
هذه النتيجة لم تعجب أينشتاين من منطلقات فلسفية، فقد اعتقد بأن كونا “أزليا” يجب أن يكون ساكناً.
لهذا أضاف أينشتاين، إلى معادلات النظرية النسبية العامة التي تصف الكون، حداً ثابتاً جديداً ينتج عن قوة تنافر تلغي تأثير الجاذبية، وسمّى هذا الحد بالثابت الكوني (Cosmological Constant).
وحين أرسل له العالم الروسي الكسندر فريدمان (Alexander Friedmann) مقالا حول انتشار الكون، أهمله أينشتاين ووصفه بأنه مجرد تمرين في الرياضيات (أي بدون عواقب فيزيائية).
طبعا كان أينشتاين مخطئا، ففي عام 1929 نشر عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل (Edwin Hubble) نتائجه حول حركة المجرات التي بينت، بما أصبح يعرف بقانون هابل، أن الكون هو فعلا في حالة انتشار، بالضبط كما تنبأ فريدمان.
هذا مثال آخر عن مفاجأة الطبيعة لنا دائما وتبيين أن الآراء المسبقة كثيرا ما تكون مرشد ضلال، حتى لأعظم العلماء.
بعد هذا الاكتشاف، اعترف أينشتاين بخطئه ووصف الثابت الكوني بأنه أكبر خطأ في حياته.
في السنوات التي مرت منذ وفاة أينشتاين في عام 1955، أصبحنا ندرك تدريجيا مدى أهمية نظريته وأبعادها.
فهي تتنبأ بوجود ثقوب سوداء لا تسمح حتى للضوء بالهروب منها، تتكون عندما تموت النجوم الكبيرة، وتؤدي خلال تكونها إلى انفجار هائل لطبقات النجم الخارجية يسمى بانفجار السوبرنوڤا، تزن هذه الثقوب السوداء أضعاف كتلة الشمس على الأقل.
بل وأكثر من ذلك، فنحن نعرف اليوم بأن هناك ثقوبا سوداء عملاقة، تكونت بعد نشوء الكون بقليل، تقطن في مركز المجرات، تتراوح كتلتها بين مليون إلى عدة مليارات مرة كتلة الشمس (الثقب الأسود في مركز مجرتنا يزن حوالي 4 ملايين كتلة شمسنا).
وهذه الأجسام غريبة جدا، حتى كدنا نحسب أنه قد اختلط الزمان بالمكان والخيال بالواقع على العلماء الذين يدرسونها.
أصبحنا أيضا نرى كيف تُركِّز عناقيد المجرات التي تحوي آلاف المجرات الضوء الآتي من خلفها، كما تركز العدسات الزجاجية الضوء، مكونةً عدة صور للأجسام نفسها.
يستخدم فيزيائيو الفلك هذه الظاهرة، التي تعرف باسم العدسة الجاذبية (Gravitational Lensing)، لقياس وزن عناقيد المجرات ليستنتجوا أن كمية المادة المسؤولة عن العدسة الجاذبية هي أكبر بكثير مما نراه في المجرات والأجسام المضيئة.
هذه المادة غير المرئية، والتي تختلف جوهريا عن المادة التي تكون العناصر الكيميائية المألوفة للبشر، تسمى المادة المعتمة.
(أنظر الصورة التي تبين أربع صور للجسم نفسه يكونها انحراف ضوئها بواسطة المجرة الظاهرة في وسط الصورة).
ولعل أهم نتيجة لنظرية أينشتاين هي أننا نعرف اليوم، بفضلها، مكونات الكون بدقة كبيرة.فنحن نعرف بأن المادة العادية التي منها صُنع كل شيء حولنا تكِّون فقط حوالي 5٪ من الكون، وحوالي ال 25٪ منه هي مادة معتمة لا نعرف ما هي ولكننا نعرف صفاتها.
وأما ال70٪ الباقية من الكون فهي على شكل طاقة معتمة، لا نعرف عنها الكثير سوى أنها تدفع الكون للتسارع بالانتشار، كما يفعل الثابت الكوني الذي اقترحه أينشتاين والذي ذكرناه سابقا (فهو في نهاية المطاف لم يكن مخطئا تماما).
هذا يتركنا في وضع غريب، فنحن نعرف بالضبط كم من المادة والطاقة يوجد في الكون، ولكننا لا نعرف ماهية 95٪ من هذه المكونات (هذا لا يعني أننا لن نعرفها مستقبلا).
تمكننا هذه النظرية أيضا من أن نعرف تاريخ الكون وماذا حدث له في مراحله المختلفة، منذ بدايته وحتى الآن.
أجمل وأعمق ما تمخضت عنه النظرية النسبية العامة، هو أنه بفضل أينشتاين ولأول مرة في تاريخنا كبشر، نحن نفهم علميا قصة كوننا.
في إحدى المقالات حول نظريته (1916) استخلص أينشتاين وجود الأمواج الثقالية (Gravitational waves) التي هي عبارة عن تموجات في هندسة الفراغ (هندسة الزمكان) وتنتشر بسرعة الضوء، ولكنه وعلى مدى فترة طويلة لم يكن متأكدا من صحة حساباته.
وعلى أية حال لم يعتقد بأننا يومنا نستطيع أن نقيس مثل هذه الأمواج، حتى إن وجدت، لضعفها الشديد.
ولكن وبعد مئة عام تماما أعلن علماء من مرصد LIGO في الولايات المتحدة عن رصدهم لأول مرة الأمواج الثقالية.
هذه الأمواج قد تنتج في الكون في ظروف مختلفة، مثلا خلال الانفجار الكبير أو سوبرنوفا (مستعر أعظم) التي تحدث عندما تموت النجوم الكبيرة، أو الثقوب السوداء وغيرها.
الموجات التي رصدها LIGO نتجت عن اصطدام واندماج ثقبان أسودان كتلة كل منهما حوالي 30 مرة كتلة شمسنا على بعد حوالي مليار سنة ضوئية عنا.
هذا الاكتشاف لا يؤكد فقط ما تنبا به أينشتاين بل، وربما أهم من ذلك، فهو يزودنا بنافذة جديدة مختلفة عن الأمواج الكهرومغناطيسية لرصد الظواهر الفيزيائية في الكون.
هنالك الكثير من الاستعمالات العملية لنظريات أينشتاين مثل استعمال نظام التموضع العالمي (GPS)، الذي يمكننا من الملاحة والتموضع بواسطة الأقمار الصناعية.
لكن أهم إنجازاته هي الإنجازات الفكرية التي تمكننا من فهم كوننا وواقعنا الموضوعي بعمق.
كان أينشتاين مبدعاً في طرح أسئلة جمعت بين العلم والفلسفة، فقد توخى دائما في أبحاثه بأن يجيب على أسئلة عميقة، وتميزت إجاباته دائما بأناقتها وجمالها، ولكن في الوقت نفسه أيضا، بجموح خيالها وتحديها للفرضيات المسبقة والأفكار المقبولة.
فحتى عندما أخطأ في اعتراضه على نظرية معينة يحملها أقرانه، أضاف لتلك النظرية الكثير، بمجرد طرح أسئلة عميقة حولها أجبَرَتهم على التعمق أكثر في فهم نظريتهم.
أنهي مقالي هذا باقتباس من خطاب قصير لجورج برنارد شو ألقاه على شرف أينشتاين عام 1930، قال فيه (وأقتبس هنا بتصرف للإيجاز): “نابليون ورجال عظماء مثله بنوا إمبراطوريات.
ولكن أينشتاين وأمثاله فعلوا أكثر من ذلك, فهم لم يبنوا إمبراطوريات بل صنعوا أكوانا كاملة، وهذا من غير أن يُسيلوا قطرة واحدة من دم اخوانهم البشر”.
أينشتاين هو ليس فقط عالم الفيزياء الكبير، بل هو الرجل الذي تحدى مجتمعه ليعارض الحرب، الفيزيائي الذي تساءل عن الأبعاد الفلسفية والإبيستمولوجية لنظرياتنا العلمية (بالذات في نقاشه مع الفيزيائي الشهير نيلز بوهر Niels Bohr)، هو العبقري المتواضع صاحب الظل الخفيف، وفوق كل شيء هو الإنسان الذي عاش خلال حربين قتلتا الملايين ودمرتا دولا ومجتمعات بأكملها، لكنهما لم تنجحا في تشويه إنسانيته وفكره.
توصل أينشتاين إلى نظريته بعد سنين طويلة من العمل الدؤوب، وبعد محاولات عديدة للتوفيق بين قوة الجاذبية وبين أفكاره حول الفراغ والزمن (سوف أستعمل في باقي المقال مصطلح الزمكان spacetime)، التي طورها قبل عشر سنوات في عام 1905، المعروفة بالنظرية النسبية الخاصة.
قد تكون النظرية النسبية العامة أعظم إنجاز لعقل إنسان واحد على مدى التاريخ البشري.
ففيها قلب أينشتاين مفاهيمنا الأساسية عن الفيزياء والهندسة، وأظهر أن بينهما علاقة عضوية حميمة لم يتخيلها أحد من قبل: المادة والطاقة تحددان صفات الزمكان، والزمكان يحدد كيف تتحرك المادة.
اليوم فقط، وبعد مئة سنة من هذه النظرية، نفهم عمق تأثيرها وأبعادها التي كانت ستفاجئ، وربما تقلق، أينشتاين نفسه لو ظل حياً حتى اليوم.
شهد القرن العشرون في بدايته ثورتين في الفيزياء أدتا إلى نشوء نظريتين، هما حجرا الأساس في الفيزياء الحديثة.
النظرية الأولى، والتي تُعرف باسم نظرية الكم (Quantum Theory)، تصف تصرف المادة في الأبعاد الصغيرة جدا، كمبنى الذرّة.
طوَّر هذه النظرية عدد كبير من العلماء، بضمنهم أينشتاين نفسه، بهدف تفسير العديد من الظواهر الذرّية وغيرها، التي لم تجد تفسيرها في قوانين الفيزياء المعروفة في حينه.
أما النظرية الثانية، والتي تبحث في تصرف المادة على أبعاد كبيرة جدا، وتُعرَف بالنظرية النسبية العامة، فقد طورها شخص واحد، أينشتاين، ومن دون أي دافع تجريبي أو رصدي يحثه على اقتراح نظرية جديدة، بل أتى بها نتيجة لطرحه أسئلة عميقة حول العلاقة بين مفاهيم فيزيائية معروفة جيدا: قوة الجاذبية والزمكان.
إنجاز أينشتاين الفكري فريد من نوعه، فعمق نظريته الفيزيائي وجمالها الرياضي (من رياضيات) غير مسبوقين في تاريخ العلوم الحديثة.
نقطة الانطلاق لهذه النظرية أتت من فكرة خطرت لأينشتاين في عام 1907، وصفها بأنها “أسعد فكرة في حياته”.
وتلك الفكرة، التي واتته عندما كان يجلس في مكتبه ورأى من نافذته عمالا يعملون على سطح المبنى المقابل، هي أن الأجسام خلال سقوطها تكون في حالة انعدام الوزن.
أي أن انعدام الوزن مكافئ للسقوط الحر، كما هي الحال عند رواد الفضاء، فهم يتحركون تحت تأثير الجاذبية عند دورانهم حول الأرض.
تمخّض عن هذه الفكرة أحد المبدأين الأساسيين في نظريته والمعروف بـ”مبدأ التكافؤ”-− المبدأ الآخر في نظريته هو مبدأ النسبية الذي استعمله أيضا في وضعه للنظرية النسبية الخاصة.
هذه الفكرة الصغيرة التي توصل إليها بخياله الجامح و فكره الوقاد أدّت إلى انقلاب كامل في الفيزياء وفهمها للطبيعة.
يذكر أن أينشتاين أكمل نظريته وهو يعمل في جامعة برلين خلال سنوات الحرب العالمية الأولى.
عارض أينشتاين هذه الحرب بشدة في وقت كان فيه الشعور القومي الألماني في أوجه − كما كانت الحال في الدول الأوروبية الأخرى في حينه.
اعتبر أينشتاين هذه الحرب فشلاً للإنسانية وتحدّى مجتمعه قاطبة برفضه دعم الحرب, متحملا اتهام بعضهم له بالخيانة، فهذا الموقف يبين منزلة أينشتاين الإنسانية لا العلمية فقط.
لكي يحصل القارئ على فكرة مبسطة حول العلاقة بين الجاذبية وهندسة الزمكان في النظرية النسبية العامة سنلجأ إلى الاستعارة التالية.
تخيل سريراً مرتباً مغطّاً بشرشف ممدود بشكل مهندم على وجهه، سطح هذا الشرشف المستوي هو كهندسة الفراغ المستوية.
فكر الآن بماذا يحدث إذا وضعت بعض الكرات الصغيرة ذات أوزان مختلفة بشكل متفرق على سطح الشرشف.
ستُغيِّر هذه الكرات من طبيعة سطح الشرشف حيث إنها ستكوِّن تجويفات حولها، بحيث تُحدِث الكرات الثقيله تجويفات أعمق مقارنة بالكرات الخفيفة.
هذا يشبه ما يحدث في النظرية النسبية العامة، فوجود المادة يُنتج إنحناءات وتجويفات في هندسة الفراغ تماما كما تفعل الكرات التي وضعناها على وجه الشرشف المهندم.
وبالمقابل، إذا دحرجنا كرة صغيرة جدا على سطح الشرشف المتعرج فإنها لن تسير بخط مستقيم، بل ستتابع الانحناءات والتجويفات عليه، تماما كما تؤثر هندسة الزمكان في حركة الأجسام.
تَنَبَأَ أينشتاين، على أساس هذا التغيير الجذري في طبيعة هندسة الفراغ نتيجة لوجود المادة والجاذبية، بأن الشمس تؤدي إلى انحراف في مسار الضوء الآتي من نجوم بعيدة خاصة حين يمر الضوء بقربها، كما يبين الرسم.
فإذا افترضنا مثلا بأن هنالك نجماً يقع خلف الشمس بالنسبة للأرض (في موقع رقم 1 في الرسم)، بحسب النظرية النسبية العامة سوف نراه يظهر من خلفها، نتيجة لحركتها على صفحة السماء، قبل ما نتوقعه وذلك نتيجة للانحناء الذي تُحدثُه الشمس في مسار ضوئه (يظهر لنا كأن مكانه في موقع رقم 2 في الرسم).
مبدئيا، من الممكن فحص انحناء ضوء النجوم بواسطة الشمس بسهولة، إذ تحجب الشمس خلال سيرها في صفحة السماء الكثير من النجوم يوميا.
نستطيع فحص زمن ظهور هذه النجوم التي كانت محجوبة وراء الشمس لنحدد هل كان مسار ضوء هذه النجوم مستقيما أم منحنيا.
ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، فضوء الشمس نفسها يطغى على ضوء هذه النجوم ويمنعنا من رؤيتها (لهذا السبب نفسه لا نرى نجوما خلال النهار).
لهذا اقترح أينشتاين أن يتم القيام بهذه التجربة خلال الحدث الوحيد الذي يحجب ضوء الشمس عن الأرض في وضح النهار، أي خلال كسوف الشمس.
وبالفعل قاد عالم الفلك البريطاني الشهير آرثر إدينچتون (Arthur Eddington) بعثة إلى جزيرة برنسيب قرب الساحل الشرقي الأفريقي لقياس ظهور النجوم من خلف الشمس، خلال كسوفها مؤكدةً صحة تنبؤات النظرية النسبية العامة.
انتشرت نتيجة هذه التجربة في الأوساط العلمية والشعبية كانتشار النار في الهشيم.
وأصبح أينشتاين بين ليلة وضحاها أشهر عالم على وجه الأرض، تزين صورته الصفحات الرئيسية لأهم الصحف في العالم.
كما وخصصت هذه الصحف العديد من صفحاتها في محاولة لشرح هذه النظرية لقرائها لكن دون جدوى، شرح النظرية النسبية العامة ببساطة كان وما زال أمراً صعباً جداً.
ومن القصص الطريفة التي يجدر ذكرها أن أحدهم توجه لآرثر إدينچتون في عام 1919 قائلا: “بروفيسور إدينچتون، لا بد أنك واحد من ثلاثة أشخاص في العالم الذين يفهمون النظرية النسبية العامة”، وعندما تأخر إدينچتون في الرد عليه قال له الرجل “لا تكن متواضعا بروفيسور إدينچتون”، فعندها أجابه إدينچتون “على العكس، فأنا فقط أحاول أن أفكر من هو الشخص الثالث” (أي أن أينشتاين وهو فقط في كل العالم يفهمان هذه النظرية).
شهد أينشتاين خلال حياته عددا من النجاحات الكبيرة لنظريته، مثلا تنبأ بتغيير طفيف في حركة الكوكب السيار عطارد نتيجة قربه من الشمس بحوالي درجة واحدة كل مئة قرن.
لكن أهم هذه النجاحات هو تنبؤ النظرية النسبية العامة بانتشار الكون، ولهذا الموضوع قصة مثيرة للاهتمام.
لقد أدرك أينشتاين بأن الجاذبية لن تسمح للكون بأن يكون ساكنا، فهي قوة تؤدي دائما لجذب المادة بعضها لبعض (لا يمكن إلغاء قوة الجاذبية)، مما ينتج عن كون دائم التغير.
هذه النتيجة لم تعجب أينشتاين من منطلقات فلسفية، فقد اعتقد بأن كونا “أزليا” يجب أن يكون ساكناً.
لهذا أضاف أينشتاين، إلى معادلات النظرية النسبية العامة التي تصف الكون، حداً ثابتاً جديداً ينتج عن قوة تنافر تلغي تأثير الجاذبية، وسمّى هذا الحد بالثابت الكوني (Cosmological Constant).
وحين أرسل له العالم الروسي الكسندر فريدمان (Alexander Friedmann) مقالا حول انتشار الكون، أهمله أينشتاين ووصفه بأنه مجرد تمرين في الرياضيات (أي بدون عواقب فيزيائية).
طبعا كان أينشتاين مخطئا، ففي عام 1929 نشر عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل (Edwin Hubble) نتائجه حول حركة المجرات التي بينت، بما أصبح يعرف بقانون هابل، أن الكون هو فعلا في حالة انتشار، بالضبط كما تنبأ فريدمان.
هذا مثال آخر عن مفاجأة الطبيعة لنا دائما وتبيين أن الآراء المسبقة كثيرا ما تكون مرشد ضلال، حتى لأعظم العلماء.
بعد هذا الاكتشاف، اعترف أينشتاين بخطئه ووصف الثابت الكوني بأنه أكبر خطأ في حياته.
في السنوات التي مرت منذ وفاة أينشتاين في عام 1955، أصبحنا ندرك تدريجيا مدى أهمية نظريته وأبعادها.
فهي تتنبأ بوجود ثقوب سوداء لا تسمح حتى للضوء بالهروب منها، تتكون عندما تموت النجوم الكبيرة، وتؤدي خلال تكونها إلى انفجار هائل لطبقات النجم الخارجية يسمى بانفجار السوبرنوڤا، تزن هذه الثقوب السوداء أضعاف كتلة الشمس على الأقل.
بل وأكثر من ذلك، فنحن نعرف اليوم بأن هناك ثقوبا سوداء عملاقة، تكونت بعد نشوء الكون بقليل، تقطن في مركز المجرات، تتراوح كتلتها بين مليون إلى عدة مليارات مرة كتلة الشمس (الثقب الأسود في مركز مجرتنا يزن حوالي 4 ملايين كتلة شمسنا).
وهذه الأجسام غريبة جدا، حتى كدنا نحسب أنه قد اختلط الزمان بالمكان والخيال بالواقع على العلماء الذين يدرسونها.
أصبحنا أيضا نرى كيف تُركِّز عناقيد المجرات التي تحوي آلاف المجرات الضوء الآتي من خلفها، كما تركز العدسات الزجاجية الضوء، مكونةً عدة صور للأجسام نفسها.
يستخدم فيزيائيو الفلك هذه الظاهرة، التي تعرف باسم العدسة الجاذبية (Gravitational Lensing)، لقياس وزن عناقيد المجرات ليستنتجوا أن كمية المادة المسؤولة عن العدسة الجاذبية هي أكبر بكثير مما نراه في المجرات والأجسام المضيئة.
هذه المادة غير المرئية، والتي تختلف جوهريا عن المادة التي تكون العناصر الكيميائية المألوفة للبشر، تسمى المادة المعتمة.
(أنظر الصورة التي تبين أربع صور للجسم نفسه يكونها انحراف ضوئها بواسطة المجرة الظاهرة في وسط الصورة).
ولعل أهم نتيجة لنظرية أينشتاين هي أننا نعرف اليوم، بفضلها، مكونات الكون بدقة كبيرة.فنحن نعرف بأن المادة العادية التي منها صُنع كل شيء حولنا تكِّون فقط حوالي 5٪ من الكون، وحوالي ال 25٪ منه هي مادة معتمة لا نعرف ما هي ولكننا نعرف صفاتها.
وأما ال70٪ الباقية من الكون فهي على شكل طاقة معتمة، لا نعرف عنها الكثير سوى أنها تدفع الكون للتسارع بالانتشار، كما يفعل الثابت الكوني الذي اقترحه أينشتاين والذي ذكرناه سابقا (فهو في نهاية المطاف لم يكن مخطئا تماما).
هذا يتركنا في وضع غريب، فنحن نعرف بالضبط كم من المادة والطاقة يوجد في الكون، ولكننا لا نعرف ماهية 95٪ من هذه المكونات (هذا لا يعني أننا لن نعرفها مستقبلا).
تمكننا هذه النظرية أيضا من أن نعرف تاريخ الكون وماذا حدث له في مراحله المختلفة، منذ بدايته وحتى الآن.
أجمل وأعمق ما تمخضت عنه النظرية النسبية العامة، هو أنه بفضل أينشتاين ولأول مرة في تاريخنا كبشر، نحن نفهم علميا قصة كوننا.
في إحدى المقالات حول نظريته (1916) استخلص أينشتاين وجود الأمواج الثقالية (Gravitational waves) التي هي عبارة عن تموجات في هندسة الفراغ (هندسة الزمكان) وتنتشر بسرعة الضوء، ولكنه وعلى مدى فترة طويلة لم يكن متأكدا من صحة حساباته.
وعلى أية حال لم يعتقد بأننا يومنا نستطيع أن نقيس مثل هذه الأمواج، حتى إن وجدت، لضعفها الشديد.
ولكن وبعد مئة عام تماما أعلن علماء من مرصد LIGO في الولايات المتحدة عن رصدهم لأول مرة الأمواج الثقالية.
هذه الأمواج قد تنتج في الكون في ظروف مختلفة، مثلا خلال الانفجار الكبير أو سوبرنوفا (مستعر أعظم) التي تحدث عندما تموت النجوم الكبيرة، أو الثقوب السوداء وغيرها.
الموجات التي رصدها LIGO نتجت عن اصطدام واندماج ثقبان أسودان كتلة كل منهما حوالي 30 مرة كتلة شمسنا على بعد حوالي مليار سنة ضوئية عنا.
هذا الاكتشاف لا يؤكد فقط ما تنبا به أينشتاين بل، وربما أهم من ذلك، فهو يزودنا بنافذة جديدة مختلفة عن الأمواج الكهرومغناطيسية لرصد الظواهر الفيزيائية في الكون.
هنالك الكثير من الاستعمالات العملية لنظريات أينشتاين مثل استعمال نظام التموضع العالمي (GPS)، الذي يمكننا من الملاحة والتموضع بواسطة الأقمار الصناعية.
لكن أهم إنجازاته هي الإنجازات الفكرية التي تمكننا من فهم كوننا وواقعنا الموضوعي بعمق.
كان أينشتاين مبدعاً في طرح أسئلة جمعت بين العلم والفلسفة، فقد توخى دائما في أبحاثه بأن يجيب على أسئلة عميقة، وتميزت إجاباته دائما بأناقتها وجمالها، ولكن في الوقت نفسه أيضا، بجموح خيالها وتحديها للفرضيات المسبقة والأفكار المقبولة.
فحتى عندما أخطأ في اعتراضه على نظرية معينة يحملها أقرانه، أضاف لتلك النظرية الكثير، بمجرد طرح أسئلة عميقة حولها أجبَرَتهم على التعمق أكثر في فهم نظريتهم.
أنهي مقالي هذا باقتباس من خطاب قصير لجورج برنارد شو ألقاه على شرف أينشتاين عام 1930، قال فيه (وأقتبس هنا بتصرف للإيجاز): “نابليون ورجال عظماء مثله بنوا إمبراطوريات.
ولكن أينشتاين وأمثاله فعلوا أكثر من ذلك, فهم لم يبنوا إمبراطوريات بل صنعوا أكوانا كاملة، وهذا من غير أن يُسيلوا قطرة واحدة من دم اخوانهم البشر”.
أينشتاين هو ليس فقط عالم الفيزياء الكبير، بل هو الرجل الذي تحدى مجتمعه ليعارض الحرب، الفيزيائي الذي تساءل عن الأبعاد الفلسفية والإبيستمولوجية لنظرياتنا العلمية (بالذات في نقاشه مع الفيزيائي الشهير نيلز بوهر Niels Bohr)، هو العبقري المتواضع صاحب الظل الخفيف، وفوق كل شيء هو الإنسان الذي عاش خلال حربين قتلتا الملايين ودمرتا دولا ومجتمعات بأكملها، لكنهما لم تنجحا في تشويه إنسانيته وفكره.