قصة لوحة -------------- /
لم يخطرببالي أبدا أن هذه اللوحة ( الفانوس ) سيكون لها شأنا خاصاً و ستشكل منعطفاً هاماً في بداية تجربتي الفنية ..
في سن الثانية عشرة من عمري ... أذكر أنني فرحت كثيراً وشعرتُ بغبطةٍ لم أشعر بمثلها من قبل لإنتقالي من مرحلة التعليم الإبتدائي إلى مرحلة التعليم الإعدادي ...
شعرت حينها أن كابوساً و قد أزيح عن صدري .. قد عانيت الكثير من الإحباطات في التعليم الأساسي . إضافة للقهر النفسي و الحرمان و شقاوة الطفولة .
رغم نبوغ موهبة الرسم لدي دون أن أدري .. و أنا على مقاعد الدراسة أتعلم أبجدية الحروف .أطلق عليّ زملائي آنذاك رسام الصف و أساتذتي فنان المدرسة .
الفانوس الذي رسمته بهذه اللوحة كان له قصة أخرى .. جاء به أخي الأكبر و هو الشاعر محمد مرعي مهنا.. عندما كان يخدم إلزاميته في الجولان .. حكى لنا قصص وحكايا عن جلسات زملائه و هم يتسامرون و يحكون القصص على ضوء هذا الفانوس... بالخيمة التي كانوا يقيمون بها ...هذا ما أثار فضولي لرسم هذا القنديل الذي أعطاني شحنة عاطفية جعلتني أتلمس و بشكل فطري مكامن الجمال فيه مما دفعني كي أرسم هذا الشكل الذي دغدغ خيالي و تصوراتي عما سمعته من حكايا و قصص دارت بين من عاشوا بأجوائه من زملاء أخي و هم في خيمة العسكر على جبهة الجولان .
وضعت هذا الفانوس و أشعلت ضوءه .. و لأستطيع أن أرسمه بإنبعاث ضوءه وضعتهُ في سحارة للخضار ووضعت السحارة في مكان مظلم لأرى إنعكاس نوره بشكلٍٍ واضحٍ .
أنهيت هذا العمل ولم أدرك في حينها أنني رسمته بدقة قد يعجز عنها الفنانين الكبار
شاركت بهذه اللوحة و لوحات أخرى رسمتها في معرض أقيم في مدرسة عبد الرحمن الغافقي في حي المشارقة في حلب و كان لهذا المعرض صدى كبير بين جميع المدارس آنذاك . كان مدير المدرسة إستاذنا الشاعر محمد حمدان و كان له الفضل في تشجيعي أنا و مجموعة من زملائي من طلاب المدرسة .حيث أوجد لنا قاعة خاصة للرسم من أجل إقامة هذا المعرض المدرسي . و قد خُصصت لي قاعةٌ خاصةٌ عرضت فيها جميع لوحاتي التي أنتجتها في مرسم المدرسة .
المعرض كان عام 1968 في نهاية المرحلة الإعدادية من دراستي .... وكنت قد سجلت قبل هذا التاريخ في مركز فتحي محمد للفنون التشكيلية بحلب .
حملت هذه اللوحة ( الفانوس ) مع لوحة ( نهاية ) و لوحة ( أمومة ) رسمتها بأسلوب حديث عند سماعي أن هناك معرضا فنياً لطلاب مراكز الفنون التشكيلية في سوريا , وسيقام هذا العام في مدينة حلب.
- مركز الفنون التشكيلية آنذاك كان يجمع العديد من المواهب من الشباب و من أعمار مختلفة -
ذهبت بالأعمال الثلاث إلى المركز بعد أن ترددت بالمشاركة خوفاً من أن لا تكون على المستوى المطلوب .... وضعت هذه اللوحات في ركن كانت تُجمّع فيه لوحات المعرض بالمركز ؛ دون أن أخبر أحداً ؛ أو أن آخذ وصلاً بالإستلام ,, وغبت عن إرتياد مركز الفنون أياماً عدة .. للخشيةً من عدم قبول لوحاتي .
إلى أن جاء موعدُ إفتتاح المعرض .. ذهبت بعد تردد يشوبهُ الخوفُ و الأمل .. كان المكان قاعة المتحف الوطني بحلب . و جدت جماهير غفيرة في قاعة المعرض فوقفت في آخر الصف مع الواقفين ممن لم يتسنى لهم مكان للجلوس .
ثم فجأةً مد شخصٌ يده و أمسك بيدي و سحبني معه .. وإذ هو أساتذي في المدرسة ( محمد إعزازي ) جازاه الله كل خيرٍ .. هذا الفنان الكبير الذي كان له فضلاٌ على عددٍ كبيرٍ من فنّاني حلب ... أوجه له التحية و الإكبار على ما قدمه لي من تشجيع و إهتمام .
( أتذكرُ أنه و في أحد الدروس وضع أمامنا طبيعة صامتة و طلب منّا رسمها بالألوان المائية .. و عندما إطّلع على ما رسمناه تناول لوحتي من بين جميع الأعمال و عرضها بحيث يراها بقية الطلاب ...
قال لهم : لو أن هناك علامةً أعلا من المقررة / و كانت في وقتها علامة 20 / لأعطيته علامة المئة . و طلب من الطلاب الوقوف و التصفيق . هذا المشهد لن أنساه من هذا المربي الفاضل . )
سحبني معه الى الصف الامامي و أجلسني بجانبه و لم يتكلم كلمة واحدة .
أما أنا فإعتراني شعورٌ لم اعرف وقتها ما هو ,, أو لا مبالاة . ينطبق علي المثل الشعبي - مثل الأطرش بالزفة - كانت أنظارنا مشدودة لمنصة الإحتفال .
أذكر حينها أنه لم يخطر ببالي إلا شيئاً واحداًً و هو الخوف من أنني لن أجد لوحة من لوحاتي في المعرض .
فجأة ... و بعد كلمات إفتتاح المعرض بحضور وزير الثقافة آنذاك سهيل الغزي و مدير مركز الفنون التشكيلية آنذاك في دمشق ( مركز أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية) طارق الشريف . رحمه الله ..
و بدأ الإعلان عن توزيع الجوائز للطلاب المشاركين في هذا المعرض .
لم أصدق ما سمعته ... إنتابني ذهول من نوع غريب .... تلفتت من حولي عن صاحب هذا الإسم ( الجائزة الأولى عبد الرحمن مهنا ) . أشار إلي إستاذي الذي أجلسني بجانبه بالذهاب .. و لكنني ترددت لم إصدق ربما الجائزة لآخر ؟؟
لم اترك مكاني .. وقف إستاذي محمد إعزازي و مسك بيدي و أشار الي الذهاب للمنصة .. لا أعرف كيف وصلت الى تلك المنصة والزمن الذي مرّ بي للوصول . والإحساسات التي إنتابتني في هذه اللحظة ..... كان الله بعوني .... الله وحده يعلم ما حدث بداخلي ... و تعالى تصفيق الحضور أما أنا لم أكن أدري من أنا ؟؟ و كيف إستطعت الوصول إلى منصة الخطباء . لحظتها شعرت ان العالم انقلب من حولي ودارت بي الدنيا .. .لحظةٌ لن أنساها ما حييت . و تسلمت حينها الجائزة العينية مع براءة تقدير رقم 1.
و بعد أيام تناولت الصحافة هذا الحدث بالنقد و التحليل .. كان حدث ينتظره الكثير من المتابعين للفن و الحركة التشكيلية في حلب
( مركز الفنون التشكيلية آنذاك كان بمثابة جامعة شعبية للفن تتبنى الإهتمام بالفنانين الشباب و الموهوبين و من كافة الأعمار و قد تخرج من هذا المركز مجموعة كبيرة من الفنانين أصبح لهم حضور مهم في الساحة السورية التشكيلية مستقبلا )
كان هناك من لم يصدق ان هذه الاعمال الثلاث المعروضة و التي فازت هي لطالب مدرسة في المرحلة الإعدادية وهناك من شكّك بنسب هذه الاعمال لهذا الشاب و تباينت الآراء و ظهرت تناقضات مختلفة بشأن هذا المعرض و هذه الجائزة الذي حصل عليها شاب لا يتجاوز عمرة السابعة عشر عاما و هناك من قال ان هذه الأعمال ليس قادر على رسمها الا فنان له تجربته الطويلة في الرسم... و آخر إدعى انها نقلٌ أو نسخٌ من لوحة لفنان عالمي .
هذه الضجة وهذه الآراء التي أثيرت وقتذاك .و ما أثير حولها من ملابسات لمن تعطى الجائزة و أحقيتها .
أعطاني دافعً و ثقة بالنفس . و في تأكيد حضوري الفني في الساحة التشكيلية السورية منذ البدايات .
و مازلت إلى الآن اتلمس بداية المشوار إلى هذا العالم التشكيلي الواسع رغم ما صادفته من معاناة من الوسط التشكيلي بعد إنتقالي إلى دمشق ..و لم يمنعني ذلك من مواصلة المشوار .. في وسط فنيٍ شائك بمتناقضاته وحضوره . ؟؟؟؟ !!!!!!
\ وللوحة الفانوس هذه قصص وحكايا أخرى سنرويها لاحقاً .. \
\ الصور : من أرشيف الإستاذ محمد حمدان .. كان بودي أن أرفق \ قصة لوحة \ بصور وثائقية عن المعرض تحكي الحدث الذي رافق قصة لوحة .. ولكن الظلام دمّر أرشيفيّ الضخم من الصور والوثائق عن مسيرة حياتي في متحفي .
تعليق