مالتوس (توماس روبرت)
Malthus (Thomas Robert-) - Malthus (Thomas Robert-)
مالتوس (توماس روبرت ـ)
(1766 ـ 1834م)
توماس روبرت مالتوسMalthus R.Thomas مفكر وعالم اقتصاد بريطاني مشهور كان له أثر كبير في تطور الدراسات السكانية حتى أصبح واحداً من مشاهير علم السكان، تميز بنظريته المعروفة التي تفسر تزايد الفقر ومشكلاته في العالم بتزايد عدد السكان ونموه بمعدلات تزيد على معدلات النمو الاقتصادي، وقد أدت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي عاش فيها دوراً كبيراً في تحديد طبيعة منهجه وطريقة تفكيره وأطروحته حول علاقة السكان بالاقتصاد. وقد شهدت بريطانيا في تلك الفترة تحولاً في اقتصادها من الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية، فصارت الصناعة هي المجال الرئيس للحصول على الأرباح، وتعاظم الاستخدام الموسع للتقنيات في مجال الإنتاج بصورة محسوسة، الأمر الذي أدى إلى انتشار مشكلات خطيرة، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، فقد حدث نقص شديد في إنتاج المواد الغذائية، ومن ثم ارتفاع في أسعار الحاصلات الزراعية (نتيجة التحول الذي طرأ على الزراعة وإدارتها بالأسلوب الرأسمالي القائم على المزارع الضخمة المتخصصة في إنتاج المواد الخام اللازمة لدوران دولاب الإنتاج في المصانع)، كما ارتفعت الكثافة السكانية بوضوح في المناطق الصناعية الناشئة، وازداد عدد قاطني المدن، في الوقت الذي لم تتم فيه حركة موازية لبناء المساكن، فزاد التكدس البشري في الغرف وساءت أحوال العمال وتكاثر الفقر وزادت البطالة وانتشرت عمليات التسول والسرقة والتشرد.
خرج مالتوس في ظل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية المعقدة والتي شغلت جلّ اهتمامه؛ بنظريته عن السكان التي تدور في مجملها حول الإجابة عن تساؤل أساسي مؤداه: ما هو مدى تأثير النمو السكاني في رفاهية هؤلاء السكان؟
وبعكس الأفكار والنظريات التي كان يدعو إليها بعض الكتاب المعاصرين له، مثل ريكاردو D.Ricardo، وكوندورسيه [ر] Condorcet، وليم غدوين W.Godwin، والتي ترى أن ما يعانيه الإنسان من آلام وفقر وحرمان، يرجع إلى الأنظمة الاجتماعية، وسوء تنظيم المؤسسات الحكومية، والقوانين الجائرة الفاسدة. عدّ مالتوس أن هذا الفقر والحرمان والبؤس وسوء أحوال المعيشة ما هي إلا نتيجة طبيعية للنمو السكاني، انطلاقاً من أن الأعداد المتزايدة للسكان ستحول دون تحقيق أي تحسن في الجانب الاقتصادي بما ستسببه من ضغط على وسائل الإنتاج وخاصة الأرض، وهذا يعني أن أي محاولة لزيادة إنتاج الموارد الغذائية وتحسين الوضع الاقتصادي ستكون محكومة بالإخفاق ما لم يتم ضبط النمو السكاني وإيقافه.
إن جوهر المعضلة عند مالتوس يكمن في التناقض بين قدرة السكان على التزايد وقدرة الأرض على إنتاج الغذاء، فطالما أن زيادة السكان هي عملية بيولوجية كما يرى ولا علاقة لها بالنظم الاجتماعية السائدة، وبحسبان أن الغريزة الجنسية التي تحكم ميل كل من الجنسين إلى الآخر سوف تظل في المستقبل على حالتها تقريباً، فإن قدرة السكان على التكاثر ستبقى خاضعة في نموها للمتوالية الهندسية (1، 2، 4، 8، 16، 32)، ومن ثمّ فإن أعداد السكان ستتضاعف كل ربع قرن وستستمر بالزيادة إلى ما لا نهاية ما لم يعرقل هذا النمو موانع معينة.
هذا التزايد في أعداد السكان لن يواكبه تزايد مماثل في الموارد الغذائية، لأن قدرة الأرض على إنتاج الغذاء محدودة للغاية؛ وذلك بالنظر إلى قانون الغلة المتناقصة الذي يجعل من إنتاج الموارد الزراعية ينمو وفق متوالية حسابية (1، 2، 3، 4، 5، 6)، ممّا يعني أن الفجوة بين عدد السكان والموارد الغذائية ستزداد اتساعا وستكون النسبة بينهما (256 إلى 9) بعد قرنين من بداية زمنية مفترضة، وفي مثل هذا الوضع الذي يختل فيه التوازن بين عدد السكان وموارد العيش، فإن النتيجة الحتمية في ذلك ستكون الزيادة في مآسي البشرية وآلامها وتعقد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، كالجوع والبطالة والفقر وسوء أحوال الصحة العامة وانتشار الرذيلة وفساد الأخلاق.
ولإبعاد خطر النتائج السيئة لزيادة السكان، أو للتغلب على التناقض بين نمو السكان ونمو الموارد الغذائية ومن ثم تحقيق التوازن بينهما، أكد مالتوس ضرورة الموانع التي تكبح نمو السكان وتُنقص أعدادهم، وهي ما أطلق عليها الموانع الأخلاقية والموانع الإيجابية. تقوم الأولى على إرادة الإنسان في منع الشر قبل وقوعه، وذلك بتعقل الإنسان وتبصره وبعد نظره مثل العفة و الزهد والرهبنة وإرجاء سن الزواج وكبح جماح النفس في أثناء الزواج، غير أن هذه الموانع لا تكفي وحدها لموازنة أعداد السكان مع الموارد لأن كثيراً من الأفراد لا يملكون النظرة الثاقبة والبصيرة النافذة، ولا تتوافر عند الجميع قوة العزيمة والقدرة على كبح جماح الشهوات وخاصة الطبقات الدنيا، متمثلة بالفقراء، لعدم وصولهم إلى تلك الدرجة من العلم والثقافة التي تمكنهم من ذلك، ولذلك لابد من تدخل العوامل الخارجية الطبيعية التي يسميها الموانع الإيجابية مثل الفقر المدقع والأمراض والأوبئة والعمل في المهن الضارة بالصحة والقحط والمجاعات والحروب وغير ذلك، مما يمكن القول عنه كل عوامل البؤس التي تزيد نسب الوفيات وتنقص أعداد السكان.
نظر مالتوس إلى هاتين المجموعتين من الموانع على أنها أمور حتمية ينبغي تحقيقها لإعادة التناسب بين حجم السكان وحجم الموارد، ونظر إلى الموانع الإيجابية على أنها رد فعل من الطبيعة تقوم به لإحداث هذا التناسب إذا لم يعمل الإنسان بوعي منه للحدّ من الزيادة السكانية.
إن نمو السكان يتحدد كلياً في الغالب بندرة موارد المعيشة أو زيادتها. ومن ثم إذا كانت تلك الموارد كافية فإن هذا سيساعد على زيادة السكان، ولذلك فقد قال بضرورة اتخاذ السبل والإجراءات التي من شأنها منع الفقراء من الزواج وكثرة الإنجاب، وقد نصح الدولة بألا تقدم أي معونة أو مساعدة لهم؛ لأن التحسن في مستوى معيشتهم سيعمل على ارتفاع نسبة الزواج عندهم ومن ثم على زيادة عدد الأولاد على نحو لا يتناسب مع الإمكانات المتاحة؛ فيعيدون الدور الأول من الشقاء والبؤس.
أدت الرؤية المالتوسية في السكان مهمتها التاريخية بنجاح، ليس في الوقت الذي ظهرت فيه فحسب بل حتى هذا الوقت، فقد وجد ولايزال كثير من الكتاب الذين اقتفوا أثر مالتوس في تحليله وتصوره للعلاقة بين السكان والاقتصاد، وهذا ما بدا واضحاً في فلسفات كثير من المفكرين الذين جاؤوا بعد مالتوس وفي نظرياتهم، سواء أكان في القرن التاسع عشر، أم في القرن العشرين. ففي القرن التاسع عشر، وعندما أخذ جان باتيست ساي J.B.Say، مثلاً يتناول مسألة العلاقة بين السكان والإنتاج؛ يُلاحظ أنه كان يردد الأفكار المالتوسية بصورة واضحة، ويجد أن الكائنات الحية بصورة عامة تميل إلى التكيف دائماً مع القدرة في الحصول على الغذاء، أما البشر فيعتقد ساي أن القوة الجنسية لديهم تجعلهم يتزايدون بمعدلات أكبر من الوسائل اللازمة لإعاشتهم.
وفي عام 1836 نشر ن. سينيور N.W.Senior مؤلفه «الاقتصاد السياسي» وفيه يتفق مع مالتوس في أن الجنس البشري يتضاعف مرة كل خمسة وعشرين عاماً، في حين تزيد كمية الإنتاج المتاحة من الأرض والحيوانات بنسب أقل، ويرى أن التزايد السكاني محدود في نموه بالغلة المتناقصة في الزراعة، ولهذا السبب لابد من أن يخضع النمو السكاني لبعض الموانع الوقائية والموانع الإيجابية، وفي مقدور المجتمع الإنساني أن يطبق ذلك طوعياً مثل تأخير سن الزواج وتقليل الإنجاب وغيرها. وفي عام 1877م أُسست جمعية في بريطانيا سميت بالجمعية المالتوسية وأصدرت مجلة بعنوان «المالتوسي»، هذا إضافة إلى كثير من الأسماء التي عُرفت في جميع البلدان الغربية على مسار القرن التاسع عشر. ولكن مع قدوم القرن العشرين ومع النمو المستمر الذي حققته الاقتصاديات الرأسمالية منذ مطلع القرن وما رافق ذلك من انخفاض في معدلات النمو السكاني في معظم الدول الرأسمالية، فقد خف الحماس للأفكار والرؤية المالتوسية، ولم يعد يتحدث أحد عن خطر الزيادة السكانية، إلى أن بدأت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين بدأت المالتوسية تعود في ثياب جديدة، وصارت تظهر في الدول الأوربية الرأسمالية الكتب والأبحاث والمقالات الملونة بالتفكير المالتوسي الصارخ أحياناً والباهت أحياناً أخرى. ولم يقتصر الأمر على الاقتصاديين فقط بل امتد ليشمل الفلاسفة وعلماء النفس والتاريخ والكيمياء والمهندسين. من المالتوسيين الجدد الذين استغلوا واقع الدول المتخلفة التي تشهد انفجاراً في نموها السكاني، ليؤكدوا أن سبب التخلف يعود إلى العامل السكاني الجديد، ومن أبرز المالتوسيين الجدد:
- الأمريكي وليم ڤوغت W.Vogt: صاحب كتاب «الطريق إلى البقاء» الصادر عام 1948. يقول فيه: «ما لم تتوقف الزيادة السكانية فإنه لابد لنا من إلقاء سلاح المعركة لأنه لم يحدث قط في التاريخ أن تأرجحت كل هذه المئات الكبيرة من ملايين البشر عند حافة الهاوية».
- آرثرلويس :Arthur Lewis صاحب نظرية «عرض العمل». نشر كتاباً عام 1954 عدّ فيه، وفق المبدأ المالتوسي، أن عرض العمل غير المحدود، إنما ينتج من الزيادة السكانية ويؤدي إلى انخفاض أجور العمال وارتفاع معدلات البطالة والعيش في مستوى معيشي منخفض.
- هارڤي ليبنشتين :Harvey Leibenstein صاحب نظرية «التوازن شبه المستقر عند حد الكفاف». نشر كتاباً عام 1956، تعرض فيه لخصائص الوضع الديموغرافي في الدول المتخلفة، وتوصل إلى استنتاج مؤداه أن الزيادة السكانية هي التي تعيد دائماً دخل الفرد في هذه الدول إلى النقطة التي بدأ منها وهي حد الكفاف.
- ريتشارد نيلسون R.R.Nelson: صاحب نظرية «المصيدة السكانية». نشر كتاباً عام 1957 عدّ فيه أن الزيادة السكانية في البلدان المتخلفة هي التي تدفع النظام المتخلف إلى التذبذب دائما حول مستوى الركود، وافترض نيلسون أنه في المناطق التي يكون فيها الدخل منخفضاً فإن ثمة علاقة توجد بين الزيادة التي تحصل في مستوى الدخل وعدد السكان، فالزيادة التي تحصل في الدخل القومي تؤثر بشكل مباشرة في زيادة الدخل، مما يساعد على تحسين الوضع الصحي للسكان، فينخفض معدل الوفيات ويرتفع معدل النمو السكاني، فيمتص النمو السكاني كل فائض في الوضع الاقتصادي، فيحافظ المجتمع على توازنه، أما في المناطق التي يكون فيها الاقتصاد متخلفاً، فيبدو الأمر أكثر تعقيداً، فمعدلات النمو السكاني تزيد على معدل نمو التراكم الرأسمالي، فيتراجع الدخل الفردي، وقد يصل إلى حد الكفاف.
ويضاف إلى ذلك عدد من الكتَّاب الذين كانوا أكثر تطرفاً ومغالاة من مالتوس في حديثهم عن مخاطر النمو السكاني حتى عدَّ بعضهم أن خطر الزيادة السكانية سوف يهدد البشرية بدرجة أخطر من تهديد القنابل الذرية للسلام العالمي، وتبعاً لهذه التصورات جاءت الحلول المالتوسية الأكثر تطرفاً، فقد رأى بعضهم ضرورة تعقيم الرجال والنساء لإفساد قدرتهم الجنسية على الإنجاب، أو استخدام وسائل للتعقيم الجماعي باستخدام مواد كيمياوية تبث في مواد الطعام أو الماء من دون أن يدري الناس بها، وآخرون رأوا ضرورة اتخاذ إجراءات من شأنها أن تحد من الزيجات والإنجاب.
هذه النظرة المالتوسية لم تؤثر بهذه الطريقة فقط في تفكير الأفراد؛ بل أثرت أيضاً في سلوك الدول الرأسمالية الغنية مع الدول المتخلفة الفقيرة، فأصبحت اليوم سياسة تحديد النسل تمثل الشروط المرتبطة بتقديم المساعدات المالية إلى البلدان النامية إلى جانب الشروط الاقتصادية المعروفة. وبذلك أصبحت المسألة السكانية تمثل جزءاً لا يتجزأ من ظاهرة العولمة التي تسعى الرأسمالية العالمية إلى فرضها على الدول النامية.
عزت شاهين
Malthus (Thomas Robert-) - Malthus (Thomas Robert-)
مالتوس (توماس روبرت ـ)
(1766 ـ 1834م)
توماس روبرت مالتوسMalthus R.Thomas مفكر وعالم اقتصاد بريطاني مشهور كان له أثر كبير في تطور الدراسات السكانية حتى أصبح واحداً من مشاهير علم السكان، تميز بنظريته المعروفة التي تفسر تزايد الفقر ومشكلاته في العالم بتزايد عدد السكان ونموه بمعدلات تزيد على معدلات النمو الاقتصادي، وقد أدت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي عاش فيها دوراً كبيراً في تحديد طبيعة منهجه وطريقة تفكيره وأطروحته حول علاقة السكان بالاقتصاد. وقد شهدت بريطانيا في تلك الفترة تحولاً في اقتصادها من الرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية، فصارت الصناعة هي المجال الرئيس للحصول على الأرباح، وتعاظم الاستخدام الموسع للتقنيات في مجال الإنتاج بصورة محسوسة، الأمر الذي أدى إلى انتشار مشكلات خطيرة، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، فقد حدث نقص شديد في إنتاج المواد الغذائية، ومن ثم ارتفاع في أسعار الحاصلات الزراعية (نتيجة التحول الذي طرأ على الزراعة وإدارتها بالأسلوب الرأسمالي القائم على المزارع الضخمة المتخصصة في إنتاج المواد الخام اللازمة لدوران دولاب الإنتاج في المصانع)، كما ارتفعت الكثافة السكانية بوضوح في المناطق الصناعية الناشئة، وازداد عدد قاطني المدن، في الوقت الذي لم تتم فيه حركة موازية لبناء المساكن، فزاد التكدس البشري في الغرف وساءت أحوال العمال وتكاثر الفقر وزادت البطالة وانتشرت عمليات التسول والسرقة والتشرد.
وبعكس الأفكار والنظريات التي كان يدعو إليها بعض الكتاب المعاصرين له، مثل ريكاردو D.Ricardo، وكوندورسيه [ر] Condorcet، وليم غدوين W.Godwin، والتي ترى أن ما يعانيه الإنسان من آلام وفقر وحرمان، يرجع إلى الأنظمة الاجتماعية، وسوء تنظيم المؤسسات الحكومية، والقوانين الجائرة الفاسدة. عدّ مالتوس أن هذا الفقر والحرمان والبؤس وسوء أحوال المعيشة ما هي إلا نتيجة طبيعية للنمو السكاني، انطلاقاً من أن الأعداد المتزايدة للسكان ستحول دون تحقيق أي تحسن في الجانب الاقتصادي بما ستسببه من ضغط على وسائل الإنتاج وخاصة الأرض، وهذا يعني أن أي محاولة لزيادة إنتاج الموارد الغذائية وتحسين الوضع الاقتصادي ستكون محكومة بالإخفاق ما لم يتم ضبط النمو السكاني وإيقافه.
إن جوهر المعضلة عند مالتوس يكمن في التناقض بين قدرة السكان على التزايد وقدرة الأرض على إنتاج الغذاء، فطالما أن زيادة السكان هي عملية بيولوجية كما يرى ولا علاقة لها بالنظم الاجتماعية السائدة، وبحسبان أن الغريزة الجنسية التي تحكم ميل كل من الجنسين إلى الآخر سوف تظل في المستقبل على حالتها تقريباً، فإن قدرة السكان على التكاثر ستبقى خاضعة في نموها للمتوالية الهندسية (1، 2، 4، 8، 16، 32)، ومن ثمّ فإن أعداد السكان ستتضاعف كل ربع قرن وستستمر بالزيادة إلى ما لا نهاية ما لم يعرقل هذا النمو موانع معينة.
هذا التزايد في أعداد السكان لن يواكبه تزايد مماثل في الموارد الغذائية، لأن قدرة الأرض على إنتاج الغذاء محدودة للغاية؛ وذلك بالنظر إلى قانون الغلة المتناقصة الذي يجعل من إنتاج الموارد الزراعية ينمو وفق متوالية حسابية (1، 2، 3، 4، 5، 6)، ممّا يعني أن الفجوة بين عدد السكان والموارد الغذائية ستزداد اتساعا وستكون النسبة بينهما (256 إلى 9) بعد قرنين من بداية زمنية مفترضة، وفي مثل هذا الوضع الذي يختل فيه التوازن بين عدد السكان وموارد العيش، فإن النتيجة الحتمية في ذلك ستكون الزيادة في مآسي البشرية وآلامها وتعقد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، كالجوع والبطالة والفقر وسوء أحوال الصحة العامة وانتشار الرذيلة وفساد الأخلاق.
ولإبعاد خطر النتائج السيئة لزيادة السكان، أو للتغلب على التناقض بين نمو السكان ونمو الموارد الغذائية ومن ثم تحقيق التوازن بينهما، أكد مالتوس ضرورة الموانع التي تكبح نمو السكان وتُنقص أعدادهم، وهي ما أطلق عليها الموانع الأخلاقية والموانع الإيجابية. تقوم الأولى على إرادة الإنسان في منع الشر قبل وقوعه، وذلك بتعقل الإنسان وتبصره وبعد نظره مثل العفة و الزهد والرهبنة وإرجاء سن الزواج وكبح جماح النفس في أثناء الزواج، غير أن هذه الموانع لا تكفي وحدها لموازنة أعداد السكان مع الموارد لأن كثيراً من الأفراد لا يملكون النظرة الثاقبة والبصيرة النافذة، ولا تتوافر عند الجميع قوة العزيمة والقدرة على كبح جماح الشهوات وخاصة الطبقات الدنيا، متمثلة بالفقراء، لعدم وصولهم إلى تلك الدرجة من العلم والثقافة التي تمكنهم من ذلك، ولذلك لابد من تدخل العوامل الخارجية الطبيعية التي يسميها الموانع الإيجابية مثل الفقر المدقع والأمراض والأوبئة والعمل في المهن الضارة بالصحة والقحط والمجاعات والحروب وغير ذلك، مما يمكن القول عنه كل عوامل البؤس التي تزيد نسب الوفيات وتنقص أعداد السكان.
نظر مالتوس إلى هاتين المجموعتين من الموانع على أنها أمور حتمية ينبغي تحقيقها لإعادة التناسب بين حجم السكان وحجم الموارد، ونظر إلى الموانع الإيجابية على أنها رد فعل من الطبيعة تقوم به لإحداث هذا التناسب إذا لم يعمل الإنسان بوعي منه للحدّ من الزيادة السكانية.
إن نمو السكان يتحدد كلياً في الغالب بندرة موارد المعيشة أو زيادتها. ومن ثم إذا كانت تلك الموارد كافية فإن هذا سيساعد على زيادة السكان، ولذلك فقد قال بضرورة اتخاذ السبل والإجراءات التي من شأنها منع الفقراء من الزواج وكثرة الإنجاب، وقد نصح الدولة بألا تقدم أي معونة أو مساعدة لهم؛ لأن التحسن في مستوى معيشتهم سيعمل على ارتفاع نسبة الزواج عندهم ومن ثم على زيادة عدد الأولاد على نحو لا يتناسب مع الإمكانات المتاحة؛ فيعيدون الدور الأول من الشقاء والبؤس.
أدت الرؤية المالتوسية في السكان مهمتها التاريخية بنجاح، ليس في الوقت الذي ظهرت فيه فحسب بل حتى هذا الوقت، فقد وجد ولايزال كثير من الكتاب الذين اقتفوا أثر مالتوس في تحليله وتصوره للعلاقة بين السكان والاقتصاد، وهذا ما بدا واضحاً في فلسفات كثير من المفكرين الذين جاؤوا بعد مالتوس وفي نظرياتهم، سواء أكان في القرن التاسع عشر، أم في القرن العشرين. ففي القرن التاسع عشر، وعندما أخذ جان باتيست ساي J.B.Say، مثلاً يتناول مسألة العلاقة بين السكان والإنتاج؛ يُلاحظ أنه كان يردد الأفكار المالتوسية بصورة واضحة، ويجد أن الكائنات الحية بصورة عامة تميل إلى التكيف دائماً مع القدرة في الحصول على الغذاء، أما البشر فيعتقد ساي أن القوة الجنسية لديهم تجعلهم يتزايدون بمعدلات أكبر من الوسائل اللازمة لإعاشتهم.
وفي عام 1836 نشر ن. سينيور N.W.Senior مؤلفه «الاقتصاد السياسي» وفيه يتفق مع مالتوس في أن الجنس البشري يتضاعف مرة كل خمسة وعشرين عاماً، في حين تزيد كمية الإنتاج المتاحة من الأرض والحيوانات بنسب أقل، ويرى أن التزايد السكاني محدود في نموه بالغلة المتناقصة في الزراعة، ولهذا السبب لابد من أن يخضع النمو السكاني لبعض الموانع الوقائية والموانع الإيجابية، وفي مقدور المجتمع الإنساني أن يطبق ذلك طوعياً مثل تأخير سن الزواج وتقليل الإنجاب وغيرها. وفي عام 1877م أُسست جمعية في بريطانيا سميت بالجمعية المالتوسية وأصدرت مجلة بعنوان «المالتوسي»، هذا إضافة إلى كثير من الأسماء التي عُرفت في جميع البلدان الغربية على مسار القرن التاسع عشر. ولكن مع قدوم القرن العشرين ومع النمو المستمر الذي حققته الاقتصاديات الرأسمالية منذ مطلع القرن وما رافق ذلك من انخفاض في معدلات النمو السكاني في معظم الدول الرأسمالية، فقد خف الحماس للأفكار والرؤية المالتوسية، ولم يعد يتحدث أحد عن خطر الزيادة السكانية، إلى أن بدأت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين بدأت المالتوسية تعود في ثياب جديدة، وصارت تظهر في الدول الأوربية الرأسمالية الكتب والأبحاث والمقالات الملونة بالتفكير المالتوسي الصارخ أحياناً والباهت أحياناً أخرى. ولم يقتصر الأمر على الاقتصاديين فقط بل امتد ليشمل الفلاسفة وعلماء النفس والتاريخ والكيمياء والمهندسين. من المالتوسيين الجدد الذين استغلوا واقع الدول المتخلفة التي تشهد انفجاراً في نموها السكاني، ليؤكدوا أن سبب التخلف يعود إلى العامل السكاني الجديد، ومن أبرز المالتوسيين الجدد:
- الأمريكي وليم ڤوغت W.Vogt: صاحب كتاب «الطريق إلى البقاء» الصادر عام 1948. يقول فيه: «ما لم تتوقف الزيادة السكانية فإنه لابد لنا من إلقاء سلاح المعركة لأنه لم يحدث قط في التاريخ أن تأرجحت كل هذه المئات الكبيرة من ملايين البشر عند حافة الهاوية».
- آرثرلويس :Arthur Lewis صاحب نظرية «عرض العمل». نشر كتاباً عام 1954 عدّ فيه، وفق المبدأ المالتوسي، أن عرض العمل غير المحدود، إنما ينتج من الزيادة السكانية ويؤدي إلى انخفاض أجور العمال وارتفاع معدلات البطالة والعيش في مستوى معيشي منخفض.
- هارڤي ليبنشتين :Harvey Leibenstein صاحب نظرية «التوازن شبه المستقر عند حد الكفاف». نشر كتاباً عام 1956، تعرض فيه لخصائص الوضع الديموغرافي في الدول المتخلفة، وتوصل إلى استنتاج مؤداه أن الزيادة السكانية هي التي تعيد دائماً دخل الفرد في هذه الدول إلى النقطة التي بدأ منها وهي حد الكفاف.
- ريتشارد نيلسون R.R.Nelson: صاحب نظرية «المصيدة السكانية». نشر كتاباً عام 1957 عدّ فيه أن الزيادة السكانية في البلدان المتخلفة هي التي تدفع النظام المتخلف إلى التذبذب دائما حول مستوى الركود، وافترض نيلسون أنه في المناطق التي يكون فيها الدخل منخفضاً فإن ثمة علاقة توجد بين الزيادة التي تحصل في مستوى الدخل وعدد السكان، فالزيادة التي تحصل في الدخل القومي تؤثر بشكل مباشرة في زيادة الدخل، مما يساعد على تحسين الوضع الصحي للسكان، فينخفض معدل الوفيات ويرتفع معدل النمو السكاني، فيمتص النمو السكاني كل فائض في الوضع الاقتصادي، فيحافظ المجتمع على توازنه، أما في المناطق التي يكون فيها الاقتصاد متخلفاً، فيبدو الأمر أكثر تعقيداً، فمعدلات النمو السكاني تزيد على معدل نمو التراكم الرأسمالي، فيتراجع الدخل الفردي، وقد يصل إلى حد الكفاف.
ويضاف إلى ذلك عدد من الكتَّاب الذين كانوا أكثر تطرفاً ومغالاة من مالتوس في حديثهم عن مخاطر النمو السكاني حتى عدَّ بعضهم أن خطر الزيادة السكانية سوف يهدد البشرية بدرجة أخطر من تهديد القنابل الذرية للسلام العالمي، وتبعاً لهذه التصورات جاءت الحلول المالتوسية الأكثر تطرفاً، فقد رأى بعضهم ضرورة تعقيم الرجال والنساء لإفساد قدرتهم الجنسية على الإنجاب، أو استخدام وسائل للتعقيم الجماعي باستخدام مواد كيمياوية تبث في مواد الطعام أو الماء من دون أن يدري الناس بها، وآخرون رأوا ضرورة اتخاذ إجراءات من شأنها أن تحد من الزيجات والإنجاب.
هذه النظرة المالتوسية لم تؤثر بهذه الطريقة فقط في تفكير الأفراد؛ بل أثرت أيضاً في سلوك الدول الرأسمالية الغنية مع الدول المتخلفة الفقيرة، فأصبحت اليوم سياسة تحديد النسل تمثل الشروط المرتبطة بتقديم المساعدات المالية إلى البلدان النامية إلى جانب الشروط الاقتصادية المعروفة. وبذلك أصبحت المسألة السكانية تمثل جزءاً لا يتجزأ من ظاهرة العولمة التي تسعى الرأسمالية العالمية إلى فرضها على الدول النامية.
عزت شاهين