اخوان صفا
Ikhwan-Safa / Brethren of Purity - Ikhwan-Safa
إخوان الصفا
ليس من الغلو أن يعدَّ البحث في موضوع إخوان الصفا بحثاً عن لغز، بل عن كنز ثقافي عربي إنساني النزعة، تود فئات من المفكرين والعقائديين الاعتزاء له، إن لم يسعفها ادعاء انتمائه إليها، كما حاول أنصار فرق إسلامية شتى، وما يزالون.
فإذا اتجه النظر إلى البيئتين التاريخية والجغرافية التي يُفترض ظهور حركة إخوان الصفا فيهما، وهما القرن الرابع الهجري في ظل الدولة العباسية، بدءاً من البصرة، وفي حدود سنة 373هـ، ظهر أن السيادة الدينية غالبة في التقويم السياسي والثقافي والاجتماعي. وقد عزف العباسيون عن العصبية العربية،واستعانوا بالفرس ثم بالترك. وما عتم أولو النفوذ من هذه الأقوام غير العربية أن أخذوا يستبدون بشؤون الملك، وباتت الخلافة البغدادية متهافتة يدب فيها الفساد والانحلال، ولاسيما عندما دخل أحمد بن بويه بغداد غازياً فاتحاً سنة 334هـ فقابله الخليفة المستكفي بالله، واحتفى به، وبايعه أحمد، وحلف كل منهما لصاحبه، هذا بالخلافة، وذاك بالسلطنة. وفي ذلك اليوم شرّف الخليفة بني بوية بالألقاب. وأضفى على أحمد لقب صاحب العمران، معز الدولة، وهو من الشيعة الزيدية فأضمر أن يزيل الخلافة لتولية خليفة من الشيعة العلوية.
وقد كثرت في تلك الحقبة الثورات الانفصالية، وأسس العبيديون الدولة الفاطمية في مصر سنة 359هـ وازداد عبث القرمطية، وبلغت الحياة الاقتصادية والاجتماعية مبلغاً من السوء في العراق خاصة حتى أكل أهل بغداد الميتة والسنانير والكلاب. واشتد التفاوت الطبقي بين فئات الخاصة والعامة. وتميزت في صفوف الخاصة مراتب الخليفة وأهل الدولة وأرباب النفوذ من الأعيان وأتباع الخاصة من جندٍ وأعوانٍ وخدمٍ وطوائف العبيد والجواري والخصيان. كما تميزت من العامة فئات الأدباء والمثقفين الذين طمحوا إلى اللحاق بالخاصة وكذلك أرباب التجارات الثمينة والصناعات الراقية، وبقي بمعزل عن ذلك سواد سكان الريف وأهل المدن يعانون من الشطّار والعيارين.
وقد واكب هذه الأوضاع صراع صريح اضطرم بين العرب المعتزين بمنزلتهم التليدة والشعوبية الداعية خاصة إلى المساواة الإسلامية.
ولقيت حياة اللهو، بل المجون، مرتعاً خصباً إلى جانب ارتكاسات جد وتقشف،وزهد وتصوف. وانعكس ذلك كله في ازدهار خصومة «عقائدية» بين ملاحدة ومؤمنين،وزنادقة ومتكلمين وامتزجت في هذه المعارك ثقافات يونان وفارس والهند بالإبداع العربي الأصيل وبأطلال الثقافات الغابرة: زرادشتية وآشورية وثنوية ومجوسية.
وبقول وجيز: «لم يعرف المسلمون عصراً كالقرن الرابع للهجرة تناقضت فيه حياتهم العامة أشد التناقض» كما يقول طه حسين. وما لبث جدل هذا التناقض أن تمخض عن حركة تعكس معطياته وترمي إلى تجاوزها نحو ما هو أليق بالحياة الإنسانية بوجه عام. وتلكم هي - بوجه من أوجه الاعتبار الأساسي - حركة إخوان الصفاء.
إن نظرة أولى إلى أقدم إشارة علنية صحيحة وصلت عن هذه الحركة السرية، بل المكتومة تُشعر بالظرف الذي نشأت فيه، كما تُنبئ - بشيء كافٍ من الدقة - بالارتكاس الشديد الذي اكتنف ظهورها، وقابل دعوتها وإنتاجها الثقافي، وكان علامة تسويغ سريتها وكتمانها.
نعت أبو حيان التوحيدي [ر] في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» حياة الناس في زمنه بأنهم في «ظلمات البر والبحر، أعني الجهل وقلة الحياء». وأجاب في وصف زيد بن رفاعة بقوله:
«هناك ذكاء غالب، وذهن وقاد، ويقظة حاضرة، وسوانح متناصرة، ومتسع في فنون النظم والنثر... وتبصر في الآراء والديانات، وتصرف في كل فن... وقد أقام بالبصرة زماناً طويلاً، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم، وأنواع الصناعة: منهم أبو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي، وغيرهم فصحبهم وخدمهم».
وأضاف قائلاً: «وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة،وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قرّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله،والمصير إلى جنته.وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دُنست بالجهالات،واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة. وذلك لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية،والمصلحة الاجتهادية. وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال».
ولما جهر أبو حيان بهذا التعريف «المعاصر العليم»، ثارت حفيظة سيد تلك الندوة الثقافية «المتحررة» نفسه، فأنكر محمد بن بهرام وهو أبو سليمان المنطقي السجستاني مسعى الإخوان قائلاً كما يذكر صاحب «الإمتاع والمؤانسة»: «إنهم ظنوا ما لا يكون، وما لا يمكن، ولا يستطاع. ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة - التي هي علم النجوم والأفلاك والمجسطي والمقادير وآثار الطبيعة والموسيقى والمنطق...- في الشريعة، وأن يضموا الشريعة للفلسفة، وهذا مرام دونه حَدَد.. والله تعالى تمم الدين بنبيه، ولم يحوجه بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيان موضوع بالرأي... وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل، من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل.
وبالجملة: النبي فوق الفيلسوف. والفيلسوف دون النبي..». وعندما أهاج الحريري غلام بن طرارة يوماً في الوراقين (المقدسي)، وهو من إخوان الصفاء، اندفع مفصحاً عن بعض رأيه قائلاً: «الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط.
أما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلاً... وإنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة، لأن الفلسفة معترفة بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدة بها، وإنما جمعنا أيضاً بينهما لأن الشريعة عامة، والفلسفة خاصة، والعامة قوامها بالخاصة».
فحركة إخوان الصفاء تود جمع الفلسفة والشريعة،ولكنها ترجح - كما سيأتي - جانب العقل الانتقادي على الإيمان الاتباعي. وقد ضمّ تنظيمها نخبة من «الجادين»، كما يقول ستانلي لين - بول، الذين أخذوا يجتمعون في أماكن خاصة،ومواعيد دورية معينة، على اختلاف رتبهم. وأطلقوا على أنفسهم اسم:
«إخوان الصفاء، وخلاّن الوفاء، أهل العدل، وأبناء الحمد». وقد أصبحت العبارة الأولى كافية للدلالة عليهم، يضاف إليها في الغالب العبارة الثانية. ولكن جلّ الباحثين، على الأقل لم يفطنوا إلى دلالة العبارتين الأخيرتين. وسنبين مقصدهما في نظر الإخوان.
كتم إخوان الصفاء أسماءهم، وأسرّوا عددهم، وامتنعوا عن البوح بأسرار جماعتهم، ولم يصل من آثارهم المباشرة إلا نوعان من رسائل تنسب إليهم. النوع الأول يضم خمسين بل إحدى وخمسين رسالة وهبوها للناس عامة، وبثّوها في الوراقين، ولا تكاد تجتمع كلها لدى شخص واحد - وقد نشرت في بومباي سنة 1305هـ، ثم أعيدت طباعتها في القاهرة سنة 1928م بتصحيح خير الدين الزركلي.
والنوع الآخر هو «الرسالة الجامعة» - وقد طبعت بدمشق بتحقيق الدكتور جميل صليبا سنة 1948م - ويرى عارف تامر أنه نشر ما يسميه «جامعة الجامعة» في بيروت سنة 1959م.