حريه
Freedom - Liberté
الحرية
الحرية freedom، هي اختيار الفعل عن روّية، والقدرة على الفعل مع القدرة على اختيار ضده. ويتوقف مفهوم الحرية على الحدّ المقابل الذي يثيره في الذهن، مثل: الضرورة أو الحتمية[ر] أو الطبيعة[ر] أو القدر، وعلى الفرق بين حرية الاختيار وحرية التنفيذ التي تعني المقدرة على الفعل أو الامتناع عنه دون أي تأثيرات، أي الحرية الطبيعية التي تعبر عن الاستقلال الذاتي للكائن، وهي بالمعنى القانوني، القدرة على مباشرة الفعل مع انعدام القسر الخارجي. أما حرية التصميم، فهي القدرة على تحقيق الفعل دون الخضوع للتأثيرات الباطنية، سواء أكانت عقلية كالمبررات أم وجدانية كالدوافع، وتلك هي الحرية السيكولوجية، إنها إرادة تتقدمها الروّية مع التمييز بحسب «المقابسات» (أبي حيان التوحيدي).
وللحرية عند الفلاسفة مفاهيم مختلفة، منها:
ـ حرية الاختيار القائمة على الإرادة المطلقة، كأن ننسب إلى أنفسنا القدرة على الفعل بمقتضى إرادتنا والشعور بأن حريتنا وحدها علة أفعالنا، وهي حرية تعمل بطريقة تعسفية محضة، حين لا تكون سوابق الفعل كافية لتعيينه، وتتصل الحرية بهذا المعنى بما يسمى مفهوم «اللاتعيّن» والإمكان والعرضية، بمعنى انتفاء ما يدفعنا إلى الاتجاه نحو طرف دون الآخر، أي ملكة الاختيار دون باعث ما.
ـ حرية الكمال، أي التحرر من كل شر: كراهية، جهل، أهواء، غرائز، وهذا النوع من الحرية لا يوجد إلا في الله، الموجود الوحيد الحرّ بأكمل معنى، وقد تحوّل هذا الضرب من الحرية عند «الرواقيين» و«اسبينوزا» و«ليبنتز» إلى نوع من الجبرية[ر] أو الحتمية.
ـ الحرية القائمة على فكرة العليّة الشعورية «برغسون»، وهي لاتقتصر على إنجاز الفعل أو الإقلاع عنه دون اكتراث بصورة سلبية، بل هي حرية إيجابية يصدر الفعل فيها عن الذات العميقة بالمعنى الروحي لا بالمعنى البيولوجي، فالفعل الحر هو كل فعل يحمل بصمات شخصية الفاعل بكاملها، وفيها تكون العلاقة بين الفعل الحر وفاعله كالحرية بين العمل الفني والفنان.
وفكرة الحرية والشعور بها، شيئان مختلفان، فقد تكون الحرية نتيجة لواقعة أولية يقدمها الحس الباطن، كشعور بالقدرة على الفعل يخلق الجهد المركب للأنا. والواقعة الأولية عند «مين دوبيران» ليست هي الفكرة كما عند «ديكارت»، بل هي الجهد الذي يقوم عليه إدراك الذات لنفسها، من حيث هي قوة حرة. وقد استبدل «دوبيران» بعبارة «ديكارت» المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، عبارة: «أنا أريد إذن أنا موجود»، بمعنى أن الحرية النفسية التي يشعر بها المرء بقدرته على التأثير في جسمه والتحكم في أهوائه وانفعالاته، هي التجربة الأساسية التي يدرك فيها حريته، فحيث تنتهي الحياة الحيوانية، تبدأ الحياة الإنسانية، لذلك فإن من ينكر حريته ينكر إنسانيته، ولكن يبقى هنا خلط بين الحرية وفكرة الحرية، وكأن لا فرق بين الشعور الوجداني بالحرية وبين التصورات العقلية التي تنسب إلى الحرية.
ويميل بعض الفلاسفة المعاصرين مثل «ياسبرز» و«لافيل» و«مارسيل» إلى القول باستحالة تعريف الحرية، باعتبارها لايمكن أن تكون موضوعاً، ولايدخل وجودها دائرة النظام العقلي الموضوعي، أي إنها لايمكن أن تثبت أو تنفى في نطاق الموضوعية الصرفة، وعليه يجب رفض تعريفات الحرية بأنها انعدام القسر «الدليل الكوني» أو بأنها الاستقلال عن الدوافع والمبررات «الدليل السيكولوجي». يقول «ياسبرز»: إن البحث عن الحرية والشك بالحرية واليقين بالحرية، أمور تدخل في صميم وجود الحرية، فمشكلة الحرية هي مشكلة الذات التي تحمل همومها وتريد أن يكون هناك حرية، فإن مجرد الاهتمام بوجود الحرية ينطوي على فاعلية تتحقق في نطاقها الحرية، مما يعني القول بوجود هوية بين الوجود والحرية، لهذا يؤكد «ياسبرز» استحالة إثبات الحرية طالما أن الوجود ليس موضوعاً لأي برهان عقلي.
ويرى «لافيل» أن الحرية فعل يصاحب الانتقال من الإمكان إلى الوجود، لهذا فهي تنفصل عن المسؤولية، فالحرية هي عين الوجود، واستحالة معرفتها عقلياً تأتي من كون كل نظرية عقلية تفترض وجود ضرب من الانفصال بين الذات والموضوع.
ويرى «شوبنهور» الحرية أنها انعدام الضرورة، أي انعدام أي رابطة بين المبدأ والنتيجة وفقاً لقانون السبب الكافي، وبالتالي ربما كان هذا القول إنكاراً لمعنى الحرية أو إعطاءها مفهوماً سلبياً محضاً، فحين لا يعثر على مكان للحرية في عالم الأشياء يهرع إلى البحث عنها في نطاق السلب أو النفي والقول إنها انعدام العلة أو إنها ثغرة في جدار الحتمية. ويشكك أنصار الجبرية في قيمة الشعور المباشر بالحرية، فيبحثون أصله وسبب اعتقاد المرء أن في وسعه أن يختار بين فعلين مختلفين أو بين الفعل والامتناع عن الفعل، ليشيروا إلى إمكانية الوهم أو الخداع.
ويعتقد «اسبينوزا»: «أن الناس يخطئون إذ يظنون أنفسهم أحراراً، لأنهم يشعرون بأفعالهم ويجهلون العلل التي تدفعهم إليها»، فإن الحرية لا تكون ممكنة إلا عند الشعور ببواعث غير ملزمة تحفز على العمل بلغة القيم لا بلغة العلل، فالباعث قوة مؤثرة قوامها الجاذبية والقيمة المرغوبة. وقد حاول كَنت أن يحلّ التناقض بين الحرية والحتمية، بإحالته على التفرقة بين الظواهر الخاضعة للزمان والمكان، وبين الحقائق الخارجة على الزمان والمكان، لأن الحياة موجودة وجوداً حسياً، يتمثل في أفعال خارجية تابعة للتجربة ومترابطة كظواهر وفقاً لقوانين حتمية، وبهذا الاعتبار يعدّ الإنسان مجرد ظاهرة خاضعة لقوانين الضرورة في الجانب الذي يخضع للزمان ويتحقق في عالم التجربة، ويكون حراً في الطابع الخلقي بفعل حر عال على الزمان، وقد تكون الذات الحقيقية المعقولة اللامرئية هي التي تريد أن تكون خيِّرة أو شريرة بفعل لازماني، ثم تجيء الحياة الزمنية كتعبير مرئي عن الاختيار الأصلي، وهكذا يكون الإنسان حراً ومجبراً، وبذلك يصل كَنْت إلى الأخلاق. وقوام الأخلاق فكرة «الواجب». الواجب يتصف بالصورية المحضة والأمر المطلق واليقين الخالص والنزاهة المحضة والتعبير عن صوت العقل، وكل ماعدا الواجب يطاله الشك، ولكن ما قيمة تلك الحرية المتعالية التي لا يملكها الإنسان إلا بمقدار ما تخرج ذاته عن الزمان وتندرج في عالم الشيء في ذاته، وحين تخرج الذات عن الزمان إلى عالم المعقولات تكون لا معقولة أو حرية صوفية، فالبحث عن الحرية يجب أن يكون في الوجود الواقعي، في نطاق المجتمع بدلاً من البحث عنها في عالم الشيء في ذاته، وهنا نصل إلى ما يسمى بـ «الدليل الاجتماعي» الذي يقوم على القوانين والجزاءات، مما يفترض أن يكون الإنسان خالق أفعاله ومسؤولاً عنها، على الرغم من اختلاط فكرة المسؤولية بالخوف من العقاب. إن مسؤولية الإنسان لا تنفصل عن شعوره بأن حياته هي من صنعه، وأنه الأصل في أفعاله الخيّرة والشريرة معاً، والقوانين تقوم فعلاً على الإيمان بالحرية والاعتقاد بالمسؤولية.
إن «الدليل الأخلاقي» لا يعدّ برهاناً عقلياً، لأن الحرية لا تستنتج من الالتزام، بل من إدراك الذات كحرّ وملتزم في آن معاً، وكذلك «الدليل الاجتماعي» لأنه يرتد في النهاية إلى «الدليل السيكولوجي»، وهكذا لا يبقى دليل على وجود الحرية سوى «الدليل الميتافيزيقي» القائم على فهم معنى الإرادة وتحليل مضمون الفعل الإرادي، حيث أن الإرادة تتجه صوب الموضوعات وفقاً لما تبدو لها الموضوعات مرغوبة، حيث لا توجد حرية إلا حينما تعمل وفقاً لأسباب معقولة، وليس وفقاً لقوى خارجية أو علل أجنبية.
الحرية والضرورة freedom and necessity
يرتبط مفهوم الحرية مع مفاهيم أخرى تتضمن معاني الضرورة أو الحتمية أو الجبرية، فالحرية لاتُفهم إلا في ضوء نقيضها، وإلا لكانت كما يقول «ياسبرز» جوفاء لا معنى لها إذا لم يكن ثمة ما يضادها، لأن المعنى السلبي يساعد على التحديد، ولكن الضرورة تؤخذ بمعنيين: الأول هو ما يقابل الممكن والعرضي، والثاني ما يقابل الحر أو المختار.
ظهرت الفكرة عند اليونان على شكل فكرة «القَدَر» بوصفها ضرورة لابد أن يخضع لها الجميع، إلا أنهم تصوروها على نوعين: الأول، هو الضرورة العمياء التي يخضع لها كبير الآلهة والآلهة والناس وكل الكائنات الحية وغير الحية، والآخر نوع من الضرورة يقتضيه القانون الأخلاقي الذي تسير الحياة الإنسانية وفقاً له، فقد قال «ليوقيبوس» بوجود قانون يسبب انفصال الذرات من الخليط الأول لتنحدر إلى الكون وتشكل الأشياء، وجعل «بارميندس» من الضرورة آلهة تحتل مركز العالم، وأكد «أفلاطون» أن العالم يدور حول محور من الضرورة، وظهر التعارض بين الحرية والضرورة حين أيدّ «الأبيقوريون» في صف الحرية، ونادى «الرواقيون» بالضرورة.
إن القائلين بالضرورة ينتمون إلى مذهب الحتمية أو إلى مذهب القضاء والقدر أو الجبرية، وإن القائلين بالجبرية يتصورون وجود علة كونية شاملة هي التي تحقق إرادتها الخاصة. بينما يقول الحتميون أن كل فعل إنساني محدد بما سبقه من أحداث وأفعال سيكولوجية وفيزيولوجية، وعلى هذا الأساس نُسب إلى اسبينوزا فلسفة واحدية تقول بجبرية منطقية، وإلى «ليبنتز» فلسفة تعددية تقول بحتمية أخلاقية، فالنفس عند اسبينوزا لا تنطوي على أي إرادة حرة أو مطلقة، بل هي مجبرة أن تريد هذا أو ذاك بمقتضى علة هي أيضاً مشروطة بعلة أخرى، وهذه بدورها بأخرى إلى مالا نهاية، والله عند اسبينوزا هو العلة الحرة لسائر الأشياء، وكل ما يحدث يصدر ضرورة عن طبيعة الله المطلقة وقدرته اللامتناهية، وقد عُدَّ رأي اسبينوزا ومن بعده هيغل بمنزلة صدى لنظرية الرواقيين في الحرية.
أما هوبز فيقصد بالإرادة تلك الرغبة الأقوى التي تقود إلى الفعل، لأنه يرى أن الحرية الأخلاقية التي تعني القدرة على الإرادة أو عدمها هي وهم كاذب لا أساس له. أما هيوم فيرى أن الضرورة تتحكم في أفعال الإنسان، كما تتحكم في أحداث الطبيعة ولا يؤمن بوجود إرادة حرة، وإذا وجدت بواعث معينة فلابد من أن تتبعها بالضرورة أفعال معينة، فليس في النفس الإنسانية سوى تعاقب بين الظواهر، فلا جوهر مريد ولا علة محددة، وهذا ما ذهب إليه أيضاً ستيوارت مِل الذي أنكر الفعل الحر بمعناه الميتافيزيقي، وأيّد الحرية في المجال الاجتماعي والسياسي. وتتكرر ظاهرة الدفاع عن الحرية في المجال العلمي، دون إيمان نظري، في أعمال مفكرين من نمط فولتير الذي يعدّ الحرية معلولاً لعلة مجهولة.
أما عند شوبنهور فإن الحرية ذات طابع ميتافيزيقي، لأنها مستحيلة في نطاق العالم الطبيعي، كما أثبت «كَنْت» ذلك، وإن كان لا ينسب الحرية إلى الأفعال بل إلى الخلق والطباع، مما يفترض أن خلق الإنسان غير قابل للتغيير، وكأن هناك ضرورة باطنة فرضت إلى الأبد. وكان لنظرية شوبنهور»في الحرية أثر عميق في إثارة مشكلة الصلة بين الإرادة والطبيعة، فقد تأثر به العالم الرياضي آينشتاين الذي يقول: «لا سبيل إلى الإيمان بالحرية على نحو ما يفهمها الفلاسفة، لأن الكل يعمل تحت ضغط خارجي وضغط الضرورة الباطنة، مما يخفف حدة الشعور بالمسؤولية فضلاً عن الإيمان بالضرورة الذي يجعل النظر إلى الحياة أكثر تفاؤلاً وفكاهة.
وتأخذ فكرة الضرورة صيغة جديدة في تعبير نيتشه هي «حب المصير» التي ترددت عند الشاعر هيلدرين. لقد ربط نيتشه فكرة المصير بفكرة العود الأبدي، فجعل حب المصير يتضمن نوعاً من النزوع لتحقيق التكافؤ بين الإرادة والضرورة، ولا يقول نيتشه بمصير معقول، لأن المصير عنده لا معقولية محضة. وهذا ما يتردد عند ياسبرز الذي يجعل من المصير «ضرورة وجودية» لا تنفصل عن فكرة الحرية، فياسبرز يجعل الحرية رديفاً للوجود الإنساني، ولكنه يجعل من الضرورة جزءاً صحيحاً في الحرية الوجودية.
عبد الحميد الصالح
Freedom - Liberté
الحرية
الحرية freedom، هي اختيار الفعل عن روّية، والقدرة على الفعل مع القدرة على اختيار ضده. ويتوقف مفهوم الحرية على الحدّ المقابل الذي يثيره في الذهن، مثل: الضرورة أو الحتمية[ر] أو الطبيعة[ر] أو القدر، وعلى الفرق بين حرية الاختيار وحرية التنفيذ التي تعني المقدرة على الفعل أو الامتناع عنه دون أي تأثيرات، أي الحرية الطبيعية التي تعبر عن الاستقلال الذاتي للكائن، وهي بالمعنى القانوني، القدرة على مباشرة الفعل مع انعدام القسر الخارجي. أما حرية التصميم، فهي القدرة على تحقيق الفعل دون الخضوع للتأثيرات الباطنية، سواء أكانت عقلية كالمبررات أم وجدانية كالدوافع، وتلك هي الحرية السيكولوجية، إنها إرادة تتقدمها الروّية مع التمييز بحسب «المقابسات» (أبي حيان التوحيدي).
وللحرية عند الفلاسفة مفاهيم مختلفة، منها:
ـ حرية الاختيار القائمة على الإرادة المطلقة، كأن ننسب إلى أنفسنا القدرة على الفعل بمقتضى إرادتنا والشعور بأن حريتنا وحدها علة أفعالنا، وهي حرية تعمل بطريقة تعسفية محضة، حين لا تكون سوابق الفعل كافية لتعيينه، وتتصل الحرية بهذا المعنى بما يسمى مفهوم «اللاتعيّن» والإمكان والعرضية، بمعنى انتفاء ما يدفعنا إلى الاتجاه نحو طرف دون الآخر، أي ملكة الاختيار دون باعث ما.
ـ حرية الكمال، أي التحرر من كل شر: كراهية، جهل، أهواء، غرائز، وهذا النوع من الحرية لا يوجد إلا في الله، الموجود الوحيد الحرّ بأكمل معنى، وقد تحوّل هذا الضرب من الحرية عند «الرواقيين» و«اسبينوزا» و«ليبنتز» إلى نوع من الجبرية[ر] أو الحتمية.
ـ الحرية القائمة على فكرة العليّة الشعورية «برغسون»، وهي لاتقتصر على إنجاز الفعل أو الإقلاع عنه دون اكتراث بصورة سلبية، بل هي حرية إيجابية يصدر الفعل فيها عن الذات العميقة بالمعنى الروحي لا بالمعنى البيولوجي، فالفعل الحر هو كل فعل يحمل بصمات شخصية الفاعل بكاملها، وفيها تكون العلاقة بين الفعل الحر وفاعله كالحرية بين العمل الفني والفنان.
وفكرة الحرية والشعور بها، شيئان مختلفان، فقد تكون الحرية نتيجة لواقعة أولية يقدمها الحس الباطن، كشعور بالقدرة على الفعل يخلق الجهد المركب للأنا. والواقعة الأولية عند «مين دوبيران» ليست هي الفكرة كما عند «ديكارت»، بل هي الجهد الذي يقوم عليه إدراك الذات لنفسها، من حيث هي قوة حرة. وقد استبدل «دوبيران» بعبارة «ديكارت» المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، عبارة: «أنا أريد إذن أنا موجود»، بمعنى أن الحرية النفسية التي يشعر بها المرء بقدرته على التأثير في جسمه والتحكم في أهوائه وانفعالاته، هي التجربة الأساسية التي يدرك فيها حريته، فحيث تنتهي الحياة الحيوانية، تبدأ الحياة الإنسانية، لذلك فإن من ينكر حريته ينكر إنسانيته، ولكن يبقى هنا خلط بين الحرية وفكرة الحرية، وكأن لا فرق بين الشعور الوجداني بالحرية وبين التصورات العقلية التي تنسب إلى الحرية.
ويميل بعض الفلاسفة المعاصرين مثل «ياسبرز» و«لافيل» و«مارسيل» إلى القول باستحالة تعريف الحرية، باعتبارها لايمكن أن تكون موضوعاً، ولايدخل وجودها دائرة النظام العقلي الموضوعي، أي إنها لايمكن أن تثبت أو تنفى في نطاق الموضوعية الصرفة، وعليه يجب رفض تعريفات الحرية بأنها انعدام القسر «الدليل الكوني» أو بأنها الاستقلال عن الدوافع والمبررات «الدليل السيكولوجي». يقول «ياسبرز»: إن البحث عن الحرية والشك بالحرية واليقين بالحرية، أمور تدخل في صميم وجود الحرية، فمشكلة الحرية هي مشكلة الذات التي تحمل همومها وتريد أن يكون هناك حرية، فإن مجرد الاهتمام بوجود الحرية ينطوي على فاعلية تتحقق في نطاقها الحرية، مما يعني القول بوجود هوية بين الوجود والحرية، لهذا يؤكد «ياسبرز» استحالة إثبات الحرية طالما أن الوجود ليس موضوعاً لأي برهان عقلي.
ويرى «لافيل» أن الحرية فعل يصاحب الانتقال من الإمكان إلى الوجود، لهذا فهي تنفصل عن المسؤولية، فالحرية هي عين الوجود، واستحالة معرفتها عقلياً تأتي من كون كل نظرية عقلية تفترض وجود ضرب من الانفصال بين الذات والموضوع.
ويرى «شوبنهور» الحرية أنها انعدام الضرورة، أي انعدام أي رابطة بين المبدأ والنتيجة وفقاً لقانون السبب الكافي، وبالتالي ربما كان هذا القول إنكاراً لمعنى الحرية أو إعطاءها مفهوماً سلبياً محضاً، فحين لا يعثر على مكان للحرية في عالم الأشياء يهرع إلى البحث عنها في نطاق السلب أو النفي والقول إنها انعدام العلة أو إنها ثغرة في جدار الحتمية. ويشكك أنصار الجبرية في قيمة الشعور المباشر بالحرية، فيبحثون أصله وسبب اعتقاد المرء أن في وسعه أن يختار بين فعلين مختلفين أو بين الفعل والامتناع عن الفعل، ليشيروا إلى إمكانية الوهم أو الخداع.
ويعتقد «اسبينوزا»: «أن الناس يخطئون إذ يظنون أنفسهم أحراراً، لأنهم يشعرون بأفعالهم ويجهلون العلل التي تدفعهم إليها»، فإن الحرية لا تكون ممكنة إلا عند الشعور ببواعث غير ملزمة تحفز على العمل بلغة القيم لا بلغة العلل، فالباعث قوة مؤثرة قوامها الجاذبية والقيمة المرغوبة. وقد حاول كَنت أن يحلّ التناقض بين الحرية والحتمية، بإحالته على التفرقة بين الظواهر الخاضعة للزمان والمكان، وبين الحقائق الخارجة على الزمان والمكان، لأن الحياة موجودة وجوداً حسياً، يتمثل في أفعال خارجية تابعة للتجربة ومترابطة كظواهر وفقاً لقوانين حتمية، وبهذا الاعتبار يعدّ الإنسان مجرد ظاهرة خاضعة لقوانين الضرورة في الجانب الذي يخضع للزمان ويتحقق في عالم التجربة، ويكون حراً في الطابع الخلقي بفعل حر عال على الزمان، وقد تكون الذات الحقيقية المعقولة اللامرئية هي التي تريد أن تكون خيِّرة أو شريرة بفعل لازماني، ثم تجيء الحياة الزمنية كتعبير مرئي عن الاختيار الأصلي، وهكذا يكون الإنسان حراً ومجبراً، وبذلك يصل كَنْت إلى الأخلاق. وقوام الأخلاق فكرة «الواجب». الواجب يتصف بالصورية المحضة والأمر المطلق واليقين الخالص والنزاهة المحضة والتعبير عن صوت العقل، وكل ماعدا الواجب يطاله الشك، ولكن ما قيمة تلك الحرية المتعالية التي لا يملكها الإنسان إلا بمقدار ما تخرج ذاته عن الزمان وتندرج في عالم الشيء في ذاته، وحين تخرج الذات عن الزمان إلى عالم المعقولات تكون لا معقولة أو حرية صوفية، فالبحث عن الحرية يجب أن يكون في الوجود الواقعي، في نطاق المجتمع بدلاً من البحث عنها في عالم الشيء في ذاته، وهنا نصل إلى ما يسمى بـ «الدليل الاجتماعي» الذي يقوم على القوانين والجزاءات، مما يفترض أن يكون الإنسان خالق أفعاله ومسؤولاً عنها، على الرغم من اختلاط فكرة المسؤولية بالخوف من العقاب. إن مسؤولية الإنسان لا تنفصل عن شعوره بأن حياته هي من صنعه، وأنه الأصل في أفعاله الخيّرة والشريرة معاً، والقوانين تقوم فعلاً على الإيمان بالحرية والاعتقاد بالمسؤولية.
إن «الدليل الأخلاقي» لا يعدّ برهاناً عقلياً، لأن الحرية لا تستنتج من الالتزام، بل من إدراك الذات كحرّ وملتزم في آن معاً، وكذلك «الدليل الاجتماعي» لأنه يرتد في النهاية إلى «الدليل السيكولوجي»، وهكذا لا يبقى دليل على وجود الحرية سوى «الدليل الميتافيزيقي» القائم على فهم معنى الإرادة وتحليل مضمون الفعل الإرادي، حيث أن الإرادة تتجه صوب الموضوعات وفقاً لما تبدو لها الموضوعات مرغوبة، حيث لا توجد حرية إلا حينما تعمل وفقاً لأسباب معقولة، وليس وفقاً لقوى خارجية أو علل أجنبية.
الحرية والضرورة freedom and necessity
يرتبط مفهوم الحرية مع مفاهيم أخرى تتضمن معاني الضرورة أو الحتمية أو الجبرية، فالحرية لاتُفهم إلا في ضوء نقيضها، وإلا لكانت كما يقول «ياسبرز» جوفاء لا معنى لها إذا لم يكن ثمة ما يضادها، لأن المعنى السلبي يساعد على التحديد، ولكن الضرورة تؤخذ بمعنيين: الأول هو ما يقابل الممكن والعرضي، والثاني ما يقابل الحر أو المختار.
ظهرت الفكرة عند اليونان على شكل فكرة «القَدَر» بوصفها ضرورة لابد أن يخضع لها الجميع، إلا أنهم تصوروها على نوعين: الأول، هو الضرورة العمياء التي يخضع لها كبير الآلهة والآلهة والناس وكل الكائنات الحية وغير الحية، والآخر نوع من الضرورة يقتضيه القانون الأخلاقي الذي تسير الحياة الإنسانية وفقاً له، فقد قال «ليوقيبوس» بوجود قانون يسبب انفصال الذرات من الخليط الأول لتنحدر إلى الكون وتشكل الأشياء، وجعل «بارميندس» من الضرورة آلهة تحتل مركز العالم، وأكد «أفلاطون» أن العالم يدور حول محور من الضرورة، وظهر التعارض بين الحرية والضرورة حين أيدّ «الأبيقوريون» في صف الحرية، ونادى «الرواقيون» بالضرورة.
إن القائلين بالضرورة ينتمون إلى مذهب الحتمية أو إلى مذهب القضاء والقدر أو الجبرية، وإن القائلين بالجبرية يتصورون وجود علة كونية شاملة هي التي تحقق إرادتها الخاصة. بينما يقول الحتميون أن كل فعل إنساني محدد بما سبقه من أحداث وأفعال سيكولوجية وفيزيولوجية، وعلى هذا الأساس نُسب إلى اسبينوزا فلسفة واحدية تقول بجبرية منطقية، وإلى «ليبنتز» فلسفة تعددية تقول بحتمية أخلاقية، فالنفس عند اسبينوزا لا تنطوي على أي إرادة حرة أو مطلقة، بل هي مجبرة أن تريد هذا أو ذاك بمقتضى علة هي أيضاً مشروطة بعلة أخرى، وهذه بدورها بأخرى إلى مالا نهاية، والله عند اسبينوزا هو العلة الحرة لسائر الأشياء، وكل ما يحدث يصدر ضرورة عن طبيعة الله المطلقة وقدرته اللامتناهية، وقد عُدَّ رأي اسبينوزا ومن بعده هيغل بمنزلة صدى لنظرية الرواقيين في الحرية.
أما هوبز فيقصد بالإرادة تلك الرغبة الأقوى التي تقود إلى الفعل، لأنه يرى أن الحرية الأخلاقية التي تعني القدرة على الإرادة أو عدمها هي وهم كاذب لا أساس له. أما هيوم فيرى أن الضرورة تتحكم في أفعال الإنسان، كما تتحكم في أحداث الطبيعة ولا يؤمن بوجود إرادة حرة، وإذا وجدت بواعث معينة فلابد من أن تتبعها بالضرورة أفعال معينة، فليس في النفس الإنسانية سوى تعاقب بين الظواهر، فلا جوهر مريد ولا علة محددة، وهذا ما ذهب إليه أيضاً ستيوارت مِل الذي أنكر الفعل الحر بمعناه الميتافيزيقي، وأيّد الحرية في المجال الاجتماعي والسياسي. وتتكرر ظاهرة الدفاع عن الحرية في المجال العلمي، دون إيمان نظري، في أعمال مفكرين من نمط فولتير الذي يعدّ الحرية معلولاً لعلة مجهولة.
أما عند شوبنهور فإن الحرية ذات طابع ميتافيزيقي، لأنها مستحيلة في نطاق العالم الطبيعي، كما أثبت «كَنْت» ذلك، وإن كان لا ينسب الحرية إلى الأفعال بل إلى الخلق والطباع، مما يفترض أن خلق الإنسان غير قابل للتغيير، وكأن هناك ضرورة باطنة فرضت إلى الأبد. وكان لنظرية شوبنهور»في الحرية أثر عميق في إثارة مشكلة الصلة بين الإرادة والطبيعة، فقد تأثر به العالم الرياضي آينشتاين الذي يقول: «لا سبيل إلى الإيمان بالحرية على نحو ما يفهمها الفلاسفة، لأن الكل يعمل تحت ضغط خارجي وضغط الضرورة الباطنة، مما يخفف حدة الشعور بالمسؤولية فضلاً عن الإيمان بالضرورة الذي يجعل النظر إلى الحياة أكثر تفاؤلاً وفكاهة.
وتأخذ فكرة الضرورة صيغة جديدة في تعبير نيتشه هي «حب المصير» التي ترددت عند الشاعر هيلدرين. لقد ربط نيتشه فكرة المصير بفكرة العود الأبدي، فجعل حب المصير يتضمن نوعاً من النزوع لتحقيق التكافؤ بين الإرادة والضرورة، ولا يقول نيتشه بمصير معقول، لأن المصير عنده لا معقولية محضة. وهذا ما يتردد عند ياسبرز الذي يجعل من المصير «ضرورة وجودية» لا تنفصل عن فكرة الحرية، فياسبرز يجعل الحرية رديفاً للوجود الإنساني، ولكنه يجعل من الضرورة جزءاً صحيحاً في الحرية الوجودية.
عبد الحميد الصالح