ادب شعبي
Folk literature - Littérature populaire
الأدب الشعبي
الأدب الشعبي folk literature، أو التراث الشعبي، فرع مهم من فروع المعرفة الإنسانية ولد في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ليعنى بمظاهر الحضارة لشعب من الشعوب. وبسبب تعدد المعايير التي يُنطلق منها في النظر إلى طبيعته ووظيفته ومجالاته، فإن تعريفاته التي يقع عليها المرء يلفها نوع من الغموض والاضطراب. وإلى جانب المعايير الثقافية cultural criteria التي تؤكد أن الفولكلور هو التراث الشفوي oral tradition ليس غير؛ ثمة معايير اجتماعية sociological criteria تُدخل ضمن هذا الحقل المعرفي كل ما ينتمي إلى حياة الطبقات الريفية وثقافتها؛ ومعايير نفسية - اجتماعية psycho - sociological criteria تنطلق في تعريف مصطلح «شعبي» من معطيات نفسية - اجتماعية، فالحياة الشعبية والثقافة الشعبية، تبعاً لهذه المعايير، توجد دائماً حيث يخضع الإنسان، بوصفه حاملاً للثقافة، في تفكيره أو شعوره أو تصرفاته لسلطة المجتمع والتراث؛ والمعايير الإثنولوجية ethnological criteria التي ترى أن الفولكلور هو المعرفة التي تنتقل اجتماعياً من الأب إلى الابن، ومن الجار إلى جاره، وتستبعد المعرفة المكتسبة عقلياً، سواء أكانت محصَّلَة بالمجهود الفردي، أم بالمعرفة المنظمة والموثقة والتي تكتسب داخل المؤسسات الرسمية كالمدارس، والمعاهد، والجامعات، والأكاديميات وما إليها.
وميادين دراسة الفولكلور عديدة أهمها العادات والمعتقدات والمعارف والفنون الشعبية فضلاً عن الثقافة المادية والأدب الشعبي الذي يقع في مكان القلب من هذه الدراسة. فالأدب الشعبي ليس واحداً من أبرز موضوعات الفولكلور، وأكثرها عراقة وحسب، وليس الأكثر حظاً في استقطابه للبحوث والدراسات من غيره من الميادين فقط، بل إن علم الفولكلور كان في مرحلة من مراحل تطوره يقوم أولاً وأخيراً على دراسة الأدب الشعبي كذلك، وكثيراً ما يستخدم مصطلح «فولكلور» للإشارة إليه، ويستعمل مرادفاً له. ذلك أن كلمة «lore» تعني المعرفة والمعتقدات التقليدية، والأدب الشعبي بهذا المعنى هو المعرفة والمعتقدات التقليدية للحضارات التي ليس لها لغة مدونة، والتي تتناقل من جيل إلى جيل بالطريقة الشفوية. وهذه المعرفة، مثلها مثل الأدب المدون، تتألف من أنواع السرد النثري والشعري، والقصائد، والأغاني، والأساطير، والمسرحيات، والطقوس، والألغاز وغيرها. وقد عرفتها الشعوب كلها تقريباً، وهذا أمر طبيعي إذا ما تذكر المرء أن الآداب جميعها كانت شفوية حتى الألف الرابع قبل الميلاد تقريباً، عندما طُوّرت الكتابة في حضارتي مصر وسومر واستخدمت لتسجيل الآداب والمسائل العملية المتصلة بالقانون والتجارة وغيرهما. ومع ذلك فقد وجد إلى جانب هذا السجل المدوّن، نشاط واسع ومهم، قام به أناس غير متعلمين، أو لم يألفوا كثيراً القراءة والكتابة، كانت حصيلته مادة غنية واسعة تُنوقلت شفاهاً، واستجابت لحاجات إنسانية مختلفة تباينت بتباين العصور والشعوب، هي ما يسمى اليوم بالأدب الشعبي.
أصول الأدب الشعبي وتطوره
قد يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الحديث حديثاً متماسكاً عن أصول الأدب الشعبي، أو تطوره، لأن كل مجموعة بشرية، سواء أكانت كبيرة أو صغيرة، تناولت أدبها الشعبي بطريقتها الخاصة. والأدب الشعبي عامة يمثل تاريخاً من التغير الدائم لأنه يقوم على الرواية الشفوية، وبالتالي فإن درجة براعة الراوية، فضلاً عن المؤثرات المادية والاجتماعية، تمارس دوراً مهماً في تطور هذا التقليد الشفوي. وهناك بعد ذلك المتلقي لهذا التقليد الشفوي الذي تكون له عادة اهتماماته وحاجاته وظروفه التي تحفز بوجه أو بآخر عملية إنتاج الأدب الشعبي في أي مجتمع من المجتمعات.
وإضافة إلى تأثير الراوية والمتلقي والظروف الاجتماعية والمادية في الأدب الشعبي، هناك التفاعل المستمر بين الأدبين الشفوي والمدون. فمؤلفو الأدب المدون غالباً ما كانوا يستعيرون منذ العصور الكلاسيكية حكايات وموتيفات motifs وموضوعات themes وتقنيات من الأدب الشعبي الذي تنامى تأثيره في الأدب المدون بدءاً من عصر النهضة، وبلغ الذروة في الحقبة الرومنسية. ولكن الأدب المدوّن للطبقة العليا أثر بدوره في الأدب الشفوي، بل إن بعضه قد دُمج في التراث الشعبي كما هو الشأن في الرواية الفروسية وقصائد التروبادور الغنائية. وفضلاً عما تقدم فإن البلادات Ballads الشعبية، وقصص الحوريات، والأساطير، ذات أصل متأخر ومستمدة في الغالب من أدب الطبقة العليا، على الرغم من أن رأياً كهذا ربما لا يروق الرومنسيين المؤمنين بعراقة الأدب الشعبي على حد تعبير رينيه ويليك.
ومع أن أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، فضلاً عن الكتاب، قد حلّت محل الأدب الشعبي في تلبيتها كثيراً من الحاجات الاجتماعية والثقافية والنفسية والتربوية التي كان يلبيها، فإن من المؤكد أن السينما والتلفزيون في العصر الحديث قد أسهما في تقديم الأدب الشعبي لمختلف طبقات المجتمع وفي نشره بينها. ولكن ليس بوسع المرء أن يُغفل في هذا السياق ما يمكن أن يكون قد خضع له الأدب الشعبي من الأعراف والقوانين والمقاييس والمعايير السائدة في الأدب المدون. ومع ذلك فما زال للأدب الشعبي مكانته لدى المسنين في مختلف المجتمعات، ولدى المهاجرين، وأفراد الأقليات التي تستخدمه للحفاظ على هويتها الثقافية المميزة، ينقله الأجداد والآباء للأبناء الذين يقومون بنقله وحفظه كما يفعل القصاصون تماماً. وسيبقى الأدب الشعبي، فيما يبدو، وسيلة التعبير الأدبية الأكثر أُلفةً وقرباً من النفس لغير المتعلمين في مختلف الأماكن والعصور.
خصائص الأدب الشعبي
ربما كان من أهم خصائص الأدب الشعبي أنه أدب شفوي، فهو معني بالحديث والغناء والسماع، ويعتمد على ثقافة حية تعنى به وتقوم بحمله ونقله من جيل إلى جيل، وعندما يضيع من الذاكرة يفقد تماماً، على نقيض الأدب المدون الذي يسهل حفظه ونقله وتذوق كل جوانبه فيما بعد على اختلاف العصور والأمكنة.
والمتحدث أو المغني أو الراوي شخص يحمل تراثاً تعلّمه من آخرين، وينقله إلى جمهور حي ربما سمعه من غيره أكثر من مرة، ولذلك فإنه مقيد بهذا الجمهور، وملتزم توقعاته إلى حد بعيد، وهو لذلك يكرر مادته ما دامت تروق الجمهور على الرغم من اختلاف الزمان والمكان. ومع أن أي شخص يمكن أن يقوم بهذا الدور، فإن بعض المجتمعات تسنده إلى فئة خاصة منها تنقله بمهارة عالية وتُجزى على نقلها هذا بصور شتى. لربما يفخر بعض أفراد هذه الفئة من النَقَلة أو رواة الأدب الشعبي بدقتهم الشديدة في النقل، ولربما يملك بعضهم ذاكرة قوية حقاً، كما أن هناك من يتعامل مع مادته تعامل المحترف، ولكن تقليد الأدب الشعبي يبقى تقليداً يعتمد على الذاكرة، وهذه نقطة ضعف بيّنة فيه بسبب النسيان أو الإضافات أو الاستبدالات المقصودة وغير المقصودة التي يتعرض لها، مما يجعل مادته دائماً في طور التشكل الذي لا يكاد ينتهي، فهي لا تستقر على شكل محدد، ولاسيما أن الرواة أنفسهم ربما يفكرون في إدخال ما يعتقدون أنه تحسينات على المادة المنقولة. وما دامت هذه التحسينات تظفر باستحسان المتلقي فليس ثمة ما يمنع من قبولها وانتشارها ومن ثمَّ نقلها إلى الأجيال الأخرى في أشكالها المعدَّلة. ولكن المرء من ناحية أخرى ينبغي أن يشير إلى أن بعض المغنين، أو الشعراء الجوالين، قد يطورون تقنيات خاصة في أدائهم لمادتهم الملحمية أو حكاياتهم البطولية، وربما يصاحبها عزف خاص على آلات معينة، مما يساعد على خلق أشكال فنية تُقَدِّم حوافز فعالةً على حفظها ونقلها من جيل إلى آخر بأمانة ودقة تسموان نحو الكمال باستمرار. وثمة كذلك تقاليد شفوية تؤدى على نحو شعائري بدقة فائقة يحرص عليها الراوي أو الناقل والمتلقي لاعتقادهما بأن تأثيرها منوط بهذه الدقة، وإيمانهما بها إيماناً غيبياً.
ولكن شفوية الأدب الشعبي التي تميزه من الأدب المدون لا تعني انقطاعه التام عن غيره من النشاطات الإنسانية الأخرى بما فيها الأدب المدون نفسه الذي يشترك معه في كثير من الأجناس والتقنيات والأشكال الإنشائية فضلاً عن الموضوعات. ومع ذلك فإن صلته الأقوى هي صلته بالتراث الشعبي، فهو جزء لا يتجزأ من هذا التراث الذي يشمل فيما يشمله العادات والمعتقدات ومظاهر السلوك الشعائري، وأنواع الرقص والموسيقى الشعبية[ر]، ومظاهر أخرى من الثقافة الشفوية. وهذه جميعاً تدرس ضمن حقل معرفي محدد بات يشار إليه اليوم بالإثنولوجية ethnology (علم دراسة الإنسان بوصفه كائناً ثقافياً، أو الدراسة المقارنة للثقافة، أو ذلك القسم من الأنثربولوجية المختص بتحليل المادة الثقافية وتفسيرها تفسيراً منهجياً) ولكنها تظل من شأن دارس التراث الشعبي أو المتخصص بالفولكلور folklorist.
وفضلاً عن صلة الأدب الشعبي بالتراث الشعبي هناك علاقته بالأساطير، وهو أمر تؤكده دلائل وفيرة في مختلف الثقافات القديمة كاليونانية والهندية، وثقافة وادي الرافدين ووادي النيل،