لحن في لغه Solecism - Solécisme
اللحن في اللغة
ذكر اللغويون أن (للَّحنِ ستة معان: الخطأُ في الإعراب، واللغةُ، والغناء، والفِطْنَة، والتعريض، والمَعْنَى).
بيد أنّ هذه الكلمة إذا أُطلقت انصرف معناها إلى الخطأ في الإعراب، أي الخطأ النحويّ، بما في ذلك ما قد يعتور الألفاظ من خَللٍ في ضبطها أو استعمالٍ لها في غير ما وُضِعت له. ومع ظهور المصنفات التي تحمل اسم «لحن العامّة» و«إصلاح المنطق»، و«أوهام الخواص»، و«تثقيف اللسان» أخذ مدلول كلمة «اللحن» يضيق حتى اقتصر على «الأخطاء اللغويّة الشائعة»، وقد عدّ بعض المعاصرين في جملة الأخطاء تلك الألفاظ الدخيلة أو المعرّبة مما يمكن الاستغناء عنه لوجود ما يقابله في اللسان العربي.
وغنيٌّ عن القول أن العرب في جاهليتهم كانوا يتكلمون بالعربية سليمة خالية من اللحن، مستقيمة الأساليب، بعيدة من الخطأ، يصدرون في ذلك عن سليقة وجبلّة فُطِروا عليها.
ثم جاء الإسلام وبُعث النبيr إلى الناس كافّة عربيّهم وعجميّهم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، واختلط العرب بالأمم الأخرى من رومٍ وفُرس وأحباش وغيرهم من أصحاب اللغات المختلفة، وكان نتيجة لذلك الاختلاطِ شيوع اللحن على ألسنة العامة ولاسيما الموالي، ثم مالبث أن انتقل إلى الخاصة من الفصحاء والكتاب والخلفاء وأبنائهم.
وقد رصدت كتب اللغة والأدب نشأة هذه الظاهرة التي طرأت على اللسان العربي منذ عهد النبيr وما تلاه من عصور، ويمكن للدارس أن يستخلص مِما أوردته هذه المصادر أنّ اللحن بمعنى الخطأ في الإعراب واللغة، بدأ قليلاً خفيفاً منذ أيام الرسول، فقد لحن رجلٌ بحضرته فقال: «أرشدوا أخاكم فإنه قد ضَلّ»، والظاهر أنّه كان معروفاً بهذا الاسم نفسِه: «اللحن»، بدليل ما روي عن النبيr من قوله: «أنا من قريش ونشأتُ في بني سعد، فأنّى لي اللحن؟»، وفي عهد عمر أثبتت المصادر عدداً من حوادث اللحن، منها أنه وردَ إليه كتاب أوله: (مِنْ أبو موسى الأشعري)، فكتب عمر لأبي موسى يأمره أن يضرب كاتبه سوطاً. ويلاحظ أن اللحن في هذه الفترة بدأ يتسرب إلى قراءة القرآن، من ذلك قصة الأعرابي الذي قَدِم أيام عمر وقال: «من يقرئني شيئاً مِما نُزّل على محمد؟» فأقرأه رجلٌ من سورة براءة هكذا: (أنّ الله بريءٌ من المشركين ورسولِه) فقال الأعرابي: إن يكن الله بَرِئ من رسوله فأنا أبرأ منه… فأمر عُمر ألاّ يُقرئ القرآن إلا عالمٌ باللغة، وتكاد قصّة بنت أبي الأسود الدؤلي تكون المَعْلَمَ المشهور في تاريخ النحو.
ثم شاع اللحن في العصر الأموي حتى مسَّ ألسنة البلغاء من الخلفاء والأمراء، وكان مِما يُسقط الرجل في المجتمع أن يلحن، حتى قال عبد الملك ابن مروان وقد قيل له: «أسرع إليك الشيب»: «شيبني ارتقاءُ المنابر مخافة اللحن»، وكان يقول: «إن الرجل ليسألني الحاجة فتستجيب نفسي له، فإذا لحن انصرفت نفسي عنه».
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: «أكاد أضرس إذا سمعت اللحن».
وقد عقد الجاحظ في كتاب البيان باباً أسماه «باب اللحن» عرض فيه صوراً شتى ممّا كان يلحن فيه العامة والخاصة في عهود الإسلام الأولى، وتبعه ابن الأنباري فساق أخباراً كثيرة تؤيد شيوع هذه الظاهرة، وذلك في مقدمة كتابه «إيضاح الوقف والابتداء».
ولاشك في أن هذه النماذج التي تناقلتها الكتب هي التي دفعت علماء المسلمين إلى التفكير بوضع قواعد للعربية التي هي لغة القرآن تحميها من الزلل، ولذا كان أول عمل قاموا به هو ضبط المصحف بالنقط والحركات.
وكان للإمام علي وأبي الأسود وتلاميذه وأبي عَمْرو والخليل وسيبويه والكسائي والفرّاء الفضل المشهور في النهوض بعبء حماية العربية، وكان كتاب سيبويه أول ما وصل إلينا من ثمرات هذه الجهد الحقيقي، إذ رسم فيه حدود النحو وبيّن معالمه ودرس تراكيب العربية، فكان كتابه أول سياج أُريد له أن يحمي العربية من الزلل، وتبعه النحاة من بعده يسيرون على خطاه جيلاً بعد جيل.
وإضافة إلى جانب المصنفات النحوية التي بدأت بكتاب سيبويه، بدأت تظهر رسائل أو كتب صغيرة اقتصرت على تبيان ما يقع فيه الناس من أخطاء لغوية تتصل بسلامة ضبط الكلمة ودقة استعمالها، وقد نسبت هذه الكتب إلى بعض المتقدمين كالكسائي، وأبي عبيدة، وأبي زيد، والأصمعي، والمازني، والسجستاني والقاسم بن سلام، وبدا مصطلح اللحن منذ ظهور هذه الكتب منصباً على تلك الأخطاء اللغوية وتصحيحها، ولم ينقطع التأليف في هذا الباب حتى هذا اليوم.
وفي تصنيف كتب اللحن وفقاً للمنهج الذي اتبعته في ترتيبها تظهر أربعة أصناف واضحة:
- الصنف الأول: تنتمي إليه طائفة من كتب اللحن، لم يَسِرْ فيها مؤلفوها وفق منهجٍ معين في ذكر الألفاظ، بل سيقت على نحوٍ عشوائي.
ولعل أول ما يمثل هذا الصنف كتاب «ما تلحن فيه العوام» المنسوب للكسائي[ر] (ت189هـ)، وهو كتيّبٌ صغير الحجم أُدرجت فيه الألفاظ على غير ما ترتيب، فقد بدأه بعد المقدمة المقتضبة بقوله «تقول: حَرَصْتُ بفلان، بفتح الراء، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف 103)، ولا تقول: تَحْرَص، بفتح الراء، قال الله تعالى: ﴿إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ (النحل 37) وتقول: دَعْهُ حتى يسكُتَ من غضبه، بالتاء، ولا يقال: يسكن، بالنون، قال عز وجل: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ (الأعراف 154)».
وأحسن ما يمثل هذا الصنف هو كتاب «درة الغواص في أوهام الخواص» للحريري (ت 516هـ) [ر]، والكتاب كما هو بين من عنوانه في أوهام الخواص، قال في مقدمته: «فإني رأيت كثيراً ممن تسنموا أسنمة الرتب، وتوسّموا بسِمة الأدب قد ضاهوا العامة في بعض ما يفرط من كلامهم… فدعاني الأنَف لنباهة أخطارهم والكَلَف بإطابة أخبارهم إلى أنْ أدرأ عنهم الشُّبَهَ، وأبين ما التبس عليهم واشتبه…». وقد أدار الحريري كتابه هذا على ألفاظ أو عبارات يقع الوهم فيها عند المتعلمين ساقها غير مرتبة، ويمكن إجمالها في الموضوعات الآتية:
أ- استعمال الكلمة على غير ما استعملها الفصحاء من العرب من حيث الدلالة: من ذلك استعمالهم (سائر) بمعنى جميع، والصحيح أنها بمعنى (الباقي) ومن ذلك قولهم (فلان يستأهل الإكرام)، والوجه: يستحق، لأن الإهالة هي ما يؤتدم به من السمن، وقولهم: (أزف وقت الصلاة) يريدون: شارف على الانقضاء، والصواب أن معنى (أزف) هو دنا.
ب- الإخلال ببعض البُنى الصرفية: من ذلك قولهم (زيدٌ أفضلُ إخوته) والصحيح أفضل الإخوة، وقولهم: (ما أبيضَ هذا الثوب)، والصواب: (ما أشد بياضه) وقولهم في جمع حاجة: حوائج، والصواب: حاجات، وقولهم: مبيوع، والصواب: مبيع.
جـ- الإخلال في ضبط بعض الألفاظ أو تغيير حرفٍ من حروفها: كقولهم للذهب (خَلاص) بفتح الخاء، والوجه كسرها، وكقولهم الشَّطرنج بفتح الشين، والقياس كسرها، ويقولون ثَفَل في عينه، والصحيح: تفل.
د- أوهام الكتّاب في الرسم: تناول فيه بعض المسائل الكتابية كحذف ألف ابن وما يكتب بواوٍ واحدة أو بواوين، ووصل بعض الحروف أو فصلها.
والحريري في عرضه مادة كتابه كان يميل إلى التعليل والاستشهاد والاستطراد، ويحتفل بالمسائل الأدبية، والصرفية والبلاغية.
- الصنف الثاني: تنتمي إليه طائفة أخرى من كتب اللحن، قسمها مؤلفوها إلى أبواب أو فصول تحتوي على أنواع متشابهة، ودأب هؤلاء على ذكر التحريفات التي طرأت على الألفاظ في ضبطها وفي حروفها وفي دلالاتها في إطار ما يسمى بـ أبنية اللغة، وأبرز الكتب التي تمثل هذا الصنف كتاب «إصلاح المنطق» لابن السكيت (ت244هـ)[ر]، الذي يدل عنوانه على انتمائه إلى كتب لحن العامة، وقد خص ابن السكيت لحن العامة بجملة من أبواب كتابه يمكن إجمالها في أربعة أمور:
- التحريف الذي يطرأ على ضبط الألفاظ: من ذلك الباب الذي سماه (ماهو مكسور الأول مما فتحته العامة أو ضمته) كالألفاظ : صِنّارة، رِطل، نِفْط، رِخْو. (ومنه ما جاء على فَعَلْتُ بالفتحة مما تكسره العامة أو تضمه) نحو سَبَحْتُ، عَمَدت، جَهَدت، عَجَزْت.
- التحريف الذي يمس حروف الألفاظ: من ذلك الباب الذي سماه (ما يُهْمزَ مما تركت العامة هَمْزَه) مثل: الفأل، الفأرة، طأطأ، استبطأ، أومأت إليه، عبّأت. و(ما يتكلم فيه بالصاد مما يتكلم به العامّة بالسين).
- ما تضعه العامة في غير موضعه: يضم بضعة أبواب مضطربة المنهج يكثر فيها الاستطراد، ومن أمثلة هذا النوع قوله: «ومما تضعه العامة في غير موضعه قولهم خرجنا نتنزّه، إذا خرجوا إلى البساتين، وإنما التنزه التباعد عن المياه والأرياف، ومنه قيل: فلانٌ يتنزه عن الأقذار، أي يتباعد منها».
وقد تأثر ابن قتيبة (ت 276هـ)[ر] تأثراً واضحاً بصنيع ابن السكيت في الباب الذي سماه تقويم اللسان من كتابه «أدب الكاتب» مع توسع وزيادة في بعض الأقسام.
ومن الكتب التي تمثل هذا الصنف أيضاً كتاب «الفصيح» لثعلب (ت291هـ) [ر] وهو كتيبٌ سار فيه مؤلفه على نظام الأبنية، ولم يلتزم ذكر أخطاء العامة، بل كان يكتفي على الأغلب بإيراد الفصيح والصواب، فتراه يفرد باباً لـ فعَلت، بفتح العين، وفعِلت، بكسرها، من دون أن يذكر ما يصير إليه البناء عند العامّة إلا نادراً.
ومن مؤلفات هذا الصنف: «لحن العامة» لأبي بكر الزبيدي (ت 379هـ) الذي قسم كتابه قسمين، أولهما: «ما أفسدته العامة»، ويشمل ما غيرت في أصواته من استبدال حرف بحرف، أو تسكين لمتحرك، أو تحريك لساكن، وثانيهما: «ما وضعته في غير موضعه»، وهو خاص بما استعمل لغير ما وضع له من الألفاظ، ولم يرتب الزبيدي مواده داخل القسمين أي ترتيب، وكان دائماً يبدأ بذكر الخطأ متلوّاً بالصواب.
ومنها أيضاً «تثقيف اللسان وتنقيح الجنان» لمكي الصقلي (ت 501هـ)، فإنه قسم كتابه إلى خمسين باباً، مثل: «باب التصحيف»، «باب التبديل»، «باب ما غيروه من الأسماء بالزيادة». ومنها «تكملة ما تغلط فيه العامة» للجواليقي (ت540هـ) [ر] الذي تخلص من الأقسام الكثيرة، وجعل ما تلحن به العامة ثلاثة أنواع، نص عليها في مقدمة كتابه حين قال: «فمنها ما يضعه الناس في غير موضعه أو يقصرونه على مخصوص وهو شائع، ومنها ما يقلبونه ويزيلونه عن جهته، ومنها ما يُنقص منه ويزاد فيه وتبدل بعض حركاته أو بعض حروفه بغيره».
وجاء بعده عبد اللطيف البغدادي (ت609هـ) ليجعل «ذيل الفصيح» قسمين: الأول: باب ما يضعه الناس في غير موضعه، والثاني: باب ما تغير العامة لفظه بحرف أو حركة.
- الصنف الثالث: عمد مؤلفو هذا الصنف إلى ترتيب المواد على حروف المعجم، مع الإشارة إلى أن بعض مصنفات هذا النوع التزمت إيراد اللفظة كما هي في باب الحرف الأول منها غير مجردة من الزوائد، فالألفاظ: اجلس، اجتمع، أجبن. كلها في باب الهمزة.
ويمثل هذه الطريقة كتابان، أولهما «تقويم اللسان» لابن الجوزي (ت597هـ)، والثاني «تصحيح التصحيف وتحرير التحريف» للصفدي (ت 764هـ).
بيد أن مصنفات أخرى التزمت تجريد الكلمة من الزوائد، وخير ما يمثل هذه المصنفات في العصر الحالي كتاب «معجم الأخطاء الشائعة» لمحمد العدناني (ط 1980م) وهو كتاب غزير المادة ، ولم يكن يكتفي بذكر اللفظة مجردة بل كان يُظهرها عند الحاجة في سياقها، وقد نثر العدناني في معجمه هذا ما انتهى إليه سابقوه.
- الصنف الرابع: درجت عليه بعض المؤلفات المعاصرة، وهو صناعة جداول للخطأ والصواب، وتطرقت مؤلفات هذا الصنف إلى الكلمات العامية وما يقابلها من الفصيح، وأبرزها كتاب «الدرر السنية» لـ حسين فتوح، ومحمد علي عبد الرحمن (ط 1908) و«تهذيب العامي والمحرف» لـ حسن علي البدراوي (ط 1912) ، و«قاموس العوام» لحليم دمّوس (ط 1923).
وخلاصة القول أنَّ كتب اللحن على أهميتها وسعيها إلى الحفاظ على اللغة نقية خالصة غاب عن أصحابها مسألة هامة؛ وهي أن اللغة كائن حي وأن التطور الدلالي أمرٌ حتمي، وغاب عنهم أيضاً أن اللسان لابد من أن يخضع مع الزمن لقوانين التبدلات الصوتية.
نبيل أبو عمشة
اللحن في اللغة
ذكر اللغويون أن (للَّحنِ ستة معان: الخطأُ في الإعراب، واللغةُ، والغناء، والفِطْنَة، والتعريض، والمَعْنَى).
بيد أنّ هذه الكلمة إذا أُطلقت انصرف معناها إلى الخطأ في الإعراب، أي الخطأ النحويّ، بما في ذلك ما قد يعتور الألفاظ من خَللٍ في ضبطها أو استعمالٍ لها في غير ما وُضِعت له. ومع ظهور المصنفات التي تحمل اسم «لحن العامّة» و«إصلاح المنطق»، و«أوهام الخواص»، و«تثقيف اللسان» أخذ مدلول كلمة «اللحن» يضيق حتى اقتصر على «الأخطاء اللغويّة الشائعة»، وقد عدّ بعض المعاصرين في جملة الأخطاء تلك الألفاظ الدخيلة أو المعرّبة مما يمكن الاستغناء عنه لوجود ما يقابله في اللسان العربي.
وغنيٌّ عن القول أن العرب في جاهليتهم كانوا يتكلمون بالعربية سليمة خالية من اللحن، مستقيمة الأساليب، بعيدة من الخطأ، يصدرون في ذلك عن سليقة وجبلّة فُطِروا عليها.
ثم جاء الإسلام وبُعث النبيr إلى الناس كافّة عربيّهم وعجميّهم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، واختلط العرب بالأمم الأخرى من رومٍ وفُرس وأحباش وغيرهم من أصحاب اللغات المختلفة، وكان نتيجة لذلك الاختلاطِ شيوع اللحن على ألسنة العامة ولاسيما الموالي، ثم مالبث أن انتقل إلى الخاصة من الفصحاء والكتاب والخلفاء وأبنائهم.
وقد رصدت كتب اللغة والأدب نشأة هذه الظاهرة التي طرأت على اللسان العربي منذ عهد النبيr وما تلاه من عصور، ويمكن للدارس أن يستخلص مِما أوردته هذه المصادر أنّ اللحن بمعنى الخطأ في الإعراب واللغة، بدأ قليلاً خفيفاً منذ أيام الرسول، فقد لحن رجلٌ بحضرته فقال: «أرشدوا أخاكم فإنه قد ضَلّ»، والظاهر أنّه كان معروفاً بهذا الاسم نفسِه: «اللحن»، بدليل ما روي عن النبيr من قوله: «أنا من قريش ونشأتُ في بني سعد، فأنّى لي اللحن؟»، وفي عهد عمر أثبتت المصادر عدداً من حوادث اللحن، منها أنه وردَ إليه كتاب أوله: (مِنْ أبو موسى الأشعري)، فكتب عمر لأبي موسى يأمره أن يضرب كاتبه سوطاً. ويلاحظ أن اللحن في هذه الفترة بدأ يتسرب إلى قراءة القرآن، من ذلك قصة الأعرابي الذي قَدِم أيام عمر وقال: «من يقرئني شيئاً مِما نُزّل على محمد؟» فأقرأه رجلٌ من سورة براءة هكذا: (أنّ الله بريءٌ من المشركين ورسولِه) فقال الأعرابي: إن يكن الله بَرِئ من رسوله فأنا أبرأ منه… فأمر عُمر ألاّ يُقرئ القرآن إلا عالمٌ باللغة، وتكاد قصّة بنت أبي الأسود الدؤلي تكون المَعْلَمَ المشهور في تاريخ النحو.
ثم شاع اللحن في العصر الأموي حتى مسَّ ألسنة البلغاء من الخلفاء والأمراء، وكان مِما يُسقط الرجل في المجتمع أن يلحن، حتى قال عبد الملك ابن مروان وقد قيل له: «أسرع إليك الشيب»: «شيبني ارتقاءُ المنابر مخافة اللحن»، وكان يقول: «إن الرجل ليسألني الحاجة فتستجيب نفسي له، فإذا لحن انصرفت نفسي عنه».
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: «أكاد أضرس إذا سمعت اللحن».
وقد عقد الجاحظ في كتاب البيان باباً أسماه «باب اللحن» عرض فيه صوراً شتى ممّا كان يلحن فيه العامة والخاصة في عهود الإسلام الأولى، وتبعه ابن الأنباري فساق أخباراً كثيرة تؤيد شيوع هذه الظاهرة، وذلك في مقدمة كتابه «إيضاح الوقف والابتداء».
ولاشك في أن هذه النماذج التي تناقلتها الكتب هي التي دفعت علماء المسلمين إلى التفكير بوضع قواعد للعربية التي هي لغة القرآن تحميها من الزلل، ولذا كان أول عمل قاموا به هو ضبط المصحف بالنقط والحركات.
وكان للإمام علي وأبي الأسود وتلاميذه وأبي عَمْرو والخليل وسيبويه والكسائي والفرّاء الفضل المشهور في النهوض بعبء حماية العربية، وكان كتاب سيبويه أول ما وصل إلينا من ثمرات هذه الجهد الحقيقي، إذ رسم فيه حدود النحو وبيّن معالمه ودرس تراكيب العربية، فكان كتابه أول سياج أُريد له أن يحمي العربية من الزلل، وتبعه النحاة من بعده يسيرون على خطاه جيلاً بعد جيل.
وإضافة إلى جانب المصنفات النحوية التي بدأت بكتاب سيبويه، بدأت تظهر رسائل أو كتب صغيرة اقتصرت على تبيان ما يقع فيه الناس من أخطاء لغوية تتصل بسلامة ضبط الكلمة ودقة استعمالها، وقد نسبت هذه الكتب إلى بعض المتقدمين كالكسائي، وأبي عبيدة، وأبي زيد، والأصمعي، والمازني، والسجستاني والقاسم بن سلام، وبدا مصطلح اللحن منذ ظهور هذه الكتب منصباً على تلك الأخطاء اللغوية وتصحيحها، ولم ينقطع التأليف في هذا الباب حتى هذا اليوم.
وفي تصنيف كتب اللحن وفقاً للمنهج الذي اتبعته في ترتيبها تظهر أربعة أصناف واضحة:
- الصنف الأول: تنتمي إليه طائفة من كتب اللحن، لم يَسِرْ فيها مؤلفوها وفق منهجٍ معين في ذكر الألفاظ، بل سيقت على نحوٍ عشوائي.
ولعل أول ما يمثل هذا الصنف كتاب «ما تلحن فيه العوام» المنسوب للكسائي[ر] (ت189هـ)، وهو كتيّبٌ صغير الحجم أُدرجت فيه الألفاظ على غير ما ترتيب، فقد بدأه بعد المقدمة المقتضبة بقوله «تقول: حَرَصْتُ بفلان، بفتح الراء، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف 103)، ولا تقول: تَحْرَص، بفتح الراء، قال الله تعالى: ﴿إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ (النحل 37) وتقول: دَعْهُ حتى يسكُتَ من غضبه، بالتاء، ولا يقال: يسكن، بالنون، قال عز وجل: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ (الأعراف 154)».
وأحسن ما يمثل هذا الصنف هو كتاب «درة الغواص في أوهام الخواص» للحريري (ت 516هـ) [ر]، والكتاب كما هو بين من عنوانه في أوهام الخواص، قال في مقدمته: «فإني رأيت كثيراً ممن تسنموا أسنمة الرتب، وتوسّموا بسِمة الأدب قد ضاهوا العامة في بعض ما يفرط من كلامهم… فدعاني الأنَف لنباهة أخطارهم والكَلَف بإطابة أخبارهم إلى أنْ أدرأ عنهم الشُّبَهَ، وأبين ما التبس عليهم واشتبه…». وقد أدار الحريري كتابه هذا على ألفاظ أو عبارات يقع الوهم فيها عند المتعلمين ساقها غير مرتبة، ويمكن إجمالها في الموضوعات الآتية:
أ- استعمال الكلمة على غير ما استعملها الفصحاء من العرب من حيث الدلالة: من ذلك استعمالهم (سائر) بمعنى جميع، والصحيح أنها بمعنى (الباقي) ومن ذلك قولهم (فلان يستأهل الإكرام)، والوجه: يستحق، لأن الإهالة هي ما يؤتدم به من السمن، وقولهم: (أزف وقت الصلاة) يريدون: شارف على الانقضاء، والصواب أن معنى (أزف) هو دنا.
ب- الإخلال ببعض البُنى الصرفية: من ذلك قولهم (زيدٌ أفضلُ إخوته) والصحيح أفضل الإخوة، وقولهم: (ما أبيضَ هذا الثوب)، والصواب: (ما أشد بياضه) وقولهم في جمع حاجة: حوائج، والصواب: حاجات، وقولهم: مبيوع، والصواب: مبيع.
جـ- الإخلال في ضبط بعض الألفاظ أو تغيير حرفٍ من حروفها: كقولهم للذهب (خَلاص) بفتح الخاء، والوجه كسرها، وكقولهم الشَّطرنج بفتح الشين، والقياس كسرها، ويقولون ثَفَل في عينه، والصحيح: تفل.
د- أوهام الكتّاب في الرسم: تناول فيه بعض المسائل الكتابية كحذف ألف ابن وما يكتب بواوٍ واحدة أو بواوين، ووصل بعض الحروف أو فصلها.
والحريري في عرضه مادة كتابه كان يميل إلى التعليل والاستشهاد والاستطراد، ويحتفل بالمسائل الأدبية، والصرفية والبلاغية.
- الصنف الثاني: تنتمي إليه طائفة أخرى من كتب اللحن، قسمها مؤلفوها إلى أبواب أو فصول تحتوي على أنواع متشابهة، ودأب هؤلاء على ذكر التحريفات التي طرأت على الألفاظ في ضبطها وفي حروفها وفي دلالاتها في إطار ما يسمى بـ أبنية اللغة، وأبرز الكتب التي تمثل هذا الصنف كتاب «إصلاح المنطق» لابن السكيت (ت244هـ)[ر]، الذي يدل عنوانه على انتمائه إلى كتب لحن العامة، وقد خص ابن السكيت لحن العامة بجملة من أبواب كتابه يمكن إجمالها في أربعة أمور:
- التحريف الذي يطرأ على ضبط الألفاظ: من ذلك الباب الذي سماه (ماهو مكسور الأول مما فتحته العامة أو ضمته) كالألفاظ : صِنّارة، رِطل، نِفْط، رِخْو. (ومنه ما جاء على فَعَلْتُ بالفتحة مما تكسره العامة أو تضمه) نحو سَبَحْتُ، عَمَدت، جَهَدت، عَجَزْت.
- التحريف الذي يمس حروف الألفاظ: من ذلك الباب الذي سماه (ما يُهْمزَ مما تركت العامة هَمْزَه) مثل: الفأل، الفأرة، طأطأ، استبطأ، أومأت إليه، عبّأت. و(ما يتكلم فيه بالصاد مما يتكلم به العامّة بالسين).
- ما تضعه العامة في غير موضعه: يضم بضعة أبواب مضطربة المنهج يكثر فيها الاستطراد، ومن أمثلة هذا النوع قوله: «ومما تضعه العامة في غير موضعه قولهم خرجنا نتنزّه، إذا خرجوا إلى البساتين، وإنما التنزه التباعد عن المياه والأرياف، ومنه قيل: فلانٌ يتنزه عن الأقذار، أي يتباعد منها».
وقد تأثر ابن قتيبة (ت 276هـ)[ر] تأثراً واضحاً بصنيع ابن السكيت في الباب الذي سماه تقويم اللسان من كتابه «أدب الكاتب» مع توسع وزيادة في بعض الأقسام.
ومن الكتب التي تمثل هذا الصنف أيضاً كتاب «الفصيح» لثعلب (ت291هـ) [ر] وهو كتيبٌ سار فيه مؤلفه على نظام الأبنية، ولم يلتزم ذكر أخطاء العامة، بل كان يكتفي على الأغلب بإيراد الفصيح والصواب، فتراه يفرد باباً لـ فعَلت، بفتح العين، وفعِلت، بكسرها، من دون أن يذكر ما يصير إليه البناء عند العامّة إلا نادراً.
ومن مؤلفات هذا الصنف: «لحن العامة» لأبي بكر الزبيدي (ت 379هـ) الذي قسم كتابه قسمين، أولهما: «ما أفسدته العامة»، ويشمل ما غيرت في أصواته من استبدال حرف بحرف، أو تسكين لمتحرك، أو تحريك لساكن، وثانيهما: «ما وضعته في غير موضعه»، وهو خاص بما استعمل لغير ما وضع له من الألفاظ، ولم يرتب الزبيدي مواده داخل القسمين أي ترتيب، وكان دائماً يبدأ بذكر الخطأ متلوّاً بالصواب.
ومنها أيضاً «تثقيف اللسان وتنقيح الجنان» لمكي الصقلي (ت 501هـ)، فإنه قسم كتابه إلى خمسين باباً، مثل: «باب التصحيف»، «باب التبديل»، «باب ما غيروه من الأسماء بالزيادة». ومنها «تكملة ما تغلط فيه العامة» للجواليقي (ت540هـ) [ر] الذي تخلص من الأقسام الكثيرة، وجعل ما تلحن به العامة ثلاثة أنواع، نص عليها في مقدمة كتابه حين قال: «فمنها ما يضعه الناس في غير موضعه أو يقصرونه على مخصوص وهو شائع، ومنها ما يقلبونه ويزيلونه عن جهته، ومنها ما يُنقص منه ويزاد فيه وتبدل بعض حركاته أو بعض حروفه بغيره».
وجاء بعده عبد اللطيف البغدادي (ت609هـ) ليجعل «ذيل الفصيح» قسمين: الأول: باب ما يضعه الناس في غير موضعه، والثاني: باب ما تغير العامة لفظه بحرف أو حركة.
- الصنف الثالث: عمد مؤلفو هذا الصنف إلى ترتيب المواد على حروف المعجم، مع الإشارة إلى أن بعض مصنفات هذا النوع التزمت إيراد اللفظة كما هي في باب الحرف الأول منها غير مجردة من الزوائد، فالألفاظ: اجلس، اجتمع، أجبن. كلها في باب الهمزة.
ويمثل هذه الطريقة كتابان، أولهما «تقويم اللسان» لابن الجوزي (ت597هـ)، والثاني «تصحيح التصحيف وتحرير التحريف» للصفدي (ت 764هـ).
بيد أن مصنفات أخرى التزمت تجريد الكلمة من الزوائد، وخير ما يمثل هذه المصنفات في العصر الحالي كتاب «معجم الأخطاء الشائعة» لمحمد العدناني (ط 1980م) وهو كتاب غزير المادة ، ولم يكن يكتفي بذكر اللفظة مجردة بل كان يُظهرها عند الحاجة في سياقها، وقد نثر العدناني في معجمه هذا ما انتهى إليه سابقوه.
- الصنف الرابع: درجت عليه بعض المؤلفات المعاصرة، وهو صناعة جداول للخطأ والصواب، وتطرقت مؤلفات هذا الصنف إلى الكلمات العامية وما يقابلها من الفصيح، وأبرزها كتاب «الدرر السنية» لـ حسين فتوح، ومحمد علي عبد الرحمن (ط 1908) و«تهذيب العامي والمحرف» لـ حسن علي البدراوي (ط 1912) ، و«قاموس العوام» لحليم دمّوس (ط 1923).
وخلاصة القول أنَّ كتب اللحن على أهميتها وسعيها إلى الحفاظ على اللغة نقية خالصة غاب عن أصحابها مسألة هامة؛ وهي أن اللغة كائن حي وأن التطور الدلالي أمرٌ حتمي، وغاب عنهم أيضاً أن اللسان لابد من أن يخضع مع الزمن لقوانين التبدلات الصوتية.
نبيل أبو عمشة