المنطق
يعد أرسطو واضع المنطق الصوري. وهو, وإِن لم يدخله ضمن إِطار العلوم النظرية, أو لم يعدّه علماً مستقلاً بذاته, فإِنه استعمله فقط أداة للبرهنة في بقية العلوم, لأن موضوعه, بنظره, ليس وجودياً, وإِنما هو عقلي. فالمنطق يدرس صور الفكر البشري بغض النظر عن مضامينها الواقعية. وهكذا فإِن المنطق علم يوجه العقل نحو الحقيقة, ويسمح له, من خلال عملياته المختلفة (التصور البسيط, والحكم والتصديق, والمحاكمة والاستدلال), بإِدراكها, من دون أن يقع في الخطأ أو في الضلال. فالمنطق يدرس, إِذن,عمليات العقل الثلاث, من حيث الصحة والفساد. ولهذا أتت كتب أرسطو المنطقية موزعة إِلى ثلاثة أقسام: كتاب المقولات, الذي يدرس الأمور المتصورة تصوراً ساذجاً, وكتاب العبارة, الذي يدرس القضايا المركبة, وكتاب التحليلات الأولى, الذي يدرس الاستدلال من حيث صورته. أما الاستدلال, من حيث مادته, فإِنه إِما استدلال برهاني قائم على مقدمات كلية يقينية, وإِما استدلال جدلي مركب من مقدمات ظنية احتمالية, وإِما استدلال سفسطائي مؤلف من مقدمات كاذبة تحتوي على النتيجة احتواء ظاهرياً لا حقيقياً. ولهذه الأنواع الثلاثة من الاستدلالات,خصص أرسطو ثلاثة كتب منطقية: التحليلات الثانية أو البرهان, والجدل, والأغاليط.
وإِذا كانت العملية الأولى تسمح للعقل بإِدراك ذات الشيء وماهيته, على طريق استحضار صورته في الذهن من دون إِثبات أو نفي, فإِن العملية الثانية توحّد وتجزئ على طريق الإِيجاب والسلب: فعلى طريق الإِيجاب يُنسب المحمول إِلى الموضوع, وعلى طريق السلب يُنفى المحمول عن الموضوع. أما العملية الثالثة, فهي العملية المنظمة تنظيماً منطقياً, والتي تمكّن العقل من الانتقال بين الأشياء من معلوم إِلى مجهول. فالعملية الأولى تقع في مستوى الماهية, والثانية في مستوى الوجود لإِثباته أو نفيه, والثالثة في مستوى عقلي محض للاستدلال على مبادئ وجود الأشياء المجهولة انطلاقاً من الأشياء المعلومة.
كان أرسطو أول من أدرك بدقة إِمكان تكوين قياس صحيح, لا انطلاقاً من ذات واقعية فقط كما فعل سقراط, وإِنما كذلك انطلاقاً من ذات تصورية؛ وأول من حدّد, تماماً, علم توافق الفكر مع نفسه, فأعلن أنه عند افتراض قضيتين, فإِن القضية الثالثة ستنجم حتماً عنهما وفق ضرورة, ليست واقعية, وإِنما منطقية. وهكذا ميّز أرسطو بين مجال الفكر أو المنطق ومجال الواقع أو علم الوجود الميتافيزيقي, معترفاً في الوقت نفسه بالعلاقة الوطيدة بينهما. ومع أنه بذل قصارى جهده, ولاسيما في التحليلات الأولى وفي العبارة, لصوغ قوانين المنطق الصوري, فإِنه لم يتوصل إِلى التخلص من الاعتبارات الأنطولوجية, ولم يدرس قوانين القضايا المنطقية بوجه منفصل عن قوانين الوجود. وعلى كل حال, فإِن التفريق الواضح,الذي أقامه أرسطو بين الذهني والواقعي, يسمح لنا أن ندرس عنده المنطق الصوري بوجه مستقل عن العلم والميتافيزيقة. فالمنطق الصوري يدرس, إِذن, صورة القياس نفسها وعناصره المتمثلة بالمقولات.
المقولات:
إِن المقولات هي أجناس للموجود, بل هي الأنواع والأصناف الأساسية للوجود, ومن ثم الأنواع الأساس لمفاهيمنا عن طريقة وجود الأشياء. فهي مختلفة عن الوجود نفسه وعن محمولاته الاستعلائية, كالوحدة والحقيقة والجمال. وهي أيضاً مغايرة للألفاظ الكلية الخمسة (الجنس, والنوع, والفصل النوعي, والخاص, والعرض) الموجود أصلاً في التصور والمرتبطة ارتباطاً عملياً في الواقع. فهذه الكليات لا تملك, إِذن وجوداً مستقلاً بكل ما تحتويه كلمة وجود من معانٍ. والمقولات مختلفة كذلك عن الكلمات, لكون المقولات, بعكس الكلمات, مفاهيم يمكن حملها على موضوعات من دون أن تقوّمها.
وباختصار يمكن القول: إِن المقولات هي التحديدات الواقعية للموجودات وهي تشمل الأنواع العشرة التالية: الجواهر (الجواهر الأولى, مثل سقراط, والجواهر الثانية كالأنواع مثل إِنسان, والأجناس مثل حيوان), والكمية (مثل ثلاثة أشبار), والكيفية (مثل أبيض), والمضاف (مثل أكبر وأصغر), والمكان (مثل السوق), والزمان (مثل أمس), والوضع (مثل جالس), والملك (لابس الثوب), والفعل (يقطع أو القطع), والانفعال (مقطوع).
التصورات البسيطة الساذجة:
ميز أرسطو التصور من التحديد ( أو الحدّ), وذكر أنواع التصورات والفرق بين التضاد والتناقض.
معنى التصور وعلاقته بالتحديد:
إِن التصور, في معناه المنطقي والأنطولوجي, عنصر بسيط, ومتحد مع طبيعة الموجودات البسيطة غير المنقسمة. وهو يقوم على ذات الشيء التي هي أساس كل تحديد. والتحديد يقتصر على ذات الشيء المقوّمة له, وبوجه نوعي على هويته التي تقوّم وجوده,وتجعل منه حقيقة واقعية متميزة, ووحدة كلية غير منقسمة. وهذه هي التصورات المحضة كالأجناس والأنواع. بيد أن هناك, تحت هذه التصورات المحضة المقوّمة لماهيات الموجودات, تصورات أخرى أقرب من الأولى إِلى الفكر المنطقي وأهم منها, لأنها تقوم على وحدة الشيء المحدّد. وهذه هي العلل الصورية والمحركة والغائية.
وهكذا فإِن التحديد (الحدّ) بشموله لذات الشيء أو لصورته, يشمل, على نحو غير مباشر, مادته, لأن المادة إِمكانية بالقوة تتحقق بالفعل عند اتحادها بالصورة, ولأن التحديد لا يقع, في مستوى المادة والصورة, وإِنما فقط في مستوى الماهية. وهذا يعني أن التحديد يشمل المادة والصورة على طريق العلاقة الضرورية القائمة بينهما. أي على طريق العلة الغائية التي توحّد بينهما.
فالتصور الأرسطي, الذي يقوم أساساً على النوع أو على الصورة, ينجم من اتحاد الجنس مع الفصل النوعي. والجنس, الذي علاقته بالفصل النوعي كعلاقة المادة بالصورة, قاعدة التصور الأولى, لأنه العنصر الجوهري المشترك بين عدة أنواع. أما الفصل النوعي, فإِنه يشمل, في الأعيان, الفصول التي هي أدنى, وأخيراً المادة المقوّمة له.
العلاقة بين أنواع التصورات:
لقد كشف أرسطو النقاب عن الخطأ الذي أوصل الإِيليين ومن سار معهم من ميغاريين وفيثاغوريين إِلى طريق مسدود. وهذا الخطأ يقوم, برأيه, على اعتقادهم أن الموجود وحده قابل للتصور, أما العدم فلا يمكن تصوره. وهكذا فإِن التصور متطابق, عندهم, مع الموجود. وللإِفلات من هذا الخطأ, قام أرسطو بإِحلال مذهب الواحد - المتعدد, أو الواحد - الموجود, الذي قال به أفلاطون في كتابه «بارمنيدس», محل الموجود - الواحد مطلقاً, الذي قال به الإِيليون وأتباعهم. كما أنه ميّز في «المقولات» (الفصلان 10 و11) وفي «ما بعد الطبيعة» (المقالة العاشرة) بين التصورات محدداً الفرق بين التناقض والتضاد, أو بوجه عام, بين العدم والغيرية.
ميّز أرسطو أربعة أنواع من تقابل التصورات وهي: الإِضافة كالضعف والنصف, والتضاد مثل الشر والخير أو الأسود والأبيض, والعدم والملكة كالعمى والبصر, والإِيجاب والسلب المقومان للتناقض, مثل هو جالس وهو غير جالس.
يبيّن أرسطو, بوضوح, ارتباط هذه الأنواع الأربعة وتسلسلها. فالتقابل الأكثر إِطلاقاً يبدو في الشكل الرابع لعدم وجود حدّ متوسط بين طرفي التقابل, ويليه الشكل الثالث الذي هو تحديد لسابقه ونوع منه, ثم الشكل الثاني الذي هو دائماً عدم الوجود: فالشر هو دائماً عدم وجود الخير, لكن العكس غير صحيح. ويأتي في المرتبة الأخيرة الشكل الأول الذي يحتوي على أقل ما يمكن من السلب, لأن تقابل الطرفين فيه يقوّم طبيعتهما بحيث لا يوجدان إِلا معاً.