بواسطة زياد حسنين
هكذا عبّر الكاتب نيكولاس كار في مقالٍ له بعنوان “هل يجعلنا جوجل أغبياء؟” ، واصفًا كيف كان بإمكانه أن يجلس لساعاتٍ ليتصفحَ كتابًا ويغرقَ في تفاصيله ومواضيعه، في حين أنّه الآن يشعر بالتَّشتت وبفقدان التركيز بعد بضع صفحات.
تبدو هذه ظاهرة منتشرة بشدة الآن. قد تلاحظ أن باستطاعة بعض النّاس أن يجلسوا لمدة طويلة ليقرؤوا كتابًا بهدوء، في حين أنَّ الكثيرين يواجهون صعوبة في ذلك ويفقدون تركيزهم بعد بضع صفحات ليتفقدوا هواتفهم، أو حتى ليشردوا في الفراغ. لماذا أصبح من الصعب علينا الجلوس للتفكير والتّركيز بعمق مع كتابٍ ما على سبيل المثال؟ هذا ما يحاول كار أن يقدم إجابةً عليه في كتابه “السّطحيون: كيف يغير الانترنت أدمغتنا”.
معلومات باتساعِ ميل، لكن بعمقِ بوصة:
يعرض نيكولاس كار في كتابه “السّطحيون” (The Shallows) تأثير ثقافة ومجتمع الانترنت على قدراتنا الدماغية، من تركيز وتفكير وذاكرة. يرى الكاتب أن بيئة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لا تحفّز التركيز العميق، بل تشجع وتكافئ التفكير السطحي والتركيز الوجيز المشتت على مهماتٍ كثيرة. بسبب كمية المعلومات الجديدة (منشورات فيسبوك، تغريدات تويتر، صور، أو رسائل واتساب مثلًا) المَهولة التي نتعرض لها على الدوام بشكلٍ متتابع، فإنّنا بلا وعي نفضّل الحصول على أكبر قدر من هذه المستجدات على حساب التّركيز المطوّل مع معلومة واحدة. فكر مليًا في عدد المنشورات والتغريدات والرسائل والصور التي تعرضت لها اليوم فقط، وكم من الوقت أمضيت مع كلٍ منها.
الدماغ الذي يغير نفسه
يبني كار فكرته الأساسية على مفهوم “الليونة العصبية” Neuroplasticity، والذي يعني أن الوصلات الدِّماغية لديها القدرة على إعادة التشكّل حسب الاستعمال والإهمال. يستعرض كار في كتابه العديد من الأبحاث التي توضح مدى ليونة وصلات الدماغ وكيف أن الدماغ بالفعل يتغير من الداخل عند تعلّم مهارة أو اكتساب عادةٍ جديدة.
يعرض كار في بداية كتابه تاريخ القراءة وكيف تطورت بمرور الزمن، فكما يقول فالقراءة ليست عادةً فطرية (كالتحدث)، بل مكتسبة. فعلى سبيل المثال كانت المخطوطات قديمًا تُكتب بدون مسافاتٍ بين الكلمات (إذا فكرت فيها لوهلة فنحن لا نصمت بين الكلمات بالفعل)، وبالتالي كان الناس بحاجة إلى القراءة بصوتٍ عالٍ لكي يستطيعوا فكَّ الكلمات من بعضها، فالقراءة الصامتة عادةٌ مستحدثة. يوضح كار كيف أن لكل تطورٍ في وسائل نقل المعارف وتسجيلها أثرًا على الدماغ ووصلاته بالفعل، بل إن هذا السجال الدائم بين “رواد التكنولوجيا” والمتوجسين منها يمتد تاريخه إلى اليونان القديمة، حيث تهكّم سقراط باختراع الكتب التي “تخلق النسيان في نفس المرء” بدل أن يعتمد على ذاكرته. وبعد اختراع الطابعة، اشتكى روبرت برتون من “فوضى الكتب الخلاقة” التي نتجت عن ذلك الاختراع. ناهيك بالطبع عن آثار الراديو والتلفاز التي -حسب كثيرين- حرمت الكثير من الأطفال من متعة القراءة.
انطلاقًا من هذه المحطات المختلفة يوضح الكاتب -المختص بشئون التكنولوجيا بالأساس- كيف أن الدماغ يتكيف ذاتيًا مع ظروفه والوسائل التي يتعامل بها حسب مبدأ الليونة العصبية. إذ مع كل تغيّر في تكنولوجيا العصر كانت الثقافة السائدة تتغير وتتغير معها طرق رؤية العالم (بعد اختراع الساعة كان العالم عبارة عن آلة ميكانيكية وكان الله صانع ساعات، وبعد ظهور الكمبيوتر أصبح الدماغ كالحاسب الآلي، على سبيل المثال).
كيف يغير الانترنت أدمغتنا؟
تكيّف الدماغ هذا لا يكون سوى بالممارسة والتعوّد؛ فحسب الكاتب، وصلات الدماغ المختصة بالقراءة المتعمقة تتحسن مع المواظبة على التركيز، في حين أن وصلات الدماغ تتغير بسبب ثقافة التشتت التي يخلقها الانترنت لكي تستقبل أكبر قدر ممكن من المدخلات بدون الحاجة الى تمحيص كلٍ مُدخلٍ بتعمق. بالرغم من الجوانب المفيدة للّيونة العصبية، إذ تعطي أملًا في تغيير أي عادة مهما كانت، إلا أن الكاتب يركز على جانبها الشرير في هذا الكتاب: فالإفراط في استعمال الانترنت ومواقعه يكيّف الدماغ على القراءة السريعة للمحتوى والاستقبال السطحي لمعلوماته، مما يجعل العودة لقراءة كتابٍ ما أو القيام بعمل يتطلب تركيزًا عميقًا لفترة مطولة أصعب وهكذا دواليك.
علينا هنا أن نقف لنسأل سؤالًا عارضًا: هل نشوء أجيال كاملة من السطحيين ومعدومي الثقافة -في نظرِ البعض-، نتيجة لظهور الانترنت بالفعل؟ فبالرغم من حقيقة أن الوسائل والتقنيات التي نستعملها تؤثر بالفعل وتغير من وصلات الدماغ وعملياته، إلا أن وجود أناسٍ سطحيين وخاوين ثقافيًا في كل مجتمع أمرٌ أزلي، فعبر العصور كان الشعراء والحكماء يشتكون من وجود السطحيين والمتعالمين، وما يحدث بسبب الانترنت ما هو الا تطور في شكل الظاهرة لا غير [2]. فلا يجدر بنا إلقاء اللوم كله على تطور وسائل التَّواصل، فالكاتب نفسه يقرّ بأنَّ لوسائل التواصل الجديدة مميزات عديدة، إلا أنَّه يريد تسليط الضوء على بعض الأعراض الجانبية التي يراها خطيرة.
كيف يدمر الانترنت قدرتنا على التركيز؟
أثناء تصفح الانترنت، فأنت محاط على الدوام بمشتتات كثيرة: إعلانات جانبية، فيديوهات مقترحة من اليوتيوب، روابط متعددة داخل المقال، وغيرها الكثير من المشتتات غير المتاحة في صفحات الكتب. إنَّك مطالبٌ بالفعل بالتركيز على كل هذه المدخلات والمعاملات لكي تنتقي منها ما يهمك وما يجذب انتباهك، في حين أنَّك أثناء قراءة كتاب مثلًا، أقصى ما يمكنك فعله هو تلوين عبارةٍ ما أو تدوين ملاحظة لتستمر بالقراءة حيث لا روابط تأخذك إلى صفحاتٍ أخرى. في الانترنت أنت مُحاط بكمٍ مهول من المعلومات والمدخلات غير المترابطة في أغلب الأحيان، ففي لحظة قد تتفقد رسائل الواتساب التي أرسلها صديقك، ثم تنتقل لتضع منشورًا عن مباراة الأمس على الفيسبوك، وتشاهد صور أقاربك، ثم تطالع مقالًا علميًا، ومن ثم تقرر مشاهدة فيديو على اليوتيوب عن وسائل الحمية الصحية، وكل ذلك في غضون بضع دقائق لا غير. أنت بالفعل لا تمضي أكثر من بضع دقائق في أي مهمة من المهمات السابق ذكرها. بينما حين تقرأ كتابًا مثلًا فأنت تسير في خطٍ مستقيم عن موضوعٍ واحد، بلا مشتتات وبلا روابط جانبية.
يمضي الكاتب ليصرّح بأن ما يسمى بتعدد المهمات (Multi-tasking) هي أسطورة كبيرة. يمكنك بالفعل أن تقوم بعدةٍ مهماتٍ معًا في وقتٍ واحد، لكن مدى فعاليتك وإنجازك في كلٍ منها سيتأثر بشكلٍ كبير.
ما يزيد الوضع سوءًا أنه لا نقطة نهاية: بإمكانك أن تتصفح الانترنت إلى أبد الآبدين وفي كل لحظة ستجد شيئًا جديدًا (هل فتحت اليوتيوب مرة لمشاهدة فيديو ما ثم انتهى بك الحال بعد ساعتين لمشاهدة مقاطع عن القطط الأليفة مثلًا؟)، وأنت محاط بخوارزميات وبرامج كل هدفها هو جلب ما يثير اهتمامك إليك لكي تبقى أطول فترةٍ ممكنة متصلًا على الشبكة (وذلك عكس الكتاب الورقي بالطبع الذي ينتهي بدوره). بيئةٌ كهذه لا تساعد على التركيز البتَّة وتخلق مدة اهتمام (attention span) وجيزة، ويعبّر الكاتب عن حاله بقوله “كنت غواصًا في بحرٍ من الكلمات، والآن أنا أندفع على سطح الماء بزلاجة مائية”.
لماذا تدفعنا مواقع التواصل نحو الإدمان؟
لنستطرد الآن قليلًا ونحاول تحليل ما قد قيل منذ قليل من ناحية سيكولوجية بعض الشيء. ما الذي يدفعنا لإدمان الانترنت، أو لإدمان أي شيءٍ عمومًا؟
يوجد في علم النفس مصطلح يسمى بالجدول المتغيّر للتعزيز (Variable Schedule of Reinforcement)، حيث يقوم المرء بالحصول على مكافأة للقيام بمهمةٍ ما، لكن بعد عددٍ غير ثابت من المحاولات، ما يخلق شعورًا بالترقب الدائم لدى الفرد. يمكنك أن تكافئ ابنتك بقطعة حلوى بعد قضائها ساعة في المذاكرة، ثم تدعها ساعة أخرى دون مكافأة، وتكافئها بعدها بنصف ساعة بقطعة مثلًا وهكذا. هذا المبدأ هو الذي يدفع الناس إلى إدمان المقامرة.
لنرى الآن ما تفعله وسائل التواصل على سبيل المثال: حين يأتيك إشعار “رنة” على هاتفك الشخصي، فأنت لا تعلم ما سببها: هل أرسل لك أحدهم رسالة؟ هل هو ذلك الرد الذي تنتظره على تعليقك؟ هل قامت قناتك المفضلة برفع فيديو جديد؟ هل يوجد جديد في عالم الأخبار أو تويتر أو فيسبوك؟ أنت بالفعل تتعرض لنظامٍ مُتغير وغير ثابت من التشجيع على تصفح الانترنت، ودائمًا في انتظار ما هو جديد (تأثير الإدمان هذا قد يشبه تأثير الكوكائين!)[3]
حتى علاقاتنا الإنسانيَّة في خطر!
في الفصل الأخير يحاول الكاتب أن يعمم فكرة الكتاب على العلاقات الإنسانيَّة على مواقع التَّواصل، واصفًا إياها بأنَّها تصبح أكثر سطحية وابتذالًا بل إننا نفقد بالفعل جزءًا كامنًا من ذواتنا كبشر بسبب قصور الانترنت عن القيام مكان التواصل الواقعي (كم مرة واجهت منشور نعي لأحد معارفك، وعوضًا عن الاكتفاء بـ”لايك” قمت فعلًا بالتَّواصل معه واقعيًا أو حتى بالدُّعاء له خارج الفيسبوك؟).
في تطبيقات الشات والدردشة مثلًا أنت لا ترى ملامح الشخص الآخر ولا نبرة صوته ولا حركات جسمه، وعلى الدوام أنت مُحاطٌ بصور أصدقائك وهم مبتهجون ومسرورون ولا ترى إلا السُّعداء على انستجرام مثلًا. يمكننا الانترنت من تقمص أي شخصية نريدها وعرض الجوانب التي نحب فقط من حيواتنا، ما يخلق بيئةً مُخادعة في الواقع الافتراضي والتي بدورها تؤثر سلبًا على مشاعرنا ونفسياتنا. تذَّكر دائمًا أنه لا يوجد أحد ينشر لحظات فشله على صفحته الشخصية، ولن يصور أحدهم نفسه وهو جالسٌ في بيته وحيدًا لينشرها -فرحًا- على الانستجرام. مواقعُ التَّواصل الاجتماعي خادعة.