ما هي الكتلة Mass ؟ و من أين تأتي ؟ تبدأ قصة كتلة الجُسيمات مباشرةً بعد الانفجار العظيم . خلال اللحظات الأولى للكون، كانت الجسيمات كلها تقريبًا عديمة الكتلة ، مُسافرة بسرعة الضوء فيما يُسمَّى بـ الحساء البدائي للكون – primordial soup الشديد الحرارة، ويُعرف أيضًا بـ «بلازما بداية الكون». وفي وقت ما خلال هذه الفترة، بدأ مجال (هيغز- Higgs)، مُخترقًا الكون ومُعطيًا كتلة للجسيمات الأولية.
اقرأ ايضًا:
وقد غيَّر مجال هيغز البيئة عندما تم تشغيله، مُغيِّــرًا بذلك الطريقة التي تتصرف بها الجسيمات. وتُشبِّه بعض الاستعارات الأكثر شيوعًا مجال هيغز ببرميل من الشراب السميك، مما يؤدي إلى إبطاء بعض الجزيئات أثناء العبور من خلاله.
وقد تصوَّر آخرون مجال هيغز كحشد من المصورين في حفلة. وكأنَّ مشاهير العلماء أو المدعوون المهمون يمرون، والناس يحيطون بهم، مما يؤدي إلى بطء حركتهم، ولكن الوجوه الأقل شهرةً تَعبُر من خلال الحشود دون أن يُلاحظها أحد. في هذا التشبيه، الشهرة تُعبِّر عن الكتلة، فكلَّما كانت شعبيتك أكثر، كلَّما زاد تفاعلك واحتكاكك بالجماهير، وزاد “ثقلك”. ولكن لماذا عَمِلَ مجال هيغز؟ ولماذا تتفاعل بعض الجزيئات أكثر مع حقل هيغز من غيرها؟ الإجابة القصيرة هي: نحن لا نعرف.
يقول (مات ستراسلر- Matt Strassler)، عالم الفيزياء النظرية والمُساعد في قسم الفيزياء في جامعة هارفارد: «هذا جزءٌ من السبب في أنَّ إيجاد مجال هيغز هو مُجرَّد بداية، لأن لدينا العديد والعديد من الأسئلة».
القوة العظيمة … وأنت.
يُعطي مجال هيغز كتلة إلى الجزيئات الأساسية مثل الإلكترونات، الكواركات، وجسيمات أساسية أخرى والتي لا يُمكن تقسيمُها إلى أجزاءٍ أصغر. ولكن هذا لا يزال يُمثّـل نسبة صغيرة من كتلة الكون فقط.
وتأتي بقية كتلة الكون من البروتونات والنيوترونات، التي تحصل على معظم كتلتها من القوَّة النووية الشديدة. وتتكوَّن هذه الجسيمات كُلٌّ منها من ثلاثة كواركات تتحرك بسرعات فائقة وتربطهم معًا (الغلونات- gluons)، وهي الجزيئات التي تحمل القوَّة الشديدة. وإنَّ الطاقة من التفاعل بين الكواركات والغولونات هي ما تُعطي البروتونات والنيوترونات كتلتها. ضعْ في اعتبارك نظرية آينشتاين الشهيرة E = MC2، التي تُعادل الطاقة والكتلة. وهذا ما يجعل الكتلة مُنشأة سرِّية لتخزين الطاقة.
يقول (جون لاجوي- John Lajoie)، عالم فيزياء في جامعة ولاية أيوا، «عندما تضع ثلاثة كواركات معًا لخلق بروتون، ينتهي بك الأمر مُقلِّصًا كثافة طاقة هائلة في منطقة صغيرة في الفضاء».
يتكوَّن البروتون من اثنين من الكواركات العلوية وكوارك سفلي؛ ويتكوَّن النيوترون من اثنين من الكواركات السفلية وكوارك علوي. فتركيبتهم المُتشابهة تجعل الكتلة التي يكتسبونها من القوَّة الشديدة مُتطابقة تقريبًا. ومع ذلك، النيوترونات تمتلك كتلة أكبر قليلًا من البروتونات وهذا الفرق هو في غاية الأهمية. عملية تحلُّل النيوترونات إلى بروتونات تُعزِّز الكيمياء، وبالتالي، علم الأحياء. إذا كانت البروتونات أثقل، فإنها ستتحلَّل إلى نيوترونات، والكون كما نعرفه لم يكن ليتواجد.
يقول (أندرياس كرونفلد – Andreas Kronfeld)، عالم الفيزياء النظرية في مختبر فيرمي، «وكما تبين، تتفاعل الكواركات السُــفلى بقوَّة أكبر مع مجال هيغز، لذلك لها كتلة أكبر قليلًا». وهذا هو السبب في وجود فرق بسيط بين كتلة البروتون وكتلة النيوترون.
ولكن ماذا عن النيوترونات؟
لقد تعلَّمنا أن الجسيمات الأولية تحصل على كتلتها من مجال هيغز، ولكن مهلًا! قد يكون هناك استثناء ألا وهو النيوترونات. فالنيوترونات هي فئة بحد ذاتها. لديها كتلٌ صغيرةٌ للغاية «مليون مرَّة أصغر من الإلكترون، وهي ثاني أخف جسيم»، وهي مُحايدة كهربائيًا، ونادرًا ما تتفاعل مع المادة.
وقد احتار العلماء لماذا النيوترونات خفيفةٌ جدًا. ويدرس واضعو النظريات حاليًا إمكانياتٍ عديدة. ويُمكن تفسير ذلك في أنه إذا كانت النيوترونات ذاتها هي الجسيمات المُضادة لنفسها، فهذا يعني أن نسخة المادة المُضادة مُطابقة لنسخة المادة نفسها. وإذا ما اكتشف الفيزيائيون أن هذا هو الحال، فإن ذلك يعني أن النيوترونات تحصلُ على كتلتها من مكان آخر غير بوزون هيغز، الذي اكتشفه علماء الفيزياء في عام 2012.
ولابد أن النيوترونات تحصلُ على كتلتها من مجال شبيه بـمجال هيغز، الذي هو مُحايدٌ كهربائيًا ويتجاوز الكون كله. ويمكنه أن يكون هو نفس الهيغز الذي أعطى كتلة للجسيمات الأولية الأخرى، أو أنه يمكن أن يكون شبيهًا له. وفي بعض النظريات، كتلة النيترون تأتي أيضًا من مصدرٍ إضافي، مصدرٌ جديدٌ للغاية والذي يُمكن أن يُوقف الإجابات لأسرارٍ أخرى باقية في فيزياء الجسيمات.
ويقول (أندريه جوفيا – André de Gouvêa)، وهو فيزيائي الجسيمات النظرية في جامعة نورث وسترن، «يميل الناس للتحمُّس لهذه الاحتمالات لأنه يُمكن تفسيرُها على أنها دليلٌ على وجود مقياسٍ جديد جدًا للطاقة، لا علاقة له بظاهرة هيغز».
ويمكن لهذه الآلية الجديدة أن تكون ذات صلة بكيفية حصول المادة المُظلِمة على كتلتها، ويعتقد العلماء أن تلك المادة المُظلِمة تتكوَّن من جسيماتٍ لم تُكتشف بعد.
كما يُضيف أندريه جوفيا: «تميل الطبيعة إلى أن تكون اقتصادية، لذلك من المُمكن أن تكون نفس تلك المجموعة الجديدة من الجسيمات لديها التفسير لكل هذه الظواهر الغريبة التي لدينا والتي لم تُــفسَّر حتى الآن».