احنف قيس
Al-Ahnaf ibn Kays - Al-Ahnaf ibn Kays
الأحنف بن قيس
(ت نحو 70 هـ/ نحو 688م)
أبو بحر صخر بن قيس بن معاوية من بني مرّة بن عُبيد من بطن بني سعد التميميين وقيل إِن اسمه الضحاك وقيل الحارث, مات أبوه وهو صغير فربته أمه وهي باهلية من فواضل نساء العرب في زمانها.
لقّب الأحنف لحنف في قدمه - أي عوج - ولم تكن هي العاهة الوحيدة المشوهة لخلقه, بيد أنه استطاع سيادة قومه من تميم البصرة وغدا زعيمهم برصانته وعمق تفكيره وصحة رأيه وسداد حكمه وامتلاكه عواطفه وحنكته ووقاره وصدقه.
يقال إِنه أدرك النبي e, ولم يره, وقد تقبل دعوة الإِسلام, وتخلّق بخلقه, فكان يصلي ليله, ويقرأ القرآن في خلوته, ويحاسب نفسه, وقد روى عن عمر بن الخطّاب وعلي بن أبي طالب وأبي ذرّ وكان ثقة مأمون الحديث.
أعجب به عمر بن الخطاب حين أتاه عام 17 هـ مع وفد من أهل البصرة فاستبقاه في المدينة عاماً كاملاً, ثم أذن له بالعودة, وكتب إِلى أبي موسى الأشعري والي البصرة إِذ ذاك: أَدْنِ الأحنف وشاوره واسمع منه.
وكان له شأن كبير في فتوح فارس زمن ولاية أبي موسى الأشعري فشارك في فتح كور الأهواز وقاشان وأصفهان وقُم, ثم شارك أيام الخليفة عثمان في فتح خراسان, تحت إِمرة عبد الله بن عامر والي البصرة فكان من أنشط القّواد, وأكثرهم جلداً وصبراً, حتى افتتح كوهسْتان وهَراة ومَرْو ومَرْو الرّوذ وبَلْخ وغير ذلك من الأقاليم, ولكنه لم يفلح في أسر يَزْدَجُرد ملك فارس أو قتله إِذ كان يتقهقر نحو أواسط آسيا, غير أنه استطاع أن يمنعه من تثبيت أقدامه في أي مكان, ومن إِثارته القبائل الفارسية على المسلمين, كما حال دون تألب الترك على العرب, واستطاع أن يحمي ما فتحوا من البلاد. وقد ولي بعض أعمال خراسان مدة من الزمن, ثم عاد إِلى البصرة, فتزعم قومه من بني تميم الذين كانوا ذوي النفوذ الأقوى في البصرة حينذاك.
وفي موقعة الجمل عام 36هـ /656م التي جرت بعد مبايعة علي بن أبي طالب, لم يستطع الأحنف أن يحمل قومه بني سعد على مناصرة علي, ولكنه جعلهم يقفون موقف الحياد, في حين أن سائر بني تميم انحازوا إِلى صف عائشة.
غير أنه انحاز إِلى عليّ في موقعة صفّين عام 37هـ /657م وكان أول أهل البصرة الذين قدموا له الطاعة عقب انتصاره, وقيل إِنه عارض اختيار أبي موسى الأشعري للتحكيم, وعرض على عليّ أن يكون هو الحكم مكان أبي موسى.
ولما استتب الأمر لمعاوية, استقرّ الأحنف في البصرة, مضطلعاً بشؤون قومه. بيد أن معاوية لم يهمل شأنه إِذ كان يعلم أن الرجل إِذا غضب غضب لغضبه مئة ألف من تميم لا يسألونه لماذا غضب, فقرّبه منه وأدنى مجلسه إِذ قدم عليه.
وكان أحد الرجال المبرزين الذين استدعاهم معاوية إِلى دمشق عندما أقرّ البيعة بولاية العهد لابنه يزيد, وقال قولته المشهورة عندما سئل عن سكوته: «أخاف الله إِن كذبت وأخافكم إِن صدقت».
وفي أثناء ولاية زياد بن أبيه للبصرة كان زياد كثير الرعاية للأحنف, يقدّمه ويسمع له. وعندما تولى ابن زياد البصرة لم يعرف قدره في البدء, ولكنه ما لبث أن قرّبه, واستمع إِليه كما كان يفعل أبوه.
كان موقفه في البصرة موقف الحكيم المصلح بين القوى المتنافسة المتخاصمة من ربيعة ومُضَر, وقد تمكن من تدارك العراك مدة وإِن لم يتمكن من إِزالة العداوة.
وبعد أن تولى يزيد بن معاوية الحكم ثارت الأحقاد, ونشأت الاضطرابات في البصرة, وتحالفت الأزد وربيعة على بني تميم ومضر وتفاقم الخطب فكان الأحنف يدعو إِلى السلم وتناسي الأحقاد على الرغم من اضطراره إِلى الاشتراك في المعارك التي نشبت في طرقات البصرة. وكان جلّ اهتمامه منصرفاً إِلى التوفيق بين القبائل المختلفة, والدعوة إِلى تضافر رجالها للوقوف أمام العدو المشترك: الخوارج, لذلك قبل بشروط الأزديين التي تنص على دفع الدية عن جميع الأرواح التي أزهقت من الأزد وربيعة ويقبل بهدر دماء قومه مع أنها كانت مجحفة بحقهم, ودفع جزءاً من الدية من ماله الخاص حتى ثبت الصلح وعاد الهدوء إِلى البصرة. ولما غلب ابن الزبير على العراق دخل الأحنف في طاعته مع قومه. وفي عام 65هـ /684م طلب إِليه أهل البصرة أن يسير إِلى محاربة الأزارقة الذين دنوا من مدينتهم, فأشار عليهم بتأمير المهلّب لأنه أشد كفاية منه وأقوى.
وفي عام 67هـ/ 686م اشتدت مقاومة المختار, فاضطر الأحنف - وهو في شيخوخته - أن يقود كتيبة من التميميين في حملته على الكوفة مقر المختار. وكانت وفاته بعد ذلك بمدة قصيرة, واختلف المؤرخون في تعيينها وأرجح الأقوال أنها كانت بين سنتي 69 هـ و71 هـ, بعد أن جاوز السبعين, ودفن في الكوفة.
وللأحنف أخبار كثيرة وأقوال في كتب التاريخ والأدب تدلّ على ما اتصف به من سداد الرأي والحكمة وقوة الحجّة وسعة الحلم, حتى كان يضرب به المثل فقيل: «أحلم من الأحنف». كما عرف بفصاحة اللسان وإِجادة الخطابة, وقد أعجب عمر ببلاغته, وأثرت عنه طائفة من الخطب والأقوال البليغة.
سأله معاوية مرة: «يا أبا بحر, ما تقول في الولد؟» فأجاب: «يا أمير المؤمنين, هم عماد ظهورنا, وثمرة قلوبنا, وقُرة أعيننا بهم نصول على أعدائنا, وهم الخلف منّا لمن بعدَنا, فكن لهم أرضاً ذليلة, وسماءً ظليلة, إِن سألوك فأعطهم, وإِن استعتبوك فأعتبهم, ولا تمنعهم رفدك فيملوا قُربك, ويستثقلوا جناحك, ويتمنَوا وفاتك».
فقال معاوية: «لله درُّك يا أبا بحر, هم كما وصفت».
ج.ت