تختلط علينا الكثير من المفاهيم والمُصطلحات العلمية، حتى أننا قد نخلط بين أكثر من مفهوم في آنٍ واحد، ومثل هذه الأخطاء تؤدي إلى الفهم الخاطئ لبعض النظريات العلمية، ومن أبرز هذه الأخطاء هو الخلط بين مفهومَي الحرارة ودرجة الحرارة.
إن كان هناك إناء وقمنا بلمسه، فبواسطة حاسة اللمس سنعرف إن كان هذا الإناء ساخن أم بارد، فحاسة اللمس تعطينا معلومات «كيفيّة» عن درجة الحرارة، ولكن في نفس الوقت إن هذه الحاسة قاصرة عن إمدادنا بأية معلومات «كميّة» عن تلك الحرارة.
ولكي تصل إليك المعلومة بشكل أفضل، فلنفترض أن هناك رجلين، إحداهما من الأسكيمو والآخر من غابات وسط إفريقيا، والتقى الاثنان بدولة لبنان في فصل الربيع مثلًا، فكلٍّ منهما سوف يعطي انطباع عن درجة الحرارة مختلف عن الآخر، فرجل الأسكيمو سيشعر بارتفاع درجة الحرارة، ورجل الغابات سيشعر بانخفاض درجة الحرارة، ولأن العلم لا يعتمد على الحَدْس والشعور، كان من الواجب إيجاد حل لهذه المعضلة.
استطاع غاليليو كالعادة أن يصنع أول ميزان حراري بسيط، ولكن آلية عمل هذا الجهاز معقدة وتستند على بعض الافتراضات الفيزيائية المعروفة، فالطبيب مثلًا عندما يستخدم الترمومتر لقياس درجة حرارة المريض، فإن عمود الزئبق داخل الترمومتر يرتفع كلما ارتفعت درجة حرارة المريض، حتى تصبح درجة حرارة كلاهما متساوية، فهل من المعقول أن جسمين مختلفين يحويان حرارة واحدة لمجرد أن درجة حرارتهما متساوية؟ إن كانت إجابتك نعم فأنت مخطئ، وهذا أول خَلْط بين مفهومَي الحرارة ودرجة الحرارة.
ولتفهم الفرق بينهما بشكل أعمق، فلنفترض أن هناك إناءين يحويان ماءً، درجة حرارته في كليهما مساوية لدرجة حرارة الغرفة، ولكن إحداهما يحتوي على لتر واحد والآخر يحتوي على 10 لتر من الماء، إذا قمنا بتسخينهما حتى درجة الغليان، فسنجد أن الإناء الذي يحتوي على لتر واحد من الماء يصل لدرجة الغليان أسرع من الإناء الآخر، وهنا نستنتج أن الإناء الآخر يحتاج إلى شيء إضافي كي يصل لدرجة الغليان، هذا الشيء هو ما نسميه الحرارة.
لو أجرينا التجربة السابقة ولكن استبدلنا الإناء ذي 10 لتر ماء بإناء آخر يحوي لتر واحد زئبق وقمنا بتسخينه، سنجد أن إناء الزئبق يصل إلى درجة الغليان أسرع من الإناء الذي يحوي الماء، وذلك لأن كمية الحرارة اللازمة لتسخين كمية معينة من الزئبق درجة واحدة أقل بكثير من الكمية اللازمة لتسخين نفس الكمية من الماء درجة واحدة، وهذا ما نُطلق عليه مصطلح (الحرارة النوعية)، وهذا المُصطلح متباين بين كل أنواع المواد، فلكل مادة حرارة نوعية مُختلفة عن الأخرى، بشرط تساوي كُتل تلك المواد.
تتميز الحرارة بالعديد من الخصائص التي نستفيد من تطبيقها في الكثير من الأمور الحياتية.
إن كان هناك جسمين، أحدهما ساخن والآخر بارد، وجعلناهما في وضع ملامسة، فبعد فترة زمنية سنجد أن الاثنين أصبحا بنفس درجة الحرارة، فالحرارة انتقلت من الساخن إلى البارد وهذا ما نُطلق عليه سريان الحرارة.
فالحرارة تسير كما يسير الماء من المنسوب العالي إلى المنسوب المنخفض، حتى يتساوى الماء في الجانبين.
يتضح مما سبق أن مفهوم الحرارة قريب نوعًا ما من مفهوم الكتلة في علم الميكانيك، وهذا هو الطبيعي فهناك الكثير من المفاهيم الفزيائية القريبة في طبيعتها، ولكن هناك اختلافات جذرية بينهما أيضًا، فمثلًا الكتلة يمكن الكشف عنها بالميزان، فهل يمكن أن نكشف عن الحرارة بالميزان أيضًا؟ بالتأكيد لا، فإن قمتَ بوزن قطعتين من الحديد إحداهما مُسخنة والأخرى باردة، فستجد أن القطعتين متساويتين تمامًا، فالحرارة لا تؤثر بكتلة الأجسام.
منذ زمن بعيد كانت اليونان هي من يسيطر على مقادير العلم بفضل امتلاكها للعديد من الفلاسفة والعلماء في نفس الوقت، ولعل أبرزهم هو أرسطو، هذا الرجل الذي كان يمتلك نظرية مختلفة للمواد المُحيطة به، فكان يعتقد بأن الكون كله عبارة عن تفاعل بين عنصريين أساسيين، هما المادة والصورة، وأطلق مصطلح (الهيولة) على كلمة المادة.
فكل جسم في الكون يتكون من أصل مادي لا يمكن تخليقه أو إزالته، وله صورة خاصة به، وهذه الصورة هي ما نراها وتُكسِب الأشياء هيأتها الخاصة.
فكان السؤال الأزلي الذي شغل بال الكثير من الناس هو هل الحرارة تُعتبر جزء من الهيولة أو المادة؟
أي لها خواص مادية؟، وكانت الإجابة بعد العديد من التجارب هي لا، فالحرارة لا تكتسب أي خاصية من خواص المادة سوى السريان، أي الانتقال من جسم إلى جسم آخر، ومن هنا أصبحنا في حاجة لطريق ثانٍ نبحث فيه عن أسرار الحرارة ومكنوناتها، ولكن قبل ذلك، سنعرّج قليلًا على الميكانيك مرة أخرى حتى نفهم سراً آخراً من أسرارها، ومن ثم سنعود للحرارة.