السويداء مدينة المعابد الضاربة في التاريخ
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
1/5
المصدر:
- الحسكة – عبدالله رجا
رحلة عبر الزمن، تجربة يمكن أن تعيشها بالفعل في جنوب سوريا، وتحديداً في السويداء الشهيرة بحجارتها السوداء التي لا تشبه سواها في مكان آخر.
التجربة انطلقت من أمام معبد روماني قديم فقد الكثير من أجزائه، ولكنه بقي محافظاً على واجهته السوداء اللون، وأعمدته الكثيرة بزخارفها الرومانية أيضاً، هذا المعبد هو جزء من سلسلة آثار بقيت إلى اليوم في مدينة «قنوات»، أو «كاناثا»، كما عُرفت في الماضي، باللغة الآرامية.
حالة من الصدمة تقدمها «قنوات» لزائرها، فالآثار منتشرة في كل مكان متداخلة مع الطبيعة القاسية للمنطقة الشهيرة بانخفاض درجات حرارتها بشكل قاسٍ في الشتاء، ومتعانقة مع غطاء نباتي من أشجار البطم والتفاح والعنب. ولأن زيارتنا كانت في الشتاء، فكان من الضروري التسلح بأحذية سميكة ومعطف سميك أيضاً لتجنّب البرودة القاسية في المكان، كما كان من الطبيعي أن يقتصر التواجد على أفراد من سكان المنطقة، خاصة وأن الغرباء باتوا يتجنّبون هذه المحافظة بشكل عام مع ازدياد حوادث الخطف، وهو السبب الذي دفعنا لزيارتها برفقة أفراد من المنطقة يملكون خبرة في الطرقات ووسائل النقل الآمنة.
أخبرنا مرافقنا - وهو مختص بآثار منطقته - بأن هذا المكان يرجع للعصور الحجرية الوسيطة والحديثة، وأن الإنسان القديم سكنها وأقام فيها، واستقرَّت فيها موجات من الهجرة قادمة من شبه الجزيرة العربية، ومن أكاد، آمور، كنعان، آرامية، آشور، بدءاً من الألف الثالث قبل الميلاد، ولم تسلم من الغزو، إذ دخلها الغزو السلوقي والبلطمي ثم الروماني والبيزنطي، وانتهى التواجد البيزنطي مع الفتوحات العربية الإسلامية عام 635 ميلادياً.
التواجد الإسلامي والعربي الطويل في السويداء وتعريبها لم يفقداها تاريخها البيزنطي والروماني، فالآثار ما زالت موجودة وكأن سنوات قليلة مرت على مغادرة هؤلاء وليس قرون عديدة، فمعبد هليوس المخصص لعبادة إله الشمس والمبني في القرن الثاني الميلادي، ما زال موجوداً حتى اليوم، ومع أنه فقد كثيراً من الأعمدة، وتغيرت بعض ملامحه، كما تغير الإله الذي يُعبد فيه، لكنه بقي صامداً لليوم. ومن المعابد في المنطقة معبد زوس «إله السموات»، ومعبد أثينا اللات وهي «إلهة الحكمة»، ومعبد «إلهة المياه»، وكان داخله مملوءاً بالمياه لأشهر عدّة كي يستمرّ تقديس «إلهة المياه»، أما خامس المعابد فهو معبد «الأوديون»، وهو عبارة عن مسرح صغير الحجم بقي منه اليوم تسع درجات، بعضها محفور في الصخر.
حضور قوي
«قنوات» التي استقبلت الكثير من الوافدين والغزاة عبر تاريخها، استقبلت أيضاً ديانات ورسالات عديدة، ورغم أن غالبية السكان فيها اليوم -وفي السويداء عامة- هم أبناء الطائفة الدرزية، لكنّ ثمة حضوراً قوياً للمسيحية، وهو حضور ضارب في التاريخ، إذ شغلت في العصر البيزنطي مركزاً أسقفياً ارتبط بأنطاكية، وشكّلت مركزاً مهماً للحجّ المسيحي إلى جانب مدينة السويداء، ولهذا نجد الكثير من الكنائس، ولعل أبرزها، الكنائس البازلتية وهي معلم مهم في المنطقة، وتقع ضمن مجموعة الكنائس المعروفة باسم «السراي»، وكان الدخول إليها يتم من الجهة الغربية عن طريق مدخل كبير له ثلاثة أبواب.
عرفنا مرافقنا على هذا التجمع، واصطحبنا أولاً إلى الكنيسة الكبرى، المطلة بواجهتها على الشارع المحوري مباشرة، وتمتد أجزاؤها تحت المنازل الواقعة إلى الشرق، ويرجع تاريخ بنائها إلى القرن السادس الميلادي، ولا تزال في أرضية مدخلها فسيفساء ملوّنة ذات نقوش هندسية مسجلة بقسميها الشرقي والغربي، أما قسمها الغربي فهو مختفٍ تحت المنازل، ويظهر على الشارع المحوري، وعلى أحد جدران مدخلها كتابة يونانية تفيد بأن «سالومي»، والدة الأسقف «جورج» قد تبرّعت ببناء هذه الكنيسة.
بعيداً عن التاريخ الديني للمدينة، اشتهرت بحضور اجتماعي واقتصادي عبر تاريخها، فالرومان مثلاً جعلوها منذ عام 60 قبل الميلاد واحدة من أهمّ المدن العشر القديمة، ولهذا انتشرت فيها الحمامات والفنادق، وحتى اليوم ما زالت الآثار شاهدة على هذا الأمر، وتحكي الحمامات القديمة حكايا ناس استجموا لعقود في هذه المنطقة في القرن الثاني الميلادي، ولكن للأسف تهدم جزء كبير من هذه الحمامات، كما تدمرت أبواب المدينة، فلم يبقَ منها سوى الباب الغربي المقابل لتجمّع «السراي».
مغارة عجيبة
جولة «البيان» أخذت منحاً آخر بحسب ما اقترح مرافقنا، حينما أخذنا لمكان يشهد على قدرة الخالق تبارك وتعالى وإبداعه، وكانت الوجهة قرية «عريقة» في منطقة اللجاة البعيدة عن السويداء، المدينة، بحوالي 18 كيلومتراً، ولم يكن هدفنا رؤية القرية بحد ذاتها، وإنما زيارة مغارتها الشهيرة، التي حملت اسم القرية ذاتها «عريقة». لهذه المغارة قصة جميلة، فقبل عشرات السنوات، وتحديداً في عام 1968، قلَّ منسوب المياه في النبع الذي يسقي الناس في القرية، وحينما نزل الناس إلى الأسفل لمعرفة السبب، فاكتشفوا ممراً وفتحة صغيرة بجانب النبع، وحينما دخلوه كانت المفاجأة بتعرفهم إلى مغارة قديمة، فدخلوا من الفتحة ليكتشفوا إبداعاً طبيعياً مذهلاً غارقاً في التاريخ هو اليوم «مغارة عريقة»، طبعاً لم تكن مفتوحة بل كان مدخلها مردوماً، وبعد إزالة الحجارة اكتشفوا مغارتهم التي كانت عبارة عن ثلاثة كهوف متصلة بأنفاق في ما بينها، يبلغ طول الواحد منها نحو 450 متراً ويفصل بينها سردابان، وقد تشكلت من آخر انفجار بركاني في منطقة جبل العرب، تمتاز بتصميم طبيعي لافت ومياه تخترق حجارة المغارة فتمنح المكان حرارة معتدلة رائعة لا تتجاوز الـ 18 درجة، حتى في أقصى درجات حر الصيف.
رغم برودة الجو، لكن المكان شهد ازدحاماً مقبولاً، وتوافد عدد من سكان القرية والقرى المجاورة لشرب النرجيلة، وتبادل الأحاديث في مطعم لطيف بُني عند هذه المغارة، وأخبرنا أحد الجالسين، وكان يرتدي اللباس التقليدي لسكان المنطقة، الذي يمتاز باللون الأسود وارتداء قبعة بيضاء، بأن هذا المطعم تأسس عام 1994، وأن صاحبه الشاعر ومهندس الديكور فايز عزام، تفنن في صناعة ديكورات تتلاءم مع الطبيعة.
حالفنا الحظ ببروز بعض خيطان الشمس الخجولة التي منحت الدفء في المكان، وساعدتنا على الجلوس لبعض الوقت وشرب كأس من الشاي، وتناول القليل من اللزقيات، وهي حلويات شعبية تشتهر بها السويداء، مكوّناتها طحين، وحلاوة، وحليب وسكر.
أمام إعجابنا بالمكان، اقترح مرافقنا زيارة قرية أخرى اشتهرت بمغاراتها، وهي «أم الرمان»، وتسميتها ترجع لامرأة قيل إنها من طيء، كانت زوج الملك النعمان بن المنذر، في حين تذكر رواية أخرى أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى زراعة شجرة الرمان التي تشتهر بها القرية، فأطلق عليها الاسم الحالي «أم الرمان».
ممر ضيق
بعد وصولنا لهذه القرية الجميلة، توجهنا لمغارة الهوة، وهي مغارة بركانية غير معروفة البداية أو النهاية، ومدخلها عبارة عن هبوط في سطح الأرض على شكل فوهة، ويظهر ممر ضيق جداً يقود نزولاً إلى جسمها مع تميزها عن غيرها من المغر البركانية في العالم بأنها مركبة، وتتألف من مغارتين معاً، وإلى الجنوب منها تقع الخرائب، التي نجد فيها كتابة نبطية منقوشة في حجر تشير إلى معبد قد بني في هذه الخربة التي تعد من القرى النبطية المهمة.
بعد انتهاء جولتنا، كان من الضروري التوجه لأحد مطاعم مدينة السويداء، للتلذذ بطعامها الشهي الشهير باللحم والسمن العربي، والذي يتصاحب عادة بمنافسة بالزجل بين زوار المطاعم، أو قراءة الشعر، وهي تفاصيل تدخل البهجة لكل من يزور هذه المنطقة.