الرقة.. عروس سورية على ضفاف الفرات
المصدر:
الخليفة هارون الرشيد رأى في مدينة الرقة السورية ما لم يره أحد من قبل، وخصوصاً أن هذه المدينة التي تقع على ضفاف نهر الفرات تميزت بأراضيها الخصبة وقبولها لكل أنواع الزراعات، وقد تحولت في عهده إلى واحة غنّاء لم تعد إلى عهدها حتى هذه الأيام.
أول ازدهار حقيقي لهذه المدينة كان في العهد العباسي، ففي العام 722، أمر الخليفة أبو جعفر المنصور ببناء مدينة الرافقة على مقربة من مدينة الرقة واندمجت المدينتان في وقت لاحق، إلا أن الرافقة غابت أمام جمال وازدهار الرقة وبقيت الرقة درة الفرات بسبب اهتمام هارون الرشيد بها وتحويلها إلى واحة خاصة به يلجأ إليها في الصيف.
تولّع هارون الرشيد بمدينة الرقة وباتت رحلاته إلى هذه المدينة تزداد يوماً بعد يوم على الرغم من المسافة الكبيرة التي تفصلها عن بغداد، ومع ذلك كان تموضع المدينة على نهر الفرات مصدر جذب للخليفة العباسي، الذي بنى فيها لاحقاً قصره المعروف حتى الآن بقصر هارون الرشيد.
وفي الفترة ما بين 796 إلى 809، أصبحت مدينة الرقة العاصمة الثانية للخليفة العباسي إلى جانب بغداد، وبحسب المؤرخين فإن نظرة الخليفة هارون الرشيد كانت ليست من منطلق عاطفي فحسب، إنما أيضاً من منطلق استراتيجي، خصوصاً وأن المدينة تقع على مفترق طرق بين بيزنطية ودمشق وبلاد ما بين النهرين، وهذا ما جعله يزاحم في بناء القصور والواحات في هذه المدينة، وكذلك الأمر بنى فيها العديد من المساجد.
وبينما كانت الرقة تعيش أبهى أيامها في الحقبة العباسية، هاجم المغول المنطقة العربية وكانت الرقة التي أحبها هارون الرشيد المدينة المستهدفة لأهميتها الجغرافية والمعنوية بالنسبة للعباسيين، وقد نالت ما نالت من التدمير والخراب بعد الغزو المغولي عام 1258، حيث دمّر المغول هذه المدينة وقضوا على كل مظاهر الرفاهية.
القلعة الساحرة
من قمة القلعة البيضاء وسط البحيرة ومن على أبراجها العالية، تبدو المياه زرقاء تبعث الهدوء والطمأنينة في النفس، بينما الهواء النقي يغذّي الأرواح المتعبة من ضجيج المدن، فقلعة جعبر، وهي من أجمل الآثار التي ميزت مدينة الرقة وسط بحيرة الأسد، تم إنشاؤها في العام 1975 لتتزاوج مع قلعة جعبر وتشكلان لوحة من الجمال والسحر على نهر الفرات. هذه القلعة التي تعتبر معلماً بارزاً في مدينة الرقة يقصدها الزوار من كل أنحاء العالم لما لها من وقع جميل وتاريخ عميق من حياة سوريا.
تقول الروايات التاريخية إن اللبنة الأولى لقلعة جعبر كانت في عهد ملك الحيرة النعمان بن المنذر (قبل الإسلام)، وقد بناها دوسر بن غلام ابن ملك الحيرة. وقد أطلق على القلعة هذا الاسم لأنها كانت لـ«جعبر القشيري»، وفي وقت لاحق عام 986 ميلادي، استولى عليها السلطان السلجوقي ملكشاه بن ألب أرسلان.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن جيش زعيم المغول هولاكو، دمر قلعة جعبر في 1260م، عندما كان يقصد حلب - شمالي سوريا، لتبقى القلعة بعد ذلك لحقبة زمنية كبيرة خراباً ودماراً، حتى عصر السلطان المملوكي الناصر بن قلاوون، حيث وصلها الأمير سلف الدين أبو بكر الباشري مبعوثاً من الأمير تنكز حاكم الشام مصطحباً معه المعماريين والصناع وشرع بعمارتها.
أخذت المدينة في العهد الحديث شكلاً آخر، حيث استمدت أهميتها التاريخية مجدداً بعد إنشاء سد الفرات الذي بناه الروس عام 1973، وتحولت هذه المدينة إلى تاج الفرات، فيما جلب السد الآلاف من فرص العمل خصوصاً في مدينة الطبقة التي تقع في خاصرة مدينة الرقة. تزايدت الأعمال في هذه المدينة وتوسعت إلى مدن أخرى بجوارها وبقيت بصمات هارون الرشيد على قصورها حتى اليوم، لكن الهجمة الوحشية لتنظيم داعش الإرهابي حولت المدينة إلى مقبرة وخراب لا نظير له في تاريخ المدينة منذ عهد المغول.
لم تكن مدينة الرقة التي تقع في وسط الصحراء وعلى ضفاف الفرات مكتظة بالسكان، لذا فإن المستوى المادي للمدينة ينافس الكثير من المدن السورية، سيما وأنها تتزاوج مع الصحراء ما يجعلها موطئ قدم لمالكي الأغنام وكذلك أهل الريف.
ظلت المدينة على هدوئها وتألقها إلى أن بدأت الأزمة السورية سنة 2011 حيث كانت هذه المدينة الاستراتيجية فريسة للتنظيمات الإرهابية على مدار ثلاثة أعوام تحولت في هذه السنوات إلى مدينة للموت والخوف بعد أن حولها «داعش» إلى مقر له وعاث فيها فساداً، وقضى على كل مظاهر الجمال والتاريخ والمناطق الأثرية.
الطبقة
نالت مدينة الطبقة أجمل مناطق الفرات في الرقة الكثير من الخراب والدمار مع سيطرة «داعش» على المدينة والحرب التي شنها التحالف على التنظيم. تلك المدينة التي تبعد 55 كيلومتراً عن الرقة ولا يتجاوز عدد سكانها 240 ألف نسمة قبل الأزمة، تحوّلت غداة خروج التنظيم مهزوماً منها إلى مدينة أشباح بمعنى الكلمة، فلم يبق فيها طائر ولا زاحف على الأرض بعد حرب ضروس أدت إلى هزيمة التنظيم.
لكن بعد الحرب همت المدينة من أجل إعادة الألق والجمال إلى طبيعتهما. وبجهود السكان المحليين تحاول المدينة العودة إلى الماضي قليلاً على الرغم من الجراح العميقة، إذ إن حجم الدمار والخراب الذي حل بالرقة والطبقة يفوق التصور.
يروي الشاعر «الرقاوي» عواس العلي قصة حطام مدينة من أجمل المدن السورية، ويقول: دخلنا إلى مدينة الرقة بعد هزيمة التنظيم ولم نعرف حقاً مدينتنا ولا منازلنا ولا الشوارع ولا الحدائق. كانت تشبه كل شيء إلا مدينة الرقة، أما الطبقة التي كانت تتغنى بها الرقة فقد تحولت إلى مدينة مفخخات وألغام.
ينهي حديثه بالقول: «ستبقى مدينة هارون الرشيد خالدة في أذهان أهالي الرقة، ولن يهدأ لهم بال حتى تعود الرقة والطبقة وكل مناطق المدينة إلى ما كانت عليه، وعلى الرغم من كل المعوقات والصعوبات، ليس لنا إلا استعادة التاريخ وفي الكثير من الأحيان كتابته على مدننا الجميلة».
المصدر:
- الحسكة – عبدالله رجا
الخليفة هارون الرشيد رأى في مدينة الرقة السورية ما لم يره أحد من قبل، وخصوصاً أن هذه المدينة التي تقع على ضفاف نهر الفرات تميزت بأراضيها الخصبة وقبولها لكل أنواع الزراعات، وقد تحولت في عهده إلى واحة غنّاء لم تعد إلى عهدها حتى هذه الأيام.
أول ازدهار حقيقي لهذه المدينة كان في العهد العباسي، ففي العام 722، أمر الخليفة أبو جعفر المنصور ببناء مدينة الرافقة على مقربة من مدينة الرقة واندمجت المدينتان في وقت لاحق، إلا أن الرافقة غابت أمام جمال وازدهار الرقة وبقيت الرقة درة الفرات بسبب اهتمام هارون الرشيد بها وتحويلها إلى واحة خاصة به يلجأ إليها في الصيف.
تولّع هارون الرشيد بمدينة الرقة وباتت رحلاته إلى هذه المدينة تزداد يوماً بعد يوم على الرغم من المسافة الكبيرة التي تفصلها عن بغداد، ومع ذلك كان تموضع المدينة على نهر الفرات مصدر جذب للخليفة العباسي، الذي بنى فيها لاحقاً قصره المعروف حتى الآن بقصر هارون الرشيد.
وفي الفترة ما بين 796 إلى 809، أصبحت مدينة الرقة العاصمة الثانية للخليفة العباسي إلى جانب بغداد، وبحسب المؤرخين فإن نظرة الخليفة هارون الرشيد كانت ليست من منطلق عاطفي فحسب، إنما أيضاً من منطلق استراتيجي، خصوصاً وأن المدينة تقع على مفترق طرق بين بيزنطية ودمشق وبلاد ما بين النهرين، وهذا ما جعله يزاحم في بناء القصور والواحات في هذه المدينة، وكذلك الأمر بنى فيها العديد من المساجد.
وبينما كانت الرقة تعيش أبهى أيامها في الحقبة العباسية، هاجم المغول المنطقة العربية وكانت الرقة التي أحبها هارون الرشيد المدينة المستهدفة لأهميتها الجغرافية والمعنوية بالنسبة للعباسيين، وقد نالت ما نالت من التدمير والخراب بعد الغزو المغولي عام 1258، حيث دمّر المغول هذه المدينة وقضوا على كل مظاهر الرفاهية.
القلعة الساحرة
من قمة القلعة البيضاء وسط البحيرة ومن على أبراجها العالية، تبدو المياه زرقاء تبعث الهدوء والطمأنينة في النفس، بينما الهواء النقي يغذّي الأرواح المتعبة من ضجيج المدن، فقلعة جعبر، وهي من أجمل الآثار التي ميزت مدينة الرقة وسط بحيرة الأسد، تم إنشاؤها في العام 1975 لتتزاوج مع قلعة جعبر وتشكلان لوحة من الجمال والسحر على نهر الفرات. هذه القلعة التي تعتبر معلماً بارزاً في مدينة الرقة يقصدها الزوار من كل أنحاء العالم لما لها من وقع جميل وتاريخ عميق من حياة سوريا.
تقول الروايات التاريخية إن اللبنة الأولى لقلعة جعبر كانت في عهد ملك الحيرة النعمان بن المنذر (قبل الإسلام)، وقد بناها دوسر بن غلام ابن ملك الحيرة. وقد أطلق على القلعة هذا الاسم لأنها كانت لـ«جعبر القشيري»، وفي وقت لاحق عام 986 ميلادي، استولى عليها السلطان السلجوقي ملكشاه بن ألب أرسلان.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن جيش زعيم المغول هولاكو، دمر قلعة جعبر في 1260م، عندما كان يقصد حلب - شمالي سوريا، لتبقى القلعة بعد ذلك لحقبة زمنية كبيرة خراباً ودماراً، حتى عصر السلطان المملوكي الناصر بن قلاوون، حيث وصلها الأمير سلف الدين أبو بكر الباشري مبعوثاً من الأمير تنكز حاكم الشام مصطحباً معه المعماريين والصناع وشرع بعمارتها.
أخذت المدينة في العهد الحديث شكلاً آخر، حيث استمدت أهميتها التاريخية مجدداً بعد إنشاء سد الفرات الذي بناه الروس عام 1973، وتحولت هذه المدينة إلى تاج الفرات، فيما جلب السد الآلاف من فرص العمل خصوصاً في مدينة الطبقة التي تقع في خاصرة مدينة الرقة. تزايدت الأعمال في هذه المدينة وتوسعت إلى مدن أخرى بجوارها وبقيت بصمات هارون الرشيد على قصورها حتى اليوم، لكن الهجمة الوحشية لتنظيم داعش الإرهابي حولت المدينة إلى مقبرة وخراب لا نظير له في تاريخ المدينة منذ عهد المغول.
لم تكن مدينة الرقة التي تقع في وسط الصحراء وعلى ضفاف الفرات مكتظة بالسكان، لذا فإن المستوى المادي للمدينة ينافس الكثير من المدن السورية، سيما وأنها تتزاوج مع الصحراء ما يجعلها موطئ قدم لمالكي الأغنام وكذلك أهل الريف.
ظلت المدينة على هدوئها وتألقها إلى أن بدأت الأزمة السورية سنة 2011 حيث كانت هذه المدينة الاستراتيجية فريسة للتنظيمات الإرهابية على مدار ثلاثة أعوام تحولت في هذه السنوات إلى مدينة للموت والخوف بعد أن حولها «داعش» إلى مقر له وعاث فيها فساداً، وقضى على كل مظاهر الجمال والتاريخ والمناطق الأثرية.
الطبقة
نالت مدينة الطبقة أجمل مناطق الفرات في الرقة الكثير من الخراب والدمار مع سيطرة «داعش» على المدينة والحرب التي شنها التحالف على التنظيم. تلك المدينة التي تبعد 55 كيلومتراً عن الرقة ولا يتجاوز عدد سكانها 240 ألف نسمة قبل الأزمة، تحوّلت غداة خروج التنظيم مهزوماً منها إلى مدينة أشباح بمعنى الكلمة، فلم يبق فيها طائر ولا زاحف على الأرض بعد حرب ضروس أدت إلى هزيمة التنظيم.
لكن بعد الحرب همت المدينة من أجل إعادة الألق والجمال إلى طبيعتهما. وبجهود السكان المحليين تحاول المدينة العودة إلى الماضي قليلاً على الرغم من الجراح العميقة، إذ إن حجم الدمار والخراب الذي حل بالرقة والطبقة يفوق التصور.
يروي الشاعر «الرقاوي» عواس العلي قصة حطام مدينة من أجمل المدن السورية، ويقول: دخلنا إلى مدينة الرقة بعد هزيمة التنظيم ولم نعرف حقاً مدينتنا ولا منازلنا ولا الشوارع ولا الحدائق. كانت تشبه كل شيء إلا مدينة الرقة، أما الطبقة التي كانت تتغنى بها الرقة فقد تحولت إلى مدينة مفخخات وألغام.
ينهي حديثه بالقول: «ستبقى مدينة هارون الرشيد خالدة في أذهان أهالي الرقة، ولن يهدأ لهم بال حتى تعود الرقة والطبقة وكل مناطق المدينة إلى ما كانت عليه، وعلى الرغم من كل المعوقات والصعوبات، ليس لنا إلا استعادة التاريخ وفي الكثير من الأحيان كتابته على مدننا الجميلة».