الجريد التونسي.. بوابة الصحراء الكبرى وينبوع الجمال والشعر
المصدر:
في جنوب غرب تونس، يفتح شط الجريد طريق السير نحو الصحراء الكبرى، وهو عبارة عن بحيرة جفّت مياهها منذ آلاف السنين بعد أن كانت تربط بين البحر الأبيض المتوسط وبحيرة «ملغيغ» في شمال شرق الجزائر، ويقول العلماء إن تلك السلسلة من المنخفضات التي تبدأ من مدينة قابس الساحلية في جنوب شرق تونس وصولاً إلى الصحراء الجزائرية، نشأت بين العصرين الميوسيني والبليستوسيني الحديث نتيجة للضغط المصاحب لتشكل جبال الأطلس.
يمتد شط الجريد من مدينة قبلّي شرقاً إلى بلدة حزوة غرباً، إذ يبلغ عرضه الأقصى 120 كم ويشغل مساحة 7.000 كم². وهو منخفض بين 10 و25 متراً تحت سطح البحر، يتشكل بالأساس من رواسب ملحية وبعض السباخ المتناثرة التي تجري فيها المياه بعد نزول الأمطار في فصل الشتاء ثم يجف أغلبها صيفاً، وعادة ما تتخذ المنطقة ألوان قوس قزح من خلال التفاعل بين ألوان التراب والملح وتبخر الماء تحت أشعة الشمس الحارقة وتشكلات السراب وهو يشرع الأبواب في اتجاه كثابين الرمال في الجنوب، حيث يستهلك التبخر ما يصل إلى سبعة أضعاف المياه التي تسببها الأمطار، خاصة خلال الصيف عندما تتراوح درجات الحرارة بين 25 و40 درجة مئوية، وحيث تتنفس رياح الخماسين القادمة من الصحراء.
يحمل شط الجريد بصمات الأزمنة الغابرة وبقايا الأساطير والحكايات وقصص الأبطال الخالدين، وبعد أن كان الرومان يطلقون عليه اسم «بحيرة تريتونيس»، سمي في العهد الإسلامي بسبخة «تاكمرت» أو «فرعون»، وقد تحدث عنه المؤرخون والرحالة العرب، ومن بينهم أبو عبيد البكري (1030 - 1094م) الذي قال عنه في كتابه «المسالك والممالك»: «ومن نفزاوة تسير إلى بلاد قسطيلية وبينها أرض سواخة لا يهتدى للطريق فيها إلا بخشب منصوبة وأدلاء تلك الطريق بنو موليت لأن هناك ظواعينهم، فإن ضل أحد يميناً أو شمالاً غرق في أرض ديماس تشبه في الرطوبة بالصابون وقد هلكت فيها العساكر والجماعات ممن دخلها ولم يدرِ أمرها».
ويتحدث التجاني في رحلته التي بدأها في العام 1306م، عند قطعه لسبخة تاكمرت تلك في القرن الـ14 ميلادي بالقول: «ووجدنا فيها معالم قائمة من جذوع النخل تمنع السالك من الخروج عن طريقها المسلوك يميناً وشمالاً لأن ما على يمينها وشمالها من الأرض مغائض لا تثبت عليها قدم، ولا يسلكها أحد جاهل بها إلا غاص فيها»
وكانت المنطقة كلها تحمل في بداية العهد العربي الإسلامي اسم بلاد قسطيلية، أما اسم شط الجريد المعروف حالياً، فهو نسبة إلى بلاد الجريد التي تضم واحات الجنوب الغربي للبلاد، فجريد النخل هو غصن النخيل المجرد من أوراقه، والجريدة في قواميس اللغة هي سعفة طويلة تقشر من خوصها، والجمع جرائد.
حلم لم يرَ النور
وفي العام 1872، خطط القبطان الفرنسي إيلي روديير لتحويل شط الجريد إلى بحر داخلي بحفر قنال تربطه بالبحر الأبيض المتوسط، لكن تبين فيما بعد استحالة ذلك طبوغرافياً، وقال الباحث الأكاديمي بوبكر خلوج خلال ندوة فكرية انتظمت بمهرجان الصحراء بدوز، إن ردويير اعتبر عند طرح الفكرة أن العمل سيكون يسيراً نسبياً، إذ يتمثل في نقل وتحريك كمية من الأتربة (حوالي 30 مليون متر مكعب)، وهو عمل لا يستوجب أكثر من عام، وفق تقديره، ولا سيما أن الدراسات والتجارب الهندسية أثبتت أن طبيعة الأرض بالمنطقة رمال وطين ولا تحتوي على الأحجار والصخور.
وتابع خلوج أن «المشروع تم إعداده بتكليف من وزير التعليم العمومي الفرنسي آنذاك، وبهذه الصفة أراد محرره أن يكتسي صبغة علمية وبمرجعيات تقنية تخص طبيعة الأرض والتركيبة الجيولوجية للأتربة ومسالك المياه وتضاريس المحيط الطبيعي للمنطقة بما فيها من مرتفعات ومنخفضات»، لافتاً إلى أن روديير «كان له هاجس كبير من خلال فكرة البحر الداخلي، يتمثل في ربط ثقافة البحر بثقافة الصحراء، أي ربط ثقافة أهل البحر بثقافة أهل الصحراء. وكان يعتقد أن هذا الربط ممكن، إذ ذهب في ظنه إلى أن البحر الداخلي سيختصر المسافة التي تفصل المتوسط عن الصحراء، معتقداً أن حضارة جديدة يمكن أن تولد نتيجة الاحتكاك بين أهل البحر وأهل الصحراء، ثم أن روديير كانت لديه فكرة قاسية عن الصحراء من خلال قسوة المناخ ووجود حيوانات خطيرة كالأفاعي، وكان يعتبر أيضاً أن الصحراء في عزلة، ومن هذه المنطلقات أراد من خلال مشروعه التقليص من هذه العزلة وخلق وسيلة اتصال.
ولكن يبدو أن حلم روديير اصطدم بعدد من العراقيل، سبق وأن أشارت إليها بعثة إيطالية سبقته إلى ذلك الطموح، حيث تبين لها أن مستوى اليابسة يبدو أعلى من البحر في مناطق عدة، مما كان عليه في السويس عند حفر قناتها، كما أن هناك خشية من تبخر المياه وارتفاع الرطوبة بما قد يزيد من كميات الأمطار ومن النتائج المحتملة على المنطقة، والتي قد تصل إلى حد إغراقها بطوفان البحر الداخلي وبمفعول الأمطار الجديدة. وبعد استقلال البلاد في العام 1956 أعيد طرح المشروع قبل أن يتم التخلي عنه.
عاصمة الجريد
وتعد مدينة توزر عاصمة الجريد، وهي عاصمة ولاية (محافظة) تحمل ذات الاسم، وتتميز بالصحراء الممتدة، وبواحات النخيل والعيون الجارية، وكذلك بمهرجاناتها الثقافية والسياحية، وأبرزها مهرجان الواحات الدولي للسياحة والثقافة الذي ستنتظم دورته الـ42 من 16 إلى 27 ديسمبر المقبل.
يجد زائر توزر نفسه وهو يدخلها أمام بيت من الشعر يزيّن بوابتها الشمالية، قاله العالم الشاعر ابن شباط المتوفى في 17 يونيو 1285:
زُر توزر إن شئت زورة جنّة
تجري بها من تحتها الأنهار
وفي شوارع وأزقة المدينة، يصبح الشعر جزءاً من الحياة العامة للسكان المحليين الذين كانوا دائماً يمثلون ثقافة مختلفة عن بقية جهات البلاد، فهناك ولد وتوفي شاعر إرادة الحياة أبو القاسم الشابي (1909 - 1934)، ومن هناك أبدع أبو الفضل يوسف بن يوسف التوزري المعروف بابن النحوي (توفي عام 513 هـ) قصيدته الشهيرة المعروفة باسم «المنفرجة».
اشتدّي أزمة تنفرجي
منطقة قديمة
وتعتبر توزر من المناطق الضاربة في القدم، ففي العام 1930 توصل عدد من علماء الآثار والمؤرّخين والجيولوجيين إلى اكتشاف آثار (أوانٍ وأدوات وأسلحة حجريّة وآلات صنعت من العظام) تدل على وجود الإنسان إلى ما يزيد على 150 ألف عام، كما تم اكتشاف آثار أخرى تعود إلى العصر البرونزي، وقد أطلق عليها الرومان اسم توزوروس، وهو أصل الاسم الحالي، فيما يقول المؤرخون إنها تنتمي إلى تلك الواحات التي عبرت غوائل الدهر، وهي بمثابة جزر ممتدّة على أطراف الإمبراطوريات المتوسطية، ثبتت في وجه كل الارتدادات، كما سبقت كل الغزوات.
وشهدت المنطقة عدداً من الأحداث المهمة في التاريخ، لعل من أبرزها الثورة التي انطلقت منها، والمعروفة بثورة مخلد بن كداد اليفرني، وأصله من قبيلة زناتة البربرية ضد الدولة الفاطمية في المهدية بوسط شرق تونس، وسميت بثورة «صاحب الحمار»، نظراً لأن قائدها كان يركب حماراً، وقد عمت أغلب مناطق البلاد، وذلك قبل سنوات قليلة من انتقال الفاطميين إلى مصر، حيث أسسوا ملكهم هناك وبنوا القاهرة وجامعها الأزهر.
وتعرف توزر اليوم كواحدة من أهم المدن السياحية، ولا سيما في الشتاء والربيع، وتحتوي واحاتها على أكثر من مليون نخلة، وتمتد على أكثر من ألف هكتار من الأراضي، وهي معروفة بجودة تمورها التي تسمّى في تونس والجزائر بـ«دقلة النور»، وبخرير مائها المنساب من مئتي نبع، ومنها منطقة رأس العين عند سفح ربوة تشكّل ينابيعها وادياً حقيقياً لا تزال عليه آثار سدود قديمة قسمها العلامة ابن شباط تقسيماً يوصف إلى حد اليوم بأنه معجزة هندسية، وإلى جانب الفنادق والفضاءات الثقافية المتنوعة، يوجد بالمدينة أكبر ملعب للغولف بتونس والرابع عالمياُ من حيث المساحة، إلى جانب حديقة لحيوانات الصحراء، ومتحف دار شريّط الشمعي لتاريخ تونس وتاريخ الحضارات، ومتحف الأحلام الذي يروي قصة ألف ليلة وليلة، واستوديوهات طبيعية للتصوير السينمائي، ومتنزهات، ومخيمات وفنادق راقية.
مدن صغيرة
وحول توزر توجد عدد من المدن الصغيرة، منها تمغزة، التي تتفرد بأنها واحة جبلية ذات شلالات تنساب منها المياه العذبة، إلى جانب المناظر الطبيعية الخلابة والآثار الرومانية وخصوصيات الثقافة الأمازيغية، التي تحتضن في شهر أبريل من كل عام مهرجان الواحات الجبلية،
وكذلك حامّة الجريد، وهي مدينة تحفل بواحاتها الباسقة، وتتميز بعيون المياه الحارة التي يتم استعمالها في الاستشفاء، وتتبع إدارياً إلى معتمدية دقاش التي أعلن عنها منذ عامين كبلدية سياحية بهدف التسويق للسياحة الأيكولوجية والاستشفائية، وهي معروفة باحتضانها عدداً من المهرجانات، ومنها مهرجان «تريتونيس» الذي يحتفل سنوياً بشط الجريد كعنصر ثقافي وتاريخي وسياحي، وكذلك مهرجان بوهلال للسياحة والتراث، والمهرجان الصيفي بدقاش الذي تحول إلى مهرجان دولي.
ويمتاز المعمار في توزر بهندسة خاصة مستوحاة من التراث العربي الإسلامي سواء في الأندلس أو في المشرق، بالاعتماد على الطابوق الذي هو أقرب إلى الطابوق العراقي، الذي تتعدد ألوانه وأشكاله لتعطي للمدينة جمالية متفردة، مثلها مثل مدينة نفطة التي تقع إلى الجنوب منها بمسافة 24 كلم، وتسمى بالكوفة الصغرى، نسبة إلى مدينة الكوفة العراقية، وذلك نتيجة الجذور التاريخية للسكان، وللتشابه بين المدينتين في المعمار والعادات والتقاليد والاهتمام بالعلم والعلماء، وقد اتفق عدة مؤرخين، وفي طليعتهم ابن شباط التوزري، وعرفت في ذلك العهد باسم قسطيلية في العهد الروماني قبل أن يشمل كل منطقة الجريد.
ومن أبرز علماء نفطة الشيخ محمد الخضر حسين (1876م - 1958م) الذي تولى مشيخة الأزهر الشريف من 1952 إلى 1954 ليكون بذلك أول عالم مصري يتولى هذا المنصب الرفيع.
كما أنجبت علماء من أوائل العصور الإسلامية مثل أبي الحسن إسماعيل القرشاني في 240 هـ، وعبدالرحمن بن الصائغ النفطي الذي تولى خطة قاضي الجماعة بتونس 646 هـ 1248م، وابن الإمام أبي القاسم عبدالرحمن الذي أتم أول شرح لصحيح مسلم سنـة 531هـ، وكان وراء تركيز المذهب السني بالجريد ونفزاوة في 610 هـ، وأبي العباس الدرجيني صاحب كتاب «طبقات المشائخ بالمغرب» في القرن 7 للهجرة، وصاحب كتاب الطبقات، واستمر عطاء نفطة وإشعاعها العلمي في مختلف العصور.
نفطة مسقط رأس (الشيخ المكي بن نصر)
ولد الشيخ المكي بن نصر بنفطة، وهي ثاني مدن الجريد، بعد مدينة توزر بالجنوب الغربي من البلاد التونسية.
مطار دولي
وتحتضن نفطة حالياً مطاراً دولياً ومؤسسات سياحية ومتاحف للآثار والتراث ومهرجانات فنية وثقافية، من بينها المهرجان الصيفي ومهرجان الموسيقى الروحية، وهي تفخر بنبوغ أبنائها في مجالات عدة، ولا سيما في الأدب والثقافة، ومنهم مؤسس الرواية في تونس البشير خريف (1917 - 1983)، والشاعر مصطفى خريف (1909 - 1967)، الذي من إبداعاته كلمات أغنية «آمنت بالله» للمطربة المصرية لوردكاش. ويتميز أهل الجريد بلهجة خاصة تبدو أقرب إلى العربية الفصحى، وبها لكنة قريبة من جنوب العراق، وقد اكتشفها عامة التونسية بالخصوص من خلال الأعمال الفنية، ومنها مسرحية «حمّة الجريدي» لمؤلفها الكاتب المسرحي والصحفي الراحل أحمد عامر، والمخرج عبدالقادر مقداد.
المصدر:
- تونس - الحبيب الأسود
في جنوب غرب تونس، يفتح شط الجريد طريق السير نحو الصحراء الكبرى، وهو عبارة عن بحيرة جفّت مياهها منذ آلاف السنين بعد أن كانت تربط بين البحر الأبيض المتوسط وبحيرة «ملغيغ» في شمال شرق الجزائر، ويقول العلماء إن تلك السلسلة من المنخفضات التي تبدأ من مدينة قابس الساحلية في جنوب شرق تونس وصولاً إلى الصحراء الجزائرية، نشأت بين العصرين الميوسيني والبليستوسيني الحديث نتيجة للضغط المصاحب لتشكل جبال الأطلس.
يمتد شط الجريد من مدينة قبلّي شرقاً إلى بلدة حزوة غرباً، إذ يبلغ عرضه الأقصى 120 كم ويشغل مساحة 7.000 كم². وهو منخفض بين 10 و25 متراً تحت سطح البحر، يتشكل بالأساس من رواسب ملحية وبعض السباخ المتناثرة التي تجري فيها المياه بعد نزول الأمطار في فصل الشتاء ثم يجف أغلبها صيفاً، وعادة ما تتخذ المنطقة ألوان قوس قزح من خلال التفاعل بين ألوان التراب والملح وتبخر الماء تحت أشعة الشمس الحارقة وتشكلات السراب وهو يشرع الأبواب في اتجاه كثابين الرمال في الجنوب، حيث يستهلك التبخر ما يصل إلى سبعة أضعاف المياه التي تسببها الأمطار، خاصة خلال الصيف عندما تتراوح درجات الحرارة بين 25 و40 درجة مئوية، وحيث تتنفس رياح الخماسين القادمة من الصحراء.
يحمل شط الجريد بصمات الأزمنة الغابرة وبقايا الأساطير والحكايات وقصص الأبطال الخالدين، وبعد أن كان الرومان يطلقون عليه اسم «بحيرة تريتونيس»، سمي في العهد الإسلامي بسبخة «تاكمرت» أو «فرعون»، وقد تحدث عنه المؤرخون والرحالة العرب، ومن بينهم أبو عبيد البكري (1030 - 1094م) الذي قال عنه في كتابه «المسالك والممالك»: «ومن نفزاوة تسير إلى بلاد قسطيلية وبينها أرض سواخة لا يهتدى للطريق فيها إلا بخشب منصوبة وأدلاء تلك الطريق بنو موليت لأن هناك ظواعينهم، فإن ضل أحد يميناً أو شمالاً غرق في أرض ديماس تشبه في الرطوبة بالصابون وقد هلكت فيها العساكر والجماعات ممن دخلها ولم يدرِ أمرها».
ويتحدث التجاني في رحلته التي بدأها في العام 1306م، عند قطعه لسبخة تاكمرت تلك في القرن الـ14 ميلادي بالقول: «ووجدنا فيها معالم قائمة من جذوع النخل تمنع السالك من الخروج عن طريقها المسلوك يميناً وشمالاً لأن ما على يمينها وشمالها من الأرض مغائض لا تثبت عليها قدم، ولا يسلكها أحد جاهل بها إلا غاص فيها»
وكانت المنطقة كلها تحمل في بداية العهد العربي الإسلامي اسم بلاد قسطيلية، أما اسم شط الجريد المعروف حالياً، فهو نسبة إلى بلاد الجريد التي تضم واحات الجنوب الغربي للبلاد، فجريد النخل هو غصن النخيل المجرد من أوراقه، والجريدة في قواميس اللغة هي سعفة طويلة تقشر من خوصها، والجمع جرائد.
حلم لم يرَ النور
وفي العام 1872، خطط القبطان الفرنسي إيلي روديير لتحويل شط الجريد إلى بحر داخلي بحفر قنال تربطه بالبحر الأبيض المتوسط، لكن تبين فيما بعد استحالة ذلك طبوغرافياً، وقال الباحث الأكاديمي بوبكر خلوج خلال ندوة فكرية انتظمت بمهرجان الصحراء بدوز، إن ردويير اعتبر عند طرح الفكرة أن العمل سيكون يسيراً نسبياً، إذ يتمثل في نقل وتحريك كمية من الأتربة (حوالي 30 مليون متر مكعب)، وهو عمل لا يستوجب أكثر من عام، وفق تقديره، ولا سيما أن الدراسات والتجارب الهندسية أثبتت أن طبيعة الأرض بالمنطقة رمال وطين ولا تحتوي على الأحجار والصخور.
وتابع خلوج أن «المشروع تم إعداده بتكليف من وزير التعليم العمومي الفرنسي آنذاك، وبهذه الصفة أراد محرره أن يكتسي صبغة علمية وبمرجعيات تقنية تخص طبيعة الأرض والتركيبة الجيولوجية للأتربة ومسالك المياه وتضاريس المحيط الطبيعي للمنطقة بما فيها من مرتفعات ومنخفضات»، لافتاً إلى أن روديير «كان له هاجس كبير من خلال فكرة البحر الداخلي، يتمثل في ربط ثقافة البحر بثقافة الصحراء، أي ربط ثقافة أهل البحر بثقافة أهل الصحراء. وكان يعتقد أن هذا الربط ممكن، إذ ذهب في ظنه إلى أن البحر الداخلي سيختصر المسافة التي تفصل المتوسط عن الصحراء، معتقداً أن حضارة جديدة يمكن أن تولد نتيجة الاحتكاك بين أهل البحر وأهل الصحراء، ثم أن روديير كانت لديه فكرة قاسية عن الصحراء من خلال قسوة المناخ ووجود حيوانات خطيرة كالأفاعي، وكان يعتبر أيضاً أن الصحراء في عزلة، ومن هذه المنطلقات أراد من خلال مشروعه التقليص من هذه العزلة وخلق وسيلة اتصال.
ولكن يبدو أن حلم روديير اصطدم بعدد من العراقيل، سبق وأن أشارت إليها بعثة إيطالية سبقته إلى ذلك الطموح، حيث تبين لها أن مستوى اليابسة يبدو أعلى من البحر في مناطق عدة، مما كان عليه في السويس عند حفر قناتها، كما أن هناك خشية من تبخر المياه وارتفاع الرطوبة بما قد يزيد من كميات الأمطار ومن النتائج المحتملة على المنطقة، والتي قد تصل إلى حد إغراقها بطوفان البحر الداخلي وبمفعول الأمطار الجديدة. وبعد استقلال البلاد في العام 1956 أعيد طرح المشروع قبل أن يتم التخلي عنه.
عاصمة الجريد
وتعد مدينة توزر عاصمة الجريد، وهي عاصمة ولاية (محافظة) تحمل ذات الاسم، وتتميز بالصحراء الممتدة، وبواحات النخيل والعيون الجارية، وكذلك بمهرجاناتها الثقافية والسياحية، وأبرزها مهرجان الواحات الدولي للسياحة والثقافة الذي ستنتظم دورته الـ42 من 16 إلى 27 ديسمبر المقبل.
يجد زائر توزر نفسه وهو يدخلها أمام بيت من الشعر يزيّن بوابتها الشمالية، قاله العالم الشاعر ابن شباط المتوفى في 17 يونيو 1285:
زُر توزر إن شئت زورة جنّة
تجري بها من تحتها الأنهار
وفي شوارع وأزقة المدينة، يصبح الشعر جزءاً من الحياة العامة للسكان المحليين الذين كانوا دائماً يمثلون ثقافة مختلفة عن بقية جهات البلاد، فهناك ولد وتوفي شاعر إرادة الحياة أبو القاسم الشابي (1909 - 1934)، ومن هناك أبدع أبو الفضل يوسف بن يوسف التوزري المعروف بابن النحوي (توفي عام 513 هـ) قصيدته الشهيرة المعروفة باسم «المنفرجة».
اشتدّي أزمة تنفرجي
منطقة قديمة
وتعتبر توزر من المناطق الضاربة في القدم، ففي العام 1930 توصل عدد من علماء الآثار والمؤرّخين والجيولوجيين إلى اكتشاف آثار (أوانٍ وأدوات وأسلحة حجريّة وآلات صنعت من العظام) تدل على وجود الإنسان إلى ما يزيد على 150 ألف عام، كما تم اكتشاف آثار أخرى تعود إلى العصر البرونزي، وقد أطلق عليها الرومان اسم توزوروس، وهو أصل الاسم الحالي، فيما يقول المؤرخون إنها تنتمي إلى تلك الواحات التي عبرت غوائل الدهر، وهي بمثابة جزر ممتدّة على أطراف الإمبراطوريات المتوسطية، ثبتت في وجه كل الارتدادات، كما سبقت كل الغزوات.
وشهدت المنطقة عدداً من الأحداث المهمة في التاريخ، لعل من أبرزها الثورة التي انطلقت منها، والمعروفة بثورة مخلد بن كداد اليفرني، وأصله من قبيلة زناتة البربرية ضد الدولة الفاطمية في المهدية بوسط شرق تونس، وسميت بثورة «صاحب الحمار»، نظراً لأن قائدها كان يركب حماراً، وقد عمت أغلب مناطق البلاد، وذلك قبل سنوات قليلة من انتقال الفاطميين إلى مصر، حيث أسسوا ملكهم هناك وبنوا القاهرة وجامعها الأزهر.
وتعرف توزر اليوم كواحدة من أهم المدن السياحية، ولا سيما في الشتاء والربيع، وتحتوي واحاتها على أكثر من مليون نخلة، وتمتد على أكثر من ألف هكتار من الأراضي، وهي معروفة بجودة تمورها التي تسمّى في تونس والجزائر بـ«دقلة النور»، وبخرير مائها المنساب من مئتي نبع، ومنها منطقة رأس العين عند سفح ربوة تشكّل ينابيعها وادياً حقيقياً لا تزال عليه آثار سدود قديمة قسمها العلامة ابن شباط تقسيماً يوصف إلى حد اليوم بأنه معجزة هندسية، وإلى جانب الفنادق والفضاءات الثقافية المتنوعة، يوجد بالمدينة أكبر ملعب للغولف بتونس والرابع عالمياُ من حيث المساحة، إلى جانب حديقة لحيوانات الصحراء، ومتحف دار شريّط الشمعي لتاريخ تونس وتاريخ الحضارات، ومتحف الأحلام الذي يروي قصة ألف ليلة وليلة، واستوديوهات طبيعية للتصوير السينمائي، ومتنزهات، ومخيمات وفنادق راقية.
مدن صغيرة
وحول توزر توجد عدد من المدن الصغيرة، منها تمغزة، التي تتفرد بأنها واحة جبلية ذات شلالات تنساب منها المياه العذبة، إلى جانب المناظر الطبيعية الخلابة والآثار الرومانية وخصوصيات الثقافة الأمازيغية، التي تحتضن في شهر أبريل من كل عام مهرجان الواحات الجبلية،
وكذلك حامّة الجريد، وهي مدينة تحفل بواحاتها الباسقة، وتتميز بعيون المياه الحارة التي يتم استعمالها في الاستشفاء، وتتبع إدارياً إلى معتمدية دقاش التي أعلن عنها منذ عامين كبلدية سياحية بهدف التسويق للسياحة الأيكولوجية والاستشفائية، وهي معروفة باحتضانها عدداً من المهرجانات، ومنها مهرجان «تريتونيس» الذي يحتفل سنوياً بشط الجريد كعنصر ثقافي وتاريخي وسياحي، وكذلك مهرجان بوهلال للسياحة والتراث، والمهرجان الصيفي بدقاش الذي تحول إلى مهرجان دولي.
ويمتاز المعمار في توزر بهندسة خاصة مستوحاة من التراث العربي الإسلامي سواء في الأندلس أو في المشرق، بالاعتماد على الطابوق الذي هو أقرب إلى الطابوق العراقي، الذي تتعدد ألوانه وأشكاله لتعطي للمدينة جمالية متفردة، مثلها مثل مدينة نفطة التي تقع إلى الجنوب منها بمسافة 24 كلم، وتسمى بالكوفة الصغرى، نسبة إلى مدينة الكوفة العراقية، وذلك نتيجة الجذور التاريخية للسكان، وللتشابه بين المدينتين في المعمار والعادات والتقاليد والاهتمام بالعلم والعلماء، وقد اتفق عدة مؤرخين، وفي طليعتهم ابن شباط التوزري، وعرفت في ذلك العهد باسم قسطيلية في العهد الروماني قبل أن يشمل كل منطقة الجريد.
ومن أبرز علماء نفطة الشيخ محمد الخضر حسين (1876م - 1958م) الذي تولى مشيخة الأزهر الشريف من 1952 إلى 1954 ليكون بذلك أول عالم مصري يتولى هذا المنصب الرفيع.
كما أنجبت علماء من أوائل العصور الإسلامية مثل أبي الحسن إسماعيل القرشاني في 240 هـ، وعبدالرحمن بن الصائغ النفطي الذي تولى خطة قاضي الجماعة بتونس 646 هـ 1248م، وابن الإمام أبي القاسم عبدالرحمن الذي أتم أول شرح لصحيح مسلم سنـة 531هـ، وكان وراء تركيز المذهب السني بالجريد ونفزاوة في 610 هـ، وأبي العباس الدرجيني صاحب كتاب «طبقات المشائخ بالمغرب» في القرن 7 للهجرة، وصاحب كتاب الطبقات، واستمر عطاء نفطة وإشعاعها العلمي في مختلف العصور.
نفطة مسقط رأس (الشيخ المكي بن نصر)
ولد الشيخ المكي بن نصر بنفطة، وهي ثاني مدن الجريد، بعد مدينة توزر بالجنوب الغربي من البلاد التونسية.
مطار دولي
وتحتضن نفطة حالياً مطاراً دولياً ومؤسسات سياحية ومتاحف للآثار والتراث ومهرجانات فنية وثقافية، من بينها المهرجان الصيفي ومهرجان الموسيقى الروحية، وهي تفخر بنبوغ أبنائها في مجالات عدة، ولا سيما في الأدب والثقافة، ومنهم مؤسس الرواية في تونس البشير خريف (1917 - 1983)، والشاعر مصطفى خريف (1909 - 1967)، الذي من إبداعاته كلمات أغنية «آمنت بالله» للمطربة المصرية لوردكاش. ويتميز أهل الجريد بلهجة خاصة تبدو أقرب إلى العربية الفصحى، وبها لكنة قريبة من جنوب العراق، وقد اكتشفها عامة التونسية بالخصوص من خلال الأعمال الفنية، ومنها مسرحية «حمّة الجريدي» لمؤلفها الكاتب المسرحي والصحفي الراحل أحمد عامر، والمخرج عبدالقادر مقداد.