علم الحيل في الحضارة العربية الإسلامية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • علم الحيل في الحضارة العربية الإسلامية

    علم حيل في حضاره عربيه اسلاميه

    - - -


    علم الحيل في الحضارة العربية الإسلامية



    اشتملت التقانة العربية في جانبها الآلي على زمرتين واضحتين:

    الأولى: هي تلك الآلات المصممة للاستعمال اليومي، كالطواحين وآلات ضخ المياه وأدوات الحرب.

    الثانية: تلك الآلات التي صُمِّمَتْ كي تثير الدهشة والمتعة الجمالية في بلاطات السلاطين.

    علم الحيل: الدلالتان اللغوية والعلمية

    أطلق علماء العرب كلمة الحيل على ماعرف عند اليونان بكلمة ميكانيكا mechanics وكانت تشمل كل الفنون المتعلقة بالمهارة والبراعة والحذق، وبالبحث في المعجمات يُلاحظ أن «الحيل» و«الحول» و«الحال» ألفاظ تنطوي على معانٍ تتعلق بالحركة والمتحرك والقوة والتغير والثبات والسقوط والعجلة والنقل والاستطاعة والتحول والحذق والقدرة والماء الساكن والمهارة، ومن هذه الجذور اللغوية اشتقوا مصطلح «علم الحيل» بملاحظة دقيقة لما بين الدلالة المعنوية للَّفظ وموضوعات علم الحيل القائمة منطقياً على منهجي الاستدلال والتجربة.

    وهذا يدل على أهمية إدراكهم أجزاء هذا العلم وتمرسهم فيه بالغوص في مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية في مرحلة متقدمة من نهضتهم العلمية، ويمكن التأكيد أن بدايات هذه النهضة تعود إلى مرحلة ما قبل عصر الأخذ والتمثل الذي تميز بالتعريب الهادف لمنجزات المدنيات التي عاصرها العرب، أو رافقتهم عبر تاريخهم. وهناك أكثر من دليل وضعه عدد من المؤرخين العرب كاليعقوبي (ت292هـ) وأبي يعقوب النديم (ت380هـ) وابن صاعد الأندلسي (ت 462هـ).

    كانت هذه الدلالة اللغوية قد مهدت الطريق لظهور الدلالة العلمية لمصطلح «علم الحيل» وتبلورها، ويمكن تكشفها في جهود التعريف والتصنيف التي قام بها العلماء العرب في هذا العلم وعلاقته بالعلوم الأخرى.

    ومن مصنفي العلوم طاش كبري زاده(ت 968هـ) الذي أورد في كتابه «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» زمرة من العلوم تتعلق بموضوعات علم الحيل، ولكن من دون إدراجها تحت هذا العلم؛ في مسميات بارزة، وهي: علم مراكز الأثقال، علم جر الأثقال، علم الآلات الحربية، علم البنكامات، علم الأوزان والموازين، علم الآلات المبنية على ضرورة عدم الخلاء، أو علم الآلات الروحانية، وفي هذا العلم الأخير الذي غالباً ما تنحصر موضوعاته في الآلات التي تستعمل في القصور والبيوت والساحات العامة للترفيه أولأغراض تزيينية ذات هدف جمالي؛ ذكر العلاَّمة أنستانس الكرملي(ت 1947م) أن «الآلات الروحانية هي التماثيل المتحركة أو الناطقة، فعلى هذا تكون الروحانية نسبة إلى الروح بفتح الراء، بمعنى الراحة والفرح والسرور، لكن يفضل (روحانية) نسبة إلى الروح فيكون المعنى: آلات كأنها ذوات روح لما بها من الحركات التي تحاكي حركات ذوات الروح أي الحيوانات والله أعلم».

    وأكثر من اشتغل في هذا المجال هم بنو موسى (منتصف القرن الثالث الهجري) في كتابهم الشهير «كتاب الحيل»، ومنها على سبيل المثال الساعة النحاسية التي أقيمت في مرصد «سامراء»، وكانت تحتوي على دمى منها على هيئة طير يغرد طبقاً لشروق أبراج الشمس أو غروبها، كذلك إسماعيل الجزري في كتابه «الجامع بين العلم والعمل النافع» حيث ذكر أنواعاً عديدة من تلك الآلات ذات الدمى المتحركة؛ مثل كأس مزودة بطائر يصفر، ويدور كلما امتلأ الكأس أو فرغ، وآلة أخرى هي خزانة شراب تخرج منها دمية على هيئة جارية تحمل في يد كأساً مملوءة بالشراب وفي اليد الأخرى منديلاً. ومن الجدير بالذكر أن الجزري يقوم بتفصيل كل جزء من تلك الآلات وتوضيحه ورسمه ويشرح آلية عمله ومقاييسه المطلوبة.

    ومنهم أيضاً تقي الدين الراصد(ت993هـ) في كتابه «الطرق السنية في الآلات الروحانية» ويتضمن شرحاً لبعض الذي في الآلات التي تعمل بالدمى المتحركة.

    علم الحيل قبل المرحلة العربية الإسلامية

    لعل الحديث عن موضوع علم الحيل في المرحلة العربية الإسلامية يقتضي أن يُعرَّج قليلاً على ما سبق هذا العلم ومهد لظهوره، فقد برع المصريون القدماء في الميكانيكا حين استخدموا الآلات الرافعة في بناء الأهرامات والمعابد، معتمدين وسائل وأساليب هندسية شديدة الإحكام، من أهمها «السطح المائل». وكذلك كان الأمر في حضارة وادي الرافدين، حيث جذور علم الستاتيكا والديناميكا في تشكيل الأدوات وصناعتها واستعمالها.

    ومن أعظم الجهود الهندسية الفنية التي قام بها السومريون حفر شبكة من القنوات لإرواء الأرض وتسهيل النقل والمواصلات بين مختلف أجزاء البلاد، واستخدموا الشادوف حين اقتضى الأمر رفع الماء إلى مستويات عالية.

    أما اليونانيون القدماء فقد كانت لعلومهم خصائص مختلفة تماماً عن تلك التي كانت للحضارات السابقة. فهي أكثر عقلانية وتجريداً. فمن خلال اندماج الرياضيات اليونانية بالتقانة المصرية أوالسومرية، تم إنجاز تطوير مهم على العُدد والآلات، مثال ذلك الحركة الدورانية، التي طُبِقَتْ في الطواحين و(الطنابير) والمكابس الهوائية، والأجهزة الهيدروليكية التي تدار بضغط الهواء كالروافع المائية والمضخات، وبرعوا في الصناعات المعدنية، قبل زمن الإسكندر. وبانتقالهم إلى بلاد مثل مصر وسورية بمواردهما الكبيرة التي كانت تحت تصرفهم، أمكن إحداث تطوير ضخم في كل الآلات، وخاصة آلات الري وإزاحة الأثقال وبناء السفن بالماكينات العسكرية.

    علم الحيل في مرحلة الترجمة والتمثل

    يُلاحظ عدم وجود إشارة دقيقة لمن قام بترجمة ما يتصل بعلم الحيل من مؤلفات، ولايُستبعد أن يكون السبب في ذلك أعمال الترجمة التي تمت جماعياً في مؤسسات علمية خاضعة لإشراف مباشر من قبل ذوي السلطة والحكم في ذلك الوقت (أثر مدرسة الحكمة في ازدهار وتطور الترجمة والنقل).

    ولم يكتف العرب بنقل التراث الإغريقي؛ بل أخذوا من التراث الفارسي والهندي، تعاملوا معها تعامل الدارس والمفكر فوجهوا النقد، وأحياناً المعارضة بروح العلم والاحترام.

    علم الحيل في مرحلة التأليف والابتكار

    بعد أن تم للعرب استيعاب وتمثل العلم الموروث؛ جاءت مؤلفاتهم المبتكرة في موضوعات علم الحيل بدءاً من البوزجاني (ت399 هـ) والكرجي (ت410هـ) والخيام (ت515هـ) ونصير الدين الطوسي (ت672هـ) لتوضح بما لايقبل الجدل أن مهمة العلماء العرب المسلمين لم تكن تعتمد على التجربة وحدها بل كانت النظرية تسبقها، إلا أنهم أعتمدوا التجربة منهجاً من شأنه التثبت من نظرية ما، أو اكتشاف نظرية ما.

    الملاحظ أن التقانة العربية كانت تعتمد أساساً على استخدام الآثار الناتجة من حفظ الماء وحفظ الهواء، ومن المؤكد أن العلاقات الرياضية التي تكمن خلف الظاهرات المادية لم تكن معروفة أو محددة حينئذ، ولذلك كان على المهندسين العرب أن يعمدوا إلى إجراء فيض كبير من التجارب العملية، وفيما يأتي مثال واحد على سبيل الإيضاح:

    عرف إسماعيل الجزري أن جريان السائل من فوهة يتغير وفقاً لتغير منسوب الماء الذي فوقها، ولكنه لم يكن يدرك أن العلاقة الحقيقية هي:

    k n h = Q

    حيث:

    Q: تدفق السائل.

    k: ثابت.

    h: ارتفاع الماء.

    n: سرعة الجريان.

    لقد عرف مقدار الكمية التي يجب تصريفها كل ساعة، وعرف ـ من خلال خبرات سابقة ـ القطر الأعظمي للفوهة، مما دفعه إلى عمل فوهة ضيقة جداً، ومن ثم وسَّعها تدريجياً بسلك نحاسي ومسحوق الصَّنْفَرة حتى وصلت إلى سرعة التصريف المطلوبة.

    ومن الواجب أن يُشار إلى معالجة الفلاسفة العرب والمسلمين لمفهوم الحركة والمتحرك والقوى من خلال مؤلفاتهم الفلسفية التي تناولت علوم الطبيعيات بدءاً من الكندي (ت260هـ) مروراً بابن سينا (ت428هـ) وابن رشد (ت595هـ) وقطب الدين الشيرازي (ت710 هـ) وانتهاء بالملاَ صدر الدين الشيرازي (ت1050هـ).

    بناء على ماتقدم؛ يلاحظ أن ازدهار الفنون الميكانيكية في العالم العربي والعالم الإسلامي، في ذروتها بين القرنين الثالث والسادس الهجري/التاسع والثالث عشر الميلادي، يمكن عدَّه جزءاً من ذلك التراث المتواصل للتقنية، الذي ترسخ في الشرقين الأوسط والأدنى في قرون عديدة، فالمصريون واليونانيون والرومان والبيزنطيون دفعوا كلهم، بطرق مختلفة، بذلك التراث أشواطاً إلى الأمام، وإنَّ ماوصل من الإبداع التقني والتطور العلمي ليس إلا نزراً يسيراً من إبداعات تراكمت عبر القرون، حيث لم يتوقف الإبداع التقني إلا بعد انحطاط الحضارة العربية. وإن تراث العرب الأساسي في هذا المضمار جاء من حضارة المتوسط الشرقية، وذلك قبل ظهور الإسلام وبعد ظهوره على حد سواء، فالزمرة الأولى من التكنولوجيا العربية؛ وهي الآلات المصممة للاستعمال اليومي كالطواحين وآلات ضخ المياه وغيرها، بقيت ابتكارات صُنَّاعها وتطويرهم لها طي النسيان. ويمكن القول إن جزءاً لا يستهان به من الآلات التي رآها علماء الغرب إبان الحروب الصليبية في الشرق، أو عرفوها في بلاد الأندلس، قد نُقَلَتْ إليهم بالمشاهدة أو المشافهة، ففي عام 1269م نقل بطرس فون ماريكو عن العرب مباشرة معلوماته عن المغناطيس وكيفية استعمال البوصلة، وأدخل استعمالها إلى أوروبا في رسالتهEpistola de magnete ووصلت إلى يد هيرمان الكسيح في دير ريخنو ساعة الشمس «ساعة الرحالة» فقام بوصف هذه الآلة العجيبة وصفاً حسياً عملياً، وانتشرت بعد ذلك في أكثر أطراف بلاد الغرب.

    تقول زيغريد هونكة: «نحن مازلنا حتى يومنا هذا نقف فاغري الأفواه دهشة وإعجاباً كلما رأينا ساعة كبيرة في مبنى البلدية، وما يرافق دقاتها من ظهور شخوص صغيرة متحركة ُتَذِّكُرنا بما فعله العرب في الماضي البعيد حباً بالآلات الميكانيكية وولعاً بها».

    ويُشار إلى أن دراسات الخازن (ت550هـ) في كتابه «ميزان الحكمة» تعد الأساس الذي بني عليه البارومتر ومفرغات الهواء والمضخات. وقد مهدت هذه الريادة لاكتشاف تورتيشلي لأنبوبة قياس الضغط الجوي بعد خمسة قرون.

    إن ازدهار علم الحيل كان يعني ازدهار العلم والتقانة، ولاسيما أنه لقي التشجيع والتطوير من السلطات الحاكمة، التي اهتمت بالقائمين عليه، ومنهم: «بنو موسى» (نحو 259هـ) وابن الهيثم (ت430هـ) وإسماعيل الجزري وتقي الدين الراصد (ت993هـ).

    ويمكن القول إن إرهاصات العصر الذهبي للعلم والتكنولوجيا العربية كانت في زمن الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ)، وفي الأندلس ممثلة بعباس بن فرناس (ت274هـ) ومحاولته الطيران، ووَضْعِهِ أول قلم حبر سائل، ثم بأبي الصلت الداني (ت529هـ) ومحاولته ابتكار رافعة للأثقال الكبيرة ورفع باخرة غرقت بالاسكندرية، وابن خلف المرادي في القرن الحادي عشر الميلادي، ثم إلى العهد العثماني ممثلاً بأعمال تقي الدين الراصد المهمة وتجلى ذلك على النطاق المدني في إنشاء أقنية الري وفي إقامة النواعير وطواحين الماء، ومنها ما أقامه قيصر الأسفوني(ت649هـ) في عمل طواحين الماء في حماة وضبطها في حالة الفيضان، وفي صناعة النسيج والورق والسكر والزيوت وغير ذلك.

    إن التقنيات التي كانت تشغل تلك الأجهزة البارعة تنطوي على أهمية قصوى، إذ إن كثيراً من التكنولوجيا الحديثة وليد تلك الآلات البارعة، ولاسيما ميدانا التقنيات الدقيقة والأجهزة الطبية.

    منهل السراج
يعمل...
X