ليفيوس (تيتوس) Livius (Titus-) - Livius (Titus-)
ليفيوس (تيتوس ـ)
(59 ق.م ـ 17م)
تيتوس ليفيوس Titus Livius (واسمه بالإنكليزية ليفي Livy، وبالفرنسية تيت -ليف Tite-Live) مؤرخ روماني كبير بل وأشهر من أرخ للعصر الجمهوري، الذي عايش سنواته الأخيرة وأحداثه الكبرى التي أدت إلى قيام النظام الامبراطوري الروماني.
ولد في بلدة بتافيوم Patavium (بادوا Padua الحديثة) في شمالي إيطاليا، التي كانت موطناً لشعراء كبار، مثل فرجيل [ر] Vergil وكاتولّوس [ر] Catullus ونشأ في أسرة نبيلة محافظة تقلد عدد من أبنائها مناصب رفيعة. لايعرف عن حياة ليفيوس سوى النزر اليسير، فمؤرخ روما على مدى سبعة قرون ونيف «لا تاريخ له»، كما يقول الأديب الفرنسي تين Taine. ذهب إلى روما لتلقي العلم في ذلك العصر المضطرب وانكب على دراسة البلاغة والفلسفة. لم يكن لديه طموحات سياسية ولارغبة في تقلد الوظائف العامة؛ لذلك انصرف إلى البحث والتأليف وكان يلقي محاضرات من تاريخه نالت الإعجاب والتقدير. ألف في مطلع حياته عدداً من الحوارات بمضمون فلسفي تاريخي، ولكنها فقدت مثل رسالته إلى ابنه التي كتبها فيما بعد، وهي تحتوي إرشادات عن تكوين الخطيب وفن الخطابة وتشيد بشيشرون [ر] وديموستين [ر] بوصفهما المثل الأعلى للخطابة الرومانية والإغريقية.
اشتهر ليفيوس بتاريخه الذي بدأ بكتابته وهو في سن الثلاثين تقريباً، بقي يعمل فيه حتى آخر أيام حياته على مدة خمس وأربعين سنة، وقد وصل إلى 142 كتاباً، سرد فيها تاريخ روما منذ إنشائها عام 753ق.م حتى موت دروسوس Drusus الأخ الأصغر للامبراطور اللاحق تيبريوس عام 9ق.م، ومن المرجح أنه كان يريد الوصول بهذا التاريخ حتى وفاة الامبراطور أغسطس [ر] عام 14م. وهكذا عرف تاريخه باسم Ab Urbe condita أي «منذ تأسيس المدينة» (روما) ولكن لم يبق من هذا السفر الضخم سوى 35 كتاباً، تضم الأجزاء العشرة الأولى أحداث التاريخ الروماني منذ البداية حتى عام 293ق.م والأجزاء 21- 45 وقائع الحرب البونية الثانية وحروب روما في الشرق، أما الأجزاء المفقودة التي تبلغ ثلاثة أرباع الكتاب، فيمكن معرفة محتواها من الملخص Epitome الذي ظهر منذ القرن الرابع، ومن المختصرات والفهارس والاقتباسات لدى الكتاب اللاحقين، والتي يتبين منها أن ليفيوس خصص أكثر من نصف تاريخه لما يعرف بعصر الثورة الرومانية (133-30ق.م) وأن التاريخ المعاصر يبدأ عنده بالكتاب 109، أي باندلاع الحرب الأهلية بين بومبيوس ويوليوس قيصر عام 49ق.م. لقد سار ليفيوس على نهج المؤرخين الحوليين، ليس فقط في توزيع الأحداث على السنين، وإنما أيضاً في الإكثار من الوقائع والتفاصيل كلما اقترب من عصره. ويعود هذا بالتأكيد إلى وفرة المصادر التاريخية ومعايشته كثيراً من الأحداث. وهكذا فإن الكتب الستين الأولى من تاريخه تغطي ستة قرون كاملة، في حين تعالج الكتب الثمانون التالية أحداث 120سنة، ويبدو أن ليفيوس أصدر تاريخه في مجموعات من خمسة أو عشرة كتب تؤلف وحدات تاريخية متكاملة، مثل الحرب البونية الأولى (الكتب 16-20) والحرب البونية الثانية (الكتب 21-30) ولكنه لم يستطع الحفاظ على هذه الخطة فيما بعد.
يقول ليفيوس في مقدمة تاريخه: «لست أعلم ما إذا كنت سأقوم بعمل يستحق التقدير في محاولتي كتابة تاريخ الشعب الروماني منذ نشأة مدينة روما… فالمهمة شاقة وعسيرة؛ إذ هي تقتضي البحث في تاريخ امبراطورية تعود أصولها إلى سبعمئة سنة خلت…». ثم يضيف قائلاً: «علينا أن نتعرف أعمال الأمم في الماضي ومنجزاتها التي قادت إلى عظمتها للاستفادة منها ولنحقق الخير والعظمة لأنفسنا وأوطاننا، كما يجب أن نتعرف ما هو سيئ وغير مفيد لنا ولأوطاننا حتى نتجنبه…» وهكذا فقد كان له هدفان من كتابة التاريخ أولهما تسجيل الأفعال العظيمة للشعب الروماني، أما ثانيهما وهو الأهم فهو أن يضع أمام القارئ حقائق التاريخ لتقليد الصالح منه واجتناب ما هو سيئ، وبذلك يكون التاريخ خير معلم للناس.
ينضوي ليفيوس تحت تراث التأريخ الحولي الروماني، إذ كان يدون الأحداث عاماً فعاماً مبتدئاً بسنة تأسيس روما التي كانت بالنسبة له السنة الأولى في التقويم الروماني الذي استخدمه في تأريخ الأحداث (1= 753ق.م). وقد اعتمد على كتب حوليات القدامى من أمثال فابيوس بيكتور Fabius Pictor وكلاوديوس كوادريغاريوس Claudius Quadrigarius وفالريوس أنتياس Valerius Antias فيما يتعلق بالتاريخ الباكر، أما الأحداث في الشرق فقد استقى معلوماته عنها من المؤرخ الإغريقي بوليبيوس [ر] Polybius ولذلك فغنى معلوماته ومصداقيتها ترتبط بنوعية مصادره، ومن هنا جاء اهتمام الدراسات التاريخية الحديثة بهذه المصادر ونقدها وتحليلها. لقد اختار ليفيوس من مصادره السابقة ما يتفق وخطته ولم يتناولها بالدراسة والنقد والموازنة فيما بينها لاستخلاص الحقائق التاريخية، وإنما كان يكتفي بالنقل عن سابقيه فيغترف من مصدر واحد أساسي ويكمله أو يسد النقص والثغرات باستخدام مصدر آخر، ثم يقوم بصياغة المادة التاريخية بأسلوبه ليصنع منه صورة زاهية لماضي الرومان وعظمائهم الذين تحلوا بالفضيلة والوطنية وأسسوا أمجاد روما.
كانت الجمهورية الرومانية بتراثها وتقاليدها تمثل له مقياس كل الأشياء، ولذلك صب جلّ اهتمامه على العصور القديمة، وكان قادراً على الغوص في أعماقها ومعايشتها، وهكذا نجح في تصوير أحداث الماضي بحيوية استأثرت بقلوب قرائه.لقد كان الرومان القدماء يجسدون في نظره كل الفضائل التي يفتقر إليها أبناء عصره الذي يسوده الفساد والانحطاط. وقد تغاضى الامبراطور أغسطس عن ميول ليفيوس الجمهورية وتمجيده أبطالها وخاصة بومبيوس [ر] (حتى إن أغسطس أطلق عليه لقب «بومبياني») لأن روح تاريخه الدينية والأخلاقية والوطنية كانت تنسجم مع مشروعات الامبراطور السياسية والاجتماعية للنهوض بالشعب الروماني.
كان ليفيوس يتمتع بموهبة أدبية فريدة وقدرة على السرد والوصف لا تبارى جعلت منه كاتب تاريخ عظيم، ولكن ليس باحثاً أو مؤرخاً مدققاً بالمعنى الحديث للكلمة. لقد حرص على أن يكون تاريخه مؤلفاً أدبياً مشبعاً بروح الفن، شاعرياً في أسلوبه وطريقته في تناول الأحداث ، وتعد الخطب التي دبجها وبثها في ثنايا الأحداث آية من آيات الخطابة الرومانية وغدت مثالاً يحتذى. لقد عرف كيف يجعل من اللغة اللاتينية أداة رائعة في النثر الأدبي مثلما كانت قد بلغته في الشعر الملحمي، فصار صاحب اتجاه ومدرسة لتطوير الأسلوب التاريخي في اللغة اللاتينية، بل وأصبح مؤسس فن التأريخ الروماني بأجمعه. وحقاً مارس ليفيوس تأثيراً واضحاً على كتاب روما وشعرائها اللاحقين، فقد اعتمد عليه الشاعر لوكانوس Lucanus في ملحمته الشعرية «فرسالوس» التي يمجد فيها الجمهورية الرومانية وآخر زعمائها كاتو Cato الأصغر، كما استخدمه الشاعر سيليوس إيتاليكوسSilius Italicus في تأليف ملحمته الضخمة عن الحرب البونية الثانية وبطلها هانيبال.
لقي ليفيوس في أثناء حياته المديدة الاحترام والتقدير والإعجاب. ويروي الأديب بلينيوس [ر] الأصغر في إحدى رسائله كيف أن أحد المعجبين به قد جاء من قادس الإسبانية إلى روما خصيصاً من أجل أن يرى ليفيوس، ثم عاد إلى بلده بعد أن حقق أمنيته، وهذا يدل على أن شهرته قد تجاوزت روما وإيطاليا إلى ماوراء البحار.
اُستخدم تاريخه على نطاق واسع، وبقي متداولاً بصورة كاملة حتى القرن الرابع الميلادي. وقد اهتمت خاصة دائرة سيماخوس Symmachus الأدبية التي ترعى التراث الروماني وتسعى إلى إحيائه ونشره. ولكن بعد سقوط روما بدأ الإهمال والضياع يطال هذا السفر التاريخي الضخم. وقد أثنى عليه الشاعر الكبير دانتي [ر] وعدّه «ليفيوس الذي لايخطئ» (Livio.che non erra)، وفي عصر النهضة صار تاريخ ليفيوس مورداً لكل الأدباء والشعراء والرسامين وعاد الاهتمام به من جديد فتأثر به مكياڤيلّي [ر] وكتب عن ليفيوس في كتاباته ضد طغيان الحكام، وفي بحثه: «تأملات عن أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم».
ولكن منذ القرن التاسع عشر بدأ النقد التاريخي يطال ليفيوس وتراجعت مصداقيته ومكانته ولم يعد يلبي متطلبات البحث التاريخي. وانصب النقد الذي تزعمه المؤرخ الألماني نيبور Niebuhr على طريقة عمله، وغياب ملكة النقد التاريخي لديه، وعدم تحريه الدقة في المعلومات التي دونها وعدم ربطه الأسباب بالنتائج، وإسقاطه أوضاع عصره على الأزمنة القديمة… ولكن هذه الانتقادات تحكم على ليفيوس وفق معايير غريبة عنه، أما من ينظر إلى ليفيوس في إطار الكتابة التاريخية الرومانية فإن الصورة تختلف اختلافاً كبيراً، فقد كان بلا شك إحدى قمم هذا التأريخ، ومما يشهد على ذلك أنه لم يتصد أحد من المؤرخين الرومان لكتابة تاريخ العصر الجمهوري بعد ليفيوس. لقد كان هو المؤرخ الذي حفظ لنا نظرة الرومان في أوج عظمتهم إلى ماضيهم وتراثهم مثلما حفظها للأجيال اللاحقة، وهكذا ظل تاريخ ليفيوس يلون أفكار الناس عن تاريخ روما وأخلاق أهلها قروناً طوالاً وصار ينظر إليه في كل العصور على أنه تتويج للتاريخ الروماني.
وقد بدأت ترجماته إلى اللغات الأوربية الحديثة منذ القرن السادس عشر، وظهرت طبعات محققة موثوقة لهذا التاريخ - أو ما تبقى منه - في سلاسل المطبوعات الكلاسيكية في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا لتكون في متناول دارسيه من طلاب الآداب اللاتينية والتاريخ الكلاسيكي. وقد احتفلت الأوساط العلمية والأدبية في أربعينيات القرن العشرين بمرور ألفي عام على ولادة ليفيوس وصدرت عشرات الكتب والأبحاث والدراسات التي تناولت تاريخه ومكانته في الأدب الروماني.
محمد الزين
ليفيوس (تيتوس ـ)
(59 ق.م ـ 17م)
تيتوس ليفيوس Titus Livius (واسمه بالإنكليزية ليفي Livy، وبالفرنسية تيت -ليف Tite-Live) مؤرخ روماني كبير بل وأشهر من أرخ للعصر الجمهوري، الذي عايش سنواته الأخيرة وأحداثه الكبرى التي أدت إلى قيام النظام الامبراطوري الروماني.
ولد في بلدة بتافيوم Patavium (بادوا Padua الحديثة) في شمالي إيطاليا، التي كانت موطناً لشعراء كبار، مثل فرجيل [ر] Vergil وكاتولّوس [ر] Catullus ونشأ في أسرة نبيلة محافظة تقلد عدد من أبنائها مناصب رفيعة. لايعرف عن حياة ليفيوس سوى النزر اليسير، فمؤرخ روما على مدى سبعة قرون ونيف «لا تاريخ له»، كما يقول الأديب الفرنسي تين Taine. ذهب إلى روما لتلقي العلم في ذلك العصر المضطرب وانكب على دراسة البلاغة والفلسفة. لم يكن لديه طموحات سياسية ولارغبة في تقلد الوظائف العامة؛ لذلك انصرف إلى البحث والتأليف وكان يلقي محاضرات من تاريخه نالت الإعجاب والتقدير. ألف في مطلع حياته عدداً من الحوارات بمضمون فلسفي تاريخي، ولكنها فقدت مثل رسالته إلى ابنه التي كتبها فيما بعد، وهي تحتوي إرشادات عن تكوين الخطيب وفن الخطابة وتشيد بشيشرون [ر] وديموستين [ر] بوصفهما المثل الأعلى للخطابة الرومانية والإغريقية.
اشتهر ليفيوس بتاريخه الذي بدأ بكتابته وهو في سن الثلاثين تقريباً، بقي يعمل فيه حتى آخر أيام حياته على مدة خمس وأربعين سنة، وقد وصل إلى 142 كتاباً، سرد فيها تاريخ روما منذ إنشائها عام 753ق.م حتى موت دروسوس Drusus الأخ الأصغر للامبراطور اللاحق تيبريوس عام 9ق.م، ومن المرجح أنه كان يريد الوصول بهذا التاريخ حتى وفاة الامبراطور أغسطس [ر] عام 14م. وهكذا عرف تاريخه باسم Ab Urbe condita أي «منذ تأسيس المدينة» (روما) ولكن لم يبق من هذا السفر الضخم سوى 35 كتاباً، تضم الأجزاء العشرة الأولى أحداث التاريخ الروماني منذ البداية حتى عام 293ق.م والأجزاء 21- 45 وقائع الحرب البونية الثانية وحروب روما في الشرق، أما الأجزاء المفقودة التي تبلغ ثلاثة أرباع الكتاب، فيمكن معرفة محتواها من الملخص Epitome الذي ظهر منذ القرن الرابع، ومن المختصرات والفهارس والاقتباسات لدى الكتاب اللاحقين، والتي يتبين منها أن ليفيوس خصص أكثر من نصف تاريخه لما يعرف بعصر الثورة الرومانية (133-30ق.م) وأن التاريخ المعاصر يبدأ عنده بالكتاب 109، أي باندلاع الحرب الأهلية بين بومبيوس ويوليوس قيصر عام 49ق.م. لقد سار ليفيوس على نهج المؤرخين الحوليين، ليس فقط في توزيع الأحداث على السنين، وإنما أيضاً في الإكثار من الوقائع والتفاصيل كلما اقترب من عصره. ويعود هذا بالتأكيد إلى وفرة المصادر التاريخية ومعايشته كثيراً من الأحداث. وهكذا فإن الكتب الستين الأولى من تاريخه تغطي ستة قرون كاملة، في حين تعالج الكتب الثمانون التالية أحداث 120سنة، ويبدو أن ليفيوس أصدر تاريخه في مجموعات من خمسة أو عشرة كتب تؤلف وحدات تاريخية متكاملة، مثل الحرب البونية الأولى (الكتب 16-20) والحرب البونية الثانية (الكتب 21-30) ولكنه لم يستطع الحفاظ على هذه الخطة فيما بعد.
يقول ليفيوس في مقدمة تاريخه: «لست أعلم ما إذا كنت سأقوم بعمل يستحق التقدير في محاولتي كتابة تاريخ الشعب الروماني منذ نشأة مدينة روما… فالمهمة شاقة وعسيرة؛ إذ هي تقتضي البحث في تاريخ امبراطورية تعود أصولها إلى سبعمئة سنة خلت…». ثم يضيف قائلاً: «علينا أن نتعرف أعمال الأمم في الماضي ومنجزاتها التي قادت إلى عظمتها للاستفادة منها ولنحقق الخير والعظمة لأنفسنا وأوطاننا، كما يجب أن نتعرف ما هو سيئ وغير مفيد لنا ولأوطاننا حتى نتجنبه…» وهكذا فقد كان له هدفان من كتابة التاريخ أولهما تسجيل الأفعال العظيمة للشعب الروماني، أما ثانيهما وهو الأهم فهو أن يضع أمام القارئ حقائق التاريخ لتقليد الصالح منه واجتناب ما هو سيئ، وبذلك يكون التاريخ خير معلم للناس.
ينضوي ليفيوس تحت تراث التأريخ الحولي الروماني، إذ كان يدون الأحداث عاماً فعاماً مبتدئاً بسنة تأسيس روما التي كانت بالنسبة له السنة الأولى في التقويم الروماني الذي استخدمه في تأريخ الأحداث (1= 753ق.م). وقد اعتمد على كتب حوليات القدامى من أمثال فابيوس بيكتور Fabius Pictor وكلاوديوس كوادريغاريوس Claudius Quadrigarius وفالريوس أنتياس Valerius Antias فيما يتعلق بالتاريخ الباكر، أما الأحداث في الشرق فقد استقى معلوماته عنها من المؤرخ الإغريقي بوليبيوس [ر] Polybius ولذلك فغنى معلوماته ومصداقيتها ترتبط بنوعية مصادره، ومن هنا جاء اهتمام الدراسات التاريخية الحديثة بهذه المصادر ونقدها وتحليلها. لقد اختار ليفيوس من مصادره السابقة ما يتفق وخطته ولم يتناولها بالدراسة والنقد والموازنة فيما بينها لاستخلاص الحقائق التاريخية، وإنما كان يكتفي بالنقل عن سابقيه فيغترف من مصدر واحد أساسي ويكمله أو يسد النقص والثغرات باستخدام مصدر آخر، ثم يقوم بصياغة المادة التاريخية بأسلوبه ليصنع منه صورة زاهية لماضي الرومان وعظمائهم الذين تحلوا بالفضيلة والوطنية وأسسوا أمجاد روما.
كانت الجمهورية الرومانية بتراثها وتقاليدها تمثل له مقياس كل الأشياء، ولذلك صب جلّ اهتمامه على العصور القديمة، وكان قادراً على الغوص في أعماقها ومعايشتها، وهكذا نجح في تصوير أحداث الماضي بحيوية استأثرت بقلوب قرائه.لقد كان الرومان القدماء يجسدون في نظره كل الفضائل التي يفتقر إليها أبناء عصره الذي يسوده الفساد والانحطاط. وقد تغاضى الامبراطور أغسطس عن ميول ليفيوس الجمهورية وتمجيده أبطالها وخاصة بومبيوس [ر] (حتى إن أغسطس أطلق عليه لقب «بومبياني») لأن روح تاريخه الدينية والأخلاقية والوطنية كانت تنسجم مع مشروعات الامبراطور السياسية والاجتماعية للنهوض بالشعب الروماني.
كان ليفيوس يتمتع بموهبة أدبية فريدة وقدرة على السرد والوصف لا تبارى جعلت منه كاتب تاريخ عظيم، ولكن ليس باحثاً أو مؤرخاً مدققاً بالمعنى الحديث للكلمة. لقد حرص على أن يكون تاريخه مؤلفاً أدبياً مشبعاً بروح الفن، شاعرياً في أسلوبه وطريقته في تناول الأحداث ، وتعد الخطب التي دبجها وبثها في ثنايا الأحداث آية من آيات الخطابة الرومانية وغدت مثالاً يحتذى. لقد عرف كيف يجعل من اللغة اللاتينية أداة رائعة في النثر الأدبي مثلما كانت قد بلغته في الشعر الملحمي، فصار صاحب اتجاه ومدرسة لتطوير الأسلوب التاريخي في اللغة اللاتينية، بل وأصبح مؤسس فن التأريخ الروماني بأجمعه. وحقاً مارس ليفيوس تأثيراً واضحاً على كتاب روما وشعرائها اللاحقين، فقد اعتمد عليه الشاعر لوكانوس Lucanus في ملحمته الشعرية «فرسالوس» التي يمجد فيها الجمهورية الرومانية وآخر زعمائها كاتو Cato الأصغر، كما استخدمه الشاعر سيليوس إيتاليكوسSilius Italicus في تأليف ملحمته الضخمة عن الحرب البونية الثانية وبطلها هانيبال.
لقي ليفيوس في أثناء حياته المديدة الاحترام والتقدير والإعجاب. ويروي الأديب بلينيوس [ر] الأصغر في إحدى رسائله كيف أن أحد المعجبين به قد جاء من قادس الإسبانية إلى روما خصيصاً من أجل أن يرى ليفيوس، ثم عاد إلى بلده بعد أن حقق أمنيته، وهذا يدل على أن شهرته قد تجاوزت روما وإيطاليا إلى ماوراء البحار.
اُستخدم تاريخه على نطاق واسع، وبقي متداولاً بصورة كاملة حتى القرن الرابع الميلادي. وقد اهتمت خاصة دائرة سيماخوس Symmachus الأدبية التي ترعى التراث الروماني وتسعى إلى إحيائه ونشره. ولكن بعد سقوط روما بدأ الإهمال والضياع يطال هذا السفر التاريخي الضخم. وقد أثنى عليه الشاعر الكبير دانتي [ر] وعدّه «ليفيوس الذي لايخطئ» (Livio.che non erra)، وفي عصر النهضة صار تاريخ ليفيوس مورداً لكل الأدباء والشعراء والرسامين وعاد الاهتمام به من جديد فتأثر به مكياڤيلّي [ر] وكتب عن ليفيوس في كتاباته ضد طغيان الحكام، وفي بحثه: «تأملات عن أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم».
ولكن منذ القرن التاسع عشر بدأ النقد التاريخي يطال ليفيوس وتراجعت مصداقيته ومكانته ولم يعد يلبي متطلبات البحث التاريخي. وانصب النقد الذي تزعمه المؤرخ الألماني نيبور Niebuhr على طريقة عمله، وغياب ملكة النقد التاريخي لديه، وعدم تحريه الدقة في المعلومات التي دونها وعدم ربطه الأسباب بالنتائج، وإسقاطه أوضاع عصره على الأزمنة القديمة… ولكن هذه الانتقادات تحكم على ليفيوس وفق معايير غريبة عنه، أما من ينظر إلى ليفيوس في إطار الكتابة التاريخية الرومانية فإن الصورة تختلف اختلافاً كبيراً، فقد كان بلا شك إحدى قمم هذا التأريخ، ومما يشهد على ذلك أنه لم يتصد أحد من المؤرخين الرومان لكتابة تاريخ العصر الجمهوري بعد ليفيوس. لقد كان هو المؤرخ الذي حفظ لنا نظرة الرومان في أوج عظمتهم إلى ماضيهم وتراثهم مثلما حفظها للأجيال اللاحقة، وهكذا ظل تاريخ ليفيوس يلون أفكار الناس عن تاريخ روما وأخلاق أهلها قروناً طوالاً وصار ينظر إليه في كل العصور على أنه تتويج للتاريخ الروماني.
وقد بدأت ترجماته إلى اللغات الأوربية الحديثة منذ القرن السادس عشر، وظهرت طبعات محققة موثوقة لهذا التاريخ - أو ما تبقى منه - في سلاسل المطبوعات الكلاسيكية في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا لتكون في متناول دارسيه من طلاب الآداب اللاتينية والتاريخ الكلاسيكي. وقد احتفلت الأوساط العلمية والأدبية في أربعينيات القرن العشرين بمرور ألفي عام على ولادة ليفيوس وصدرت عشرات الكتب والأبحاث والدراسات التي تناولت تاريخه ومكانته في الأدب الروماني.
محمد الزين