السريالية والفن
ثمة عاملان أساسيان شكلا نقطة انطلاق التجربة السريالية في الفن:
أولاً: الظرف الموضوعي في تاريخ الفن الذي تميز في عشرينيات القرن العشرين بتزامن ثلاث ظواهر هي:
1 ـ الطريقة الجديدة في النظر إلى العالم التي حملتها الحركة التكعيبية وبدت كأنها قطيعة مع كل القواعد المتّبعة في الفن.
2 ـ تطور الحساسية الرومنسية في الفن وبلوغها أوجها مع الحركة الدادائية.
3 ـ ظهور «الفن الماورائي» مع أعمال دي كيريكو.
ثانياً: اهتمام مؤسس الحركة، بروتون، بالفن وقد ظهر ذلك واضحاً في البيان السريالي الذي يذكر عدداً كبيراً من الفنانين من بين آباء السريالية، ومنهم: أُتشيلوUccello وسورا Seurat وماتيسMatisseوغوستاف موروMoreau وجورج براكBraqueوبيكاسو وبيكابيا Picabia ودي كيريكو. غير أن بروتون رفض قطعياً إمكانية وجود «فن سريالي»، وكتب في هذا الخصوص في مقالة «السريالية والتصوير»(1946) Le Surréalisme et la peinture «لا وجود لتصوير سريالي. فلا خطوط القلم المرتسمة مصادفة على الورق، ولا الصورة التي تظهر الأشكال الواردة في الأحلام، ولا التصورات الخيالية يمكنها أن تنعت بالسريالية». لكنه يشير من جهة إلى وجود بعض العناصر الفنية لدى عدد من الفنانين تقترب من الفكر السريالي، ويمتنع من جهة أخرى عن إعطاء أية وصفة لكيفية صياغة هذه العناصر السريالية في العمل الفني.
انطلقت تجربة الفن السريالي على يد فنانين اثنين هما: ماسون Masson وماكس إرنست Max Ernst. يرى ماسون أن أسلوب الكتابة الآلية الصرف المميز للكتابة السريالية قابل للتطبيق فنياً سواء في رسوم آلية تُنفذ بآلية تنفيذ الكتابة نفسها أو في «الصور الرملية» التي لا تترك السرعة الكبيرة المطلوبة لتنفيذها أي مجال للتدخل العقلاني في الرسم. أما ماكس إرنست فيرى أن المطلوب فنياً هو تقديم ما يعادل الآليات الكتابية قياساً، لا ما يطابقها نسخاً، ويجد أن تقانة اللصق «كولاج»، التي سبق له أن برع فيها في مرحلته الدادائية، هي تقانة الفن السريالي بامتياز.
بعد هذين الفنانين المؤسسين دخل الفن السريالي في مرحلة جديدة مع الفنان الكتالوني خوان ميرو Joan Miró، تميزت بالانطلاق من الطبيعة وموضوعاتها، والعمل عليها في اتجاه تضخيم الوجه السحري أو الغرائبي لكل تفصيل من تفاصيلها. وقد بلغت هذه المرحلة أوجها في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية وما أدخلته من تشوهات على الطبيعة. ثم تطور الفن السريالي في اتجاهات عدة تميز فيها عدد كبير من الفنانين مثل رُنيه ماغريت René Magritteوإيف تانغي Yves Tanguy وسلفادور داليSalvador Dali في التصوير؛ جاكوميتيGiacometti في النحت، ولويس بونويل Luis Buñuel في السينما.
في أثناء الحرب العالمية الثانية تفتتت الحركة السريالية لتعود وتلتئم من جديد في «المنطقة الحرة» في مدينة مرسيليا في نهاية 1940، لكن عدداً كبيراً من فنانيها كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتنطلق هناك مدارس عديدة اعتبرت كاستمرار للسريالية مثل تيار «الفن السريالي جداً» L’Art extra-surréaliste، و«مدرسة المحيط الهادئ» L’école du Pacifique، وتيار «التصوير الحركي الارتجالي» Peinture gestuelle وغيرها. وقد دفع توالد التيارات الفنية التي تدعي انتماءها إلى السريالية بروتون إلى التحذير من تشكّل امتثاليةConformisme سريالية في الفن تضاف إلى ما سبقها من امتثاليات قامت السريالية أساساً لمناهضتها.
وفي معرض باريس عام 1947 لم يُظهر الجمهور أي اكتراث بالفنانين السرياليين، وترسخ هذا الجفاء في المعرضين الاستعاديين للفنانين بيكابيا وماكس إرنست اللذين أقيما عام 1949. ويمكن إرجاع هذا الموقف إلى رفض السريالية الانصياع إلى الذائقة العامة الوليدة بعيد الحرب، المتمثلة بهيمنة الوجودية المقنعة فنياً ببؤسوية Misérabilisme مثيرة للشفقة، وإلى محاولتها طرح موضوعات مصطنعة لا تتلاءم مع نفسية شعوب خارجة من الحرب. وقد كان هذا الموقف فاتحة لتفتت الحركة السريالية الفنية وتشظيها في اتجاهات ومسارات ومدارس متناقضة تماماً، لا يجمع بينها أي جامع سوى الرغبة في أن تكون وريثة لتلك الحركة الثقافية التي جعلت من حرية الفكر أساساً لكل إبداع.
حسـان عبـاس
ثمة عاملان أساسيان شكلا نقطة انطلاق التجربة السريالية في الفن:
فرنسيس بيكاما «الحب الهادئ» (1937) |
1 ـ الطريقة الجديدة في النظر إلى العالم التي حملتها الحركة التكعيبية وبدت كأنها قطيعة مع كل القواعد المتّبعة في الفن.
2 ـ تطور الحساسية الرومنسية في الفن وبلوغها أوجها مع الحركة الدادائية.
3 ـ ظهور «الفن الماورائي» مع أعمال دي كيريكو.
ثانياً: اهتمام مؤسس الحركة، بروتون، بالفن وقد ظهر ذلك واضحاً في البيان السريالي الذي يذكر عدداً كبيراً من الفنانين من بين آباء السريالية، ومنهم: أُتشيلوUccello وسورا Seurat وماتيسMatisseوغوستاف موروMoreau وجورج براكBraqueوبيكاسو وبيكابيا Picabia ودي كيريكو. غير أن بروتون رفض قطعياً إمكانية وجود «فن سريالي»، وكتب في هذا الخصوص في مقالة «السريالية والتصوير»(1946) Le Surréalisme et la peinture «لا وجود لتصوير سريالي. فلا خطوط القلم المرتسمة مصادفة على الورق، ولا الصورة التي تظهر الأشكال الواردة في الأحلام، ولا التصورات الخيالية يمكنها أن تنعت بالسريالية». لكنه يشير من جهة إلى وجود بعض العناصر الفنية لدى عدد من الفنانين تقترب من الفكر السريالي، ويمتنع من جهة أخرى عن إعطاء أية وصفة لكيفية صياغة هذه العناصر السريالية في العمل الفني.
انطلقت تجربة الفن السريالي على يد فنانين اثنين هما: ماسون Masson وماكس إرنست Max Ernst. يرى ماسون أن أسلوب الكتابة الآلية الصرف المميز للكتابة السريالية قابل للتطبيق فنياً سواء في رسوم آلية تُنفذ بآلية تنفيذ الكتابة نفسها أو في «الصور الرملية» التي لا تترك السرعة الكبيرة المطلوبة لتنفيذها أي مجال للتدخل العقلاني في الرسم. أما ماكس إرنست فيرى أن المطلوب فنياً هو تقديم ما يعادل الآليات الكتابية قياساً، لا ما يطابقها نسخاً، ويجد أن تقانة اللصق «كولاج»، التي سبق له أن برع فيها في مرحلته الدادائية، هي تقانة الفن السريالي بامتياز.
ماكس إرنست «إقليدس» (1945) |
في أثناء الحرب العالمية الثانية تفتتت الحركة السريالية لتعود وتلتئم من جديد في «المنطقة الحرة» في مدينة مرسيليا في نهاية 1940، لكن عدداً كبيراً من فنانيها كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتنطلق هناك مدارس عديدة اعتبرت كاستمرار للسريالية مثل تيار «الفن السريالي جداً» L’Art extra-surréaliste، و«مدرسة المحيط الهادئ» L’école du Pacifique، وتيار «التصوير الحركي الارتجالي» Peinture gestuelle وغيرها. وقد دفع توالد التيارات الفنية التي تدعي انتماءها إلى السريالية بروتون إلى التحذير من تشكّل امتثاليةConformisme سريالية في الفن تضاف إلى ما سبقها من امتثاليات قامت السريالية أساساً لمناهضتها.
وفي معرض باريس عام 1947 لم يُظهر الجمهور أي اكتراث بالفنانين السرياليين، وترسخ هذا الجفاء في المعرضين الاستعاديين للفنانين بيكابيا وماكس إرنست اللذين أقيما عام 1949. ويمكن إرجاع هذا الموقف إلى رفض السريالية الانصياع إلى الذائقة العامة الوليدة بعيد الحرب، المتمثلة بهيمنة الوجودية المقنعة فنياً ببؤسوية Misérabilisme مثيرة للشفقة، وإلى محاولتها طرح موضوعات مصطنعة لا تتلاءم مع نفسية شعوب خارجة من الحرب. وقد كان هذا الموقف فاتحة لتفتت الحركة السريالية الفنية وتشظيها في اتجاهات ومسارات ومدارس متناقضة تماماً، لا يجمع بينها أي جامع سوى الرغبة في أن تكون وريثة لتلك الحركة الثقافية التي جعلت من حرية الفكر أساساً لكل إبداع.
حسـان عبـاس