كتبت:فتيحة بجاج السباعي..دموع صامتة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كتبت:فتيحة بجاج السباعي..دموع صامتة


    فتيحة بجاج السباعي

    دموع صامتة

    لطالما خلت نفسي بعيدة عن ذلك المشهد الذي وقتها دمرت مرارته خاطري. أبدا لم ينمحي من ذاكرتي... دائما أردد في نفسي: "ليت خطواتي لم تحملني إلى ذلك الاتجاه من الطريق... ليثني غيرت الصوب... ليثني لم أخرج ذاك اليوم... وأجلت كل شيء إلى وقت لاحق"… لكنها كانت حتمية العمل.

    كانت هناك امرأة تمشي بخطى مثقلة بالهم وكأنها تتكبد أوزار العالم كله. تحمل بين ذراعيها رضيعا يمتص بجهد جهيد ثديا كانت عروقها قد جفت وباتت جلدة مصفقة لا حياة فيها.
    ومن قسوة الجوع والعطش، وبعد فترات بكاء طويلة، بدأت الدموع الصامتة تتسرب من عينين صغيرتين، ليس بطبيعتهما، بل لأنهما من الجهش بالبكاء المخنوق كانتا مغمضتين.

    علامات الألم تطفو على وجه الأم، لأن الدموع كانت تقع حامية على كتفيها وكأن حرقة جوع الصبي صارت لهبا زاد من حرارة الدمعة، وحين حطت على أذرع المرأة كوتها. تحاول جاهدة إسكاته، لأنها كانت تحس بوجعه الصامت... إنها الأم...

    على فخدها كان يجلس ابنها الآخر في حوالي الثلاث سنوات من عمره، ينظر بعينين مغمورتين بالحزن والحيرة، وكأنه يتساءل عما يحدث من حوله، وعما سوف يحدث. كانت يداه ترتعشان من الخوف، الذي يبدو أنه استمده من عيون أمه وقلقها على أخيه الرضيع. لم يكن على وعي بمصدر الرعب الحقيقي الذي يتهددهم جميعهم من كل ناحية.

    خلفها كان يقف فتى، يشبهها، ولكن لا يمكن التأكد أنه ابنها أو يقربها. كان يحمل على كتفيه شوالا، من شدة ثقله، جعله ينحني حتى كاد وجهه يلامس ركبتيه. لم يمنعه وضعه من أن يحوم بنظراته هنا وهناك، وتارة أخرى يرفعها إلى السماء وكأنه يرى أشياء غريبة، بل حتى أنه يخاطبها، كلماته لم تكن واضحة. يبدو أنه كان يطمئن على المرأة والصبيين قبل المغادرة إلى وجهة ما، وحده يعلمها... هكذا كان يستنجد الحماية من السماء.

    لم تكترث الأم إليه، وكأنها معتادة على الأمر، واستمرت تربت على مؤخرة الرضيع، حينا، وتداعب بكفها اليمنى رأس الصبي، حينا آخر. انطلق الفتى المثقل بالشوال دون أن ينبس ببنت شفة...

    قبل أن يصل زاوية الشارع اليمنى رمقت إليه الأم بنظرة كلها حنو وعطف. كأنها تتوسل أن تظل عصافير الزمان الخفي تلاحقه لتحميه، وتظل هي تسمع تجسس تغريداتها لتخبرها أن كل شيء على ما يرام...

    إن انشغالها ليس وليد عبث، بل إن خوفها نابع من الاضطرار للعيش في مكان صاخب بفعل النيران المفاجئة المشتعلة هنا وهناك، علما أنهم ليسوا في زمن حرب مع أي أحد. الشظايا العشوائية القاتلة تهدد الأرواح الحية باستمرار، الأفق غير المحدود، الموت الذي يرقب في كل ناحية... أمور جدا بديهية وواردة.

    اقتربتُ أكثر من المرأة، كان بكاء الرضيع ما يزال مخنوقا دون صوت... لم يعد لديه جهد حتى أن يفتح عينيه. زاد اقترابي منهم من حدة خوف الصبي ذو الثلاث سنوات، وهو ينظر صوبي دون انقطاع، التصق بأمه وشد بقوة بيديه الصغيرتين والنحيفتين على وشاح كانت تلفه على صدرها، وكأنه خشي أن ألمسه. تعمدت تثاقل خطواتي، ودنوت أكثر منهم... بعد أن اطمئن الصغير إلي دخلت في حديث مع الأم... أخبرتني أنهم هاربون من بعيد... بعيد من هول القهر... قدموا إلى هنا مشيا في طريق مليئة بالمفاجئات السيئة والمخاطر... لا يعرفون إلى أين الوجهة القادمة، وكم سيطول بهم الزمن على هذا الحال...
يعمل...
X