الكاتبة رفيقة البحوري
تشقّ الصحراء بحثا عن الذات
صدرت للأستاذة رفيقة البحوري هذه الأيّام وعن دار محمّد علي للنشر رواية بعنوان " زمن الهذيان " في 230 صفحة . وإذا رمنا اختزال هذا النصّ القصصيّ في لافتة واحدة أمكننا أن نقول إنّه رواية الحرّية تنشدها رفيقة البحوري للمرأة المضطهدة وللطفولة المعذّبة فتاريخ كليهما هو تاريخ اضطهادهما معا .
تتأسس الرواية على لحظتين متمايزتين تمايزا جوهريّا هما:
1 ــ لحظة رفض سلّم القيم القديم والهروب من الزيف واختزال الحياة في بعدها المادّيّ والعيش من أجل الجسد دون سواه من قوى المعرفة والإدراك وقد عبّرت الكاتبة عن هذه اللحظة بتخلّي " بطلتها " (هاجر) عن مولودها في المستشفى والفرار من زوجها " الأحمق " و الخروج من المدينة وكلّ متعلّقاتها .
2 ــ لحظة التماهي مع القيم الإنسانيّة العليا ، لحظة الصدق مع الذات ومع البراءة . هي لحظة الاستجابة لنداء القلب والروح وعاطفة الأمومة الغريزية وقد تجسّدت في عودة (هاجر) إلى طفلها وإن بعد خمس سنوات من الفراق .
ــ وما كان لـ (هاجر) أن تنتقل من لحظة أولى مرفوضة إلى لحظة ثانية مطلوبة لولا خوضها تجربة "عبور الصحراء" حسّا ومعنى La traversée du désert ،تجربة " الهذيان" بما هي جسر إلى ولادة الإنسان من جديد ، وهذا هو جوهر الرواية . كيف يرتقي الإنسان من مرتبة الحيوانيّة إلى مرتبة الإنسانية ؟ كيف ينزع عنه إهاب الجسد ليدرك كنه الإنسان وسنخه الأعلى ؟ كيف يتأتّى للإنسان أن يتطهّر من أعراض الحياة ليرتقي إلى جوهرها ؟
ــ لحظتان متمايزتان ، لحظة موت (هاجر) القديمة ولحظة ميلاد (هاجر) الجديدة ، وما بين اللحظتين كانت لحظة المخاض بعبور الصحراء .عاشت (هاجر) "عبور الصحراء" كاستعارة للقلب الذي كاد يموت بجفاف المدينة وزيف " الرجولة " ليرتوي وينتعش في الصحراء القاحلة بتجربة روحيّة بلغت درجة الرهبنة ، وتلك مفارقة كبرى ، مفارقة الانتقال من الجفاء الزوجي وجفاف الروح إلى رواء القلب في قلب الصحراء .إنّها ثنائية الجسد والقلب أو ثنائية العرض والجوهر أو ثنائية المادة والروح . هذه هي القيمة الاستعارية للصحراء وهذه هي الطاقة الرمزية لهذا الفضاء الذي لا يقدر الإنسان على اجتيازه من دون دليل الذي هو (ميدار) في الرواية ولكنّه القلب في ذات الشخصية المأسوية التي تتوق إلى المنزلة الإنسانية ، تماما كـ (أبي هريرة ) المسعدي و(موسى العسكري ) عند نعيمة.
ــ "عبور الصحراء" هو مرحلة من حياة الإنسان ــ فردا أو جماعة ــ يقطعها عندما يشعر بأنّ العالم تخلّى عنه ، وبأنّه ينفرد وحده بقيمه التي لم يقبلها العالم الذي يحيط به ،وبأنّه لم يعد ذا شأن عند الآخرين إذاك يشرع الإنسان في تجريب قدراته وكفاءاته من جديد ، وفي اختبار نفسه بمقاربة جديدة ويبدأ في مراجعة مواقفه في ضوء مقارنات يعقدها بين ما مضى من حياته وما يعيشه من مشاق جديدة (التجربة مع ميدار) ، مثلما يشرع في اكتشاف تجارب أناس آخرين يؤدّي به جميع ذلك إلى بناء سلّم قيم جديدة بعد التسافي مع الحياة الأولى .عبور الصحراء هو بمعنى معيّن نوع من الخلوة بالذات حتى وإن كان الإنسان المعني بها محاطا بأناس آخرين ولكنّهم ليسوا من جنس الناس السابقين في تجربة الحياة الأولى .
ــ وقد تعلّمت "بطلة" رفيقة البحوري " هاجر " من عبورها الصحراء أنّ قيم الثقة والإخلاص في الحبّ والصدق في الخطاب ما زالت قائمة في الإنسان ، وأنّ افتقاد بعض القيم الأصيلة في عالم سابق موبوء لا يعني امّحاء هذه القيم من الإنسانية عموما . تعلّمت " هاجر " أنّ الغدر صفة عارضة ، وأنّ الوفاء خصلة راسخة في النفس البشرية ، مثلما تعلّمت أنّ الفشل في الحبّ لا يعني أنّ الحبّ لم يعد موجودا . تعلّمت " هاجر " هذا وأدركت في نفس الوقت أنّ عبور الصحراء ليس خاصّا بها ، وإنّما هو تجربة في الحياة تحصل للإنسان أيّ إنسان من دون ميز مثلما وقع ذلك مع " ميدار " دليلها في الصحراء .
ــ عبور الصحراء لحظة تقويمية في الحياة تجعل الإنسان يؤمن بأنّ الحياة ليست ثابتة ، وأنّ سمة التغيّر هي السمة التي تطبع الحياة .انتهت (هاجر) إلى أنّ عبور الصحراء نوع من التطهّر يسمح للإنسان بالارتقاء بوعيه عند النظر في أشياء الحياة من جديد ويفضي بصاحب التجربة إلى فضاء التفاؤل والأمل والإيمان بالذات .لذلك لا غرابة أن تخرج " البطلة " من مأساتها بروح انتصارية تنتقل بها من الهزيمة إلى فضاء الملحمة والصراع من جديد .
ــ انطلاقا من تجربة "عبور الصحراء" صارت الأسئلة تتناسل حول عدّة قضايا نسوية وفكرية واجتماعية من قبيل ما نستخلصه من خطاب " البطلة " :
قضيّة أولى:
+ من هي الأمّ الحقيقيّة لأيّ مولود جديد ؟ هل هي المرأة التي حملت بالجنين وعانت آلام الولادة (هاجر) ؟ أم أنّ الأمّ الحقيقية هي التي تولّت تربية الطفل ورعته الرعاية الاجتماعية المطلوبة إن قليلا أو كثيرا ( لونا ، مريم ، رانية ) ؟ بعبارة أخرى ، هل الأمومة شأن طبيعي وغريزيّ أم وظيفة اجتماعيّة ؟ هل الأمومة من فعل البويضة أم من أثر الولادة (الأمّ الفاضلة مع الأنوار) أم من استتباعات الإرادة ؟
+ من هو الأب الحقيقيّ لأيّ مولود جديد ؟ هل هو الرجل الذي كان سببا بيولوجيّا في ميلاده (وجيه) أم هو الرجل الذي رعى ذلك المولود وقام بما تقتضيه تربيته إن قليلا أو كثيرا (مراد) ؟
ـــ الذي جعل هذه الأسئلة تطرح لأنّ الجواب عنها ليس بديهيا كما يظنّ البعض .هو أنّ الكاتبة أسندت للطفل موضوع الرواية ثلاثة أسماء (إهاب) كما سمّاه أبوه و( وحيد) كما سمّته أمّه و(أمان) كما سمّاه صديق العائلة (مراد) هذا بالرغم من أنّه لا اسم لهذا المولود في المستشفى حيث وُلد وحيث تخلّت عته أمّه (هاجر) مثلما جعلت الكاتبة للطفل أكثر من أمّ اجتماعيّة ( لونا ، ومريم ، ورانية ) فضلا عن "هاجر " وأكثر من أب مثل (مراد) فضلا عن "وجيه "
+ كيف يمكن للمجتمع أن يتعامل مع العائلة ذات العائل الواحد La famille monoparentale ؟ وهل يحقّ للمجتمع أن يُقدّم " إمبراطورية البطن " على التبنّي والحال أنّ الكثير من الآباء البيولوجيين يتخلّون عن مسؤولياتهم إزاء مواليدهم ؟
ـــ يبدو أنّ الكاتبة أرادت أن تنتهي إلى أنّ تربية الطفل سواء كان طفلا بيولوجيا أوطفلا بالتبنّي أو طفلا ثمرة زراعة تعود دائما إلى المرأة ، مع إقرار لا يخفى بأنّ المولود وإن كان ثمرة زواج وليس ثمرة أمومة طبيعية منفردة فإنّ الكاتبة ذهبت إلى أنّ الطفولة يمكن أن تنتعش مع أمومة غريزية وأبوّة بالتبنّي ويمكن للعائلة أن تكون متماسكة بفضل الحبّ الذي يُعتبر اسمنت العلاقة بين أعضاء هذه العائلة .
القضيّة الثانية :
القضيّة الكبرى الثانية التي أثارتها الكاتبة في هذه الرواية هي قضيّة المرأة في المجتمع من خلال الأسئلة المستخلصة التالية :
+ لماذا لا يكون الحديث في تاريخ المرأة إلا كتاريخ لاضطهادها ؟ لماذا لا تستطيع المرأة أن تحبّ إلا في خضمّ الألم وفي عذابات الصراع مع الرجل أيّا كان هذا الرجل ؟
+ لماذا تجبر المرأة الجميلة على الصمت (الجازية ) في الرواية ؟ لماذا تحرم المرأة من التعبير عن جمالها بحرية ؟ لماذا تُمنع المرأة من الاحتفال بجسدها ؟
+ لماذا لا يتحدّث خطاب الحبّ إلا عن الخيانة أو المغالطة أو المنافسة ؟ متى نستطيع أن نقول عن علاقة حبّ إنها علاقة ناجحة ؟ ما هي العلاقة بين الحبّ كأنماط نفسية وبين إيقاعات المعيش اليومي ؟
ــ التقت تجربة (هاجر) بتجربة (رفيقة) بحثا عن الذات وعن الحكمة وعن القيمة الإنسانيّة التي لا يكون الإنسان إنسانا إلا بها ولا شيء غيرها . ــ ومثلما عاشت (هاجر) تجربة " عبور الصحراء " كاستعارة للقلب، عاشت البحوري تجربة الصحراء كاستعارة أدبيّة أبدعت في وصفها لغة وأسلوبا وصورا ومجازات ،طابقت بها بين الشكل والمضمون فنأت الكاتبة بنفسها عن أقانيم المدارس الفنّية الكلاسيكية مثلما نأت (هاجر) عن إكراهات الواقع المادي المعيش.كان مطلب كلّ من (هاجر) ورفيقة البحوري هو الحرّية ، الحرية مقترنة إلى شسوع الصحراء والتحرك فيها من دون قيد عشقا للعدم الصحراوي ، والحرية مقترنة إلى فضاءات العبارة الخصبة والإنشاء الرفيع في سيولة أخّاذة وبعيدا عن كلّ ضروب التلعثم . هذا وليس للقارئ أن يبحث كثيرا عن مكوّنات السرد الكلاسيكي وعن مقتضيات الواقعية ومنطقها السببي لأنّ الكاتبة علّقت كلّ ذلك باشتراطات" تجربة الهذيان " والتذكّر وتوارد الكوابيس ومجاهدة النفس وهو من الأمور المألوفة في الكتابة عن الصحراء كالذي نجده عند (أندريه شديد) و(جون لاكاريار).
هكذا كتبت رفيقة البحوري للحرّية ولنفسها وللمرأة وللطفل خاصّة باعتباره أكبر ضحايا الصمت الاجتماعي فكانت روايتها قطعة فنّية ذات منزع إنسانويّ تطمح إلى استرجاع الكرامة الإنسانية باعتبارها قاعدة الحقوق الإنسانية جميعا .
ابراهيم بن صالح
غرّة ماي 2023
تشقّ الصحراء بحثا عن الذات
صدرت للأستاذة رفيقة البحوري هذه الأيّام وعن دار محمّد علي للنشر رواية بعنوان " زمن الهذيان " في 230 صفحة . وإذا رمنا اختزال هذا النصّ القصصيّ في لافتة واحدة أمكننا أن نقول إنّه رواية الحرّية تنشدها رفيقة البحوري للمرأة المضطهدة وللطفولة المعذّبة فتاريخ كليهما هو تاريخ اضطهادهما معا .
تتأسس الرواية على لحظتين متمايزتين تمايزا جوهريّا هما:
1 ــ لحظة رفض سلّم القيم القديم والهروب من الزيف واختزال الحياة في بعدها المادّيّ والعيش من أجل الجسد دون سواه من قوى المعرفة والإدراك وقد عبّرت الكاتبة عن هذه اللحظة بتخلّي " بطلتها " (هاجر) عن مولودها في المستشفى والفرار من زوجها " الأحمق " و الخروج من المدينة وكلّ متعلّقاتها .
2 ــ لحظة التماهي مع القيم الإنسانيّة العليا ، لحظة الصدق مع الذات ومع البراءة . هي لحظة الاستجابة لنداء القلب والروح وعاطفة الأمومة الغريزية وقد تجسّدت في عودة (هاجر) إلى طفلها وإن بعد خمس سنوات من الفراق .
ــ وما كان لـ (هاجر) أن تنتقل من لحظة أولى مرفوضة إلى لحظة ثانية مطلوبة لولا خوضها تجربة "عبور الصحراء" حسّا ومعنى La traversée du désert ،تجربة " الهذيان" بما هي جسر إلى ولادة الإنسان من جديد ، وهذا هو جوهر الرواية . كيف يرتقي الإنسان من مرتبة الحيوانيّة إلى مرتبة الإنسانية ؟ كيف ينزع عنه إهاب الجسد ليدرك كنه الإنسان وسنخه الأعلى ؟ كيف يتأتّى للإنسان أن يتطهّر من أعراض الحياة ليرتقي إلى جوهرها ؟
ــ لحظتان متمايزتان ، لحظة موت (هاجر) القديمة ولحظة ميلاد (هاجر) الجديدة ، وما بين اللحظتين كانت لحظة المخاض بعبور الصحراء .عاشت (هاجر) "عبور الصحراء" كاستعارة للقلب الذي كاد يموت بجفاف المدينة وزيف " الرجولة " ليرتوي وينتعش في الصحراء القاحلة بتجربة روحيّة بلغت درجة الرهبنة ، وتلك مفارقة كبرى ، مفارقة الانتقال من الجفاء الزوجي وجفاف الروح إلى رواء القلب في قلب الصحراء .إنّها ثنائية الجسد والقلب أو ثنائية العرض والجوهر أو ثنائية المادة والروح . هذه هي القيمة الاستعارية للصحراء وهذه هي الطاقة الرمزية لهذا الفضاء الذي لا يقدر الإنسان على اجتيازه من دون دليل الذي هو (ميدار) في الرواية ولكنّه القلب في ذات الشخصية المأسوية التي تتوق إلى المنزلة الإنسانية ، تماما كـ (أبي هريرة ) المسعدي و(موسى العسكري ) عند نعيمة.
ــ "عبور الصحراء" هو مرحلة من حياة الإنسان ــ فردا أو جماعة ــ يقطعها عندما يشعر بأنّ العالم تخلّى عنه ، وبأنّه ينفرد وحده بقيمه التي لم يقبلها العالم الذي يحيط به ،وبأنّه لم يعد ذا شأن عند الآخرين إذاك يشرع الإنسان في تجريب قدراته وكفاءاته من جديد ، وفي اختبار نفسه بمقاربة جديدة ويبدأ في مراجعة مواقفه في ضوء مقارنات يعقدها بين ما مضى من حياته وما يعيشه من مشاق جديدة (التجربة مع ميدار) ، مثلما يشرع في اكتشاف تجارب أناس آخرين يؤدّي به جميع ذلك إلى بناء سلّم قيم جديدة بعد التسافي مع الحياة الأولى .عبور الصحراء هو بمعنى معيّن نوع من الخلوة بالذات حتى وإن كان الإنسان المعني بها محاطا بأناس آخرين ولكنّهم ليسوا من جنس الناس السابقين في تجربة الحياة الأولى .
ــ وقد تعلّمت "بطلة" رفيقة البحوري " هاجر " من عبورها الصحراء أنّ قيم الثقة والإخلاص في الحبّ والصدق في الخطاب ما زالت قائمة في الإنسان ، وأنّ افتقاد بعض القيم الأصيلة في عالم سابق موبوء لا يعني امّحاء هذه القيم من الإنسانية عموما . تعلّمت " هاجر " أنّ الغدر صفة عارضة ، وأنّ الوفاء خصلة راسخة في النفس البشرية ، مثلما تعلّمت أنّ الفشل في الحبّ لا يعني أنّ الحبّ لم يعد موجودا . تعلّمت " هاجر " هذا وأدركت في نفس الوقت أنّ عبور الصحراء ليس خاصّا بها ، وإنّما هو تجربة في الحياة تحصل للإنسان أيّ إنسان من دون ميز مثلما وقع ذلك مع " ميدار " دليلها في الصحراء .
ــ عبور الصحراء لحظة تقويمية في الحياة تجعل الإنسان يؤمن بأنّ الحياة ليست ثابتة ، وأنّ سمة التغيّر هي السمة التي تطبع الحياة .انتهت (هاجر) إلى أنّ عبور الصحراء نوع من التطهّر يسمح للإنسان بالارتقاء بوعيه عند النظر في أشياء الحياة من جديد ويفضي بصاحب التجربة إلى فضاء التفاؤل والأمل والإيمان بالذات .لذلك لا غرابة أن تخرج " البطلة " من مأساتها بروح انتصارية تنتقل بها من الهزيمة إلى فضاء الملحمة والصراع من جديد .
ــ انطلاقا من تجربة "عبور الصحراء" صارت الأسئلة تتناسل حول عدّة قضايا نسوية وفكرية واجتماعية من قبيل ما نستخلصه من خطاب " البطلة " :
قضيّة أولى:
+ من هي الأمّ الحقيقيّة لأيّ مولود جديد ؟ هل هي المرأة التي حملت بالجنين وعانت آلام الولادة (هاجر) ؟ أم أنّ الأمّ الحقيقية هي التي تولّت تربية الطفل ورعته الرعاية الاجتماعية المطلوبة إن قليلا أو كثيرا ( لونا ، مريم ، رانية ) ؟ بعبارة أخرى ، هل الأمومة شأن طبيعي وغريزيّ أم وظيفة اجتماعيّة ؟ هل الأمومة من فعل البويضة أم من أثر الولادة (الأمّ الفاضلة مع الأنوار) أم من استتباعات الإرادة ؟
+ من هو الأب الحقيقيّ لأيّ مولود جديد ؟ هل هو الرجل الذي كان سببا بيولوجيّا في ميلاده (وجيه) أم هو الرجل الذي رعى ذلك المولود وقام بما تقتضيه تربيته إن قليلا أو كثيرا (مراد) ؟
ـــ الذي جعل هذه الأسئلة تطرح لأنّ الجواب عنها ليس بديهيا كما يظنّ البعض .هو أنّ الكاتبة أسندت للطفل موضوع الرواية ثلاثة أسماء (إهاب) كما سمّاه أبوه و( وحيد) كما سمّته أمّه و(أمان) كما سمّاه صديق العائلة (مراد) هذا بالرغم من أنّه لا اسم لهذا المولود في المستشفى حيث وُلد وحيث تخلّت عته أمّه (هاجر) مثلما جعلت الكاتبة للطفل أكثر من أمّ اجتماعيّة ( لونا ، ومريم ، ورانية ) فضلا عن "هاجر " وأكثر من أب مثل (مراد) فضلا عن "وجيه "
+ كيف يمكن للمجتمع أن يتعامل مع العائلة ذات العائل الواحد La famille monoparentale ؟ وهل يحقّ للمجتمع أن يُقدّم " إمبراطورية البطن " على التبنّي والحال أنّ الكثير من الآباء البيولوجيين يتخلّون عن مسؤولياتهم إزاء مواليدهم ؟
ـــ يبدو أنّ الكاتبة أرادت أن تنتهي إلى أنّ تربية الطفل سواء كان طفلا بيولوجيا أوطفلا بالتبنّي أو طفلا ثمرة زراعة تعود دائما إلى المرأة ، مع إقرار لا يخفى بأنّ المولود وإن كان ثمرة زواج وليس ثمرة أمومة طبيعية منفردة فإنّ الكاتبة ذهبت إلى أنّ الطفولة يمكن أن تنتعش مع أمومة غريزية وأبوّة بالتبنّي ويمكن للعائلة أن تكون متماسكة بفضل الحبّ الذي يُعتبر اسمنت العلاقة بين أعضاء هذه العائلة .
القضيّة الثانية :
القضيّة الكبرى الثانية التي أثارتها الكاتبة في هذه الرواية هي قضيّة المرأة في المجتمع من خلال الأسئلة المستخلصة التالية :
+ لماذا لا يكون الحديث في تاريخ المرأة إلا كتاريخ لاضطهادها ؟ لماذا لا تستطيع المرأة أن تحبّ إلا في خضمّ الألم وفي عذابات الصراع مع الرجل أيّا كان هذا الرجل ؟
+ لماذا تجبر المرأة الجميلة على الصمت (الجازية ) في الرواية ؟ لماذا تحرم المرأة من التعبير عن جمالها بحرية ؟ لماذا تُمنع المرأة من الاحتفال بجسدها ؟
+ لماذا لا يتحدّث خطاب الحبّ إلا عن الخيانة أو المغالطة أو المنافسة ؟ متى نستطيع أن نقول عن علاقة حبّ إنها علاقة ناجحة ؟ ما هي العلاقة بين الحبّ كأنماط نفسية وبين إيقاعات المعيش اليومي ؟
ــ التقت تجربة (هاجر) بتجربة (رفيقة) بحثا عن الذات وعن الحكمة وعن القيمة الإنسانيّة التي لا يكون الإنسان إنسانا إلا بها ولا شيء غيرها . ــ ومثلما عاشت (هاجر) تجربة " عبور الصحراء " كاستعارة للقلب، عاشت البحوري تجربة الصحراء كاستعارة أدبيّة أبدعت في وصفها لغة وأسلوبا وصورا ومجازات ،طابقت بها بين الشكل والمضمون فنأت الكاتبة بنفسها عن أقانيم المدارس الفنّية الكلاسيكية مثلما نأت (هاجر) عن إكراهات الواقع المادي المعيش.كان مطلب كلّ من (هاجر) ورفيقة البحوري هو الحرّية ، الحرية مقترنة إلى شسوع الصحراء والتحرك فيها من دون قيد عشقا للعدم الصحراوي ، والحرية مقترنة إلى فضاءات العبارة الخصبة والإنشاء الرفيع في سيولة أخّاذة وبعيدا عن كلّ ضروب التلعثم . هذا وليس للقارئ أن يبحث كثيرا عن مكوّنات السرد الكلاسيكي وعن مقتضيات الواقعية ومنطقها السببي لأنّ الكاتبة علّقت كلّ ذلك باشتراطات" تجربة الهذيان " والتذكّر وتوارد الكوابيس ومجاهدة النفس وهو من الأمور المألوفة في الكتابة عن الصحراء كالذي نجده عند (أندريه شديد) و(جون لاكاريار).
هكذا كتبت رفيقة البحوري للحرّية ولنفسها وللمرأة وللطفل خاصّة باعتباره أكبر ضحايا الصمت الاجتماعي فكانت روايتها قطعة فنّية ذات منزع إنسانويّ تطمح إلى استرجاع الكرامة الإنسانية باعتبارها قاعدة الحقوق الإنسانية جميعا .
ابراهيم بن صالح
غرّة ماي 2023