بمناسبة ذكرى رحيل الشاعر الكبير العملاق نزار قباني والذي يصادف اليوم أقدم هذه المقالة عنه
?نزار قباني
فارس الغزل
يصادف اليوم الواقع في الثلاثين من نيسان مرورخمسة وعشرين عاما مضت على رحيل الشاعر الكبير نزار قباني الذي وافته المنية في 30 أبريل 1998
في هذه السطور القليلة نتذكر معا فارس الكلمة ورائد القصيدة ومبدع الجمال إنها كلمات بسيطة متواضعة في حق شاعر عملاقٍ كان لي شرف رؤيته في دمشق قبل رحيله بحوالي عشر سنوات فانطبعت صورته في الخيال وارتسمت هامته الشعرية في المشاعر والوجدان فإن غيبه الموت فالكلمة تبقى حية أبداً لا تموت ولا يدركها الفناء.
لملم أوراقه ففاح عبق الياسمين الدمشقي الذي كان يعشقه من بين طيات سطور القصائد التي نظمها.. واختار أن يكتب كلماته الأخيرة إلى الشام التي أرادها "متكئة على صدر جبل قاسيون حيث يسكن الصفصاف والمشمش والخوخ".
إنها دمشق التي أحبها ونقل بياض یاسمینها وعبق تفاحها وازهارها إلى كلِّ زاوية من زوايا الأرض وحتى في لحظات حزنه وألمه كان يصرخ متوجعاً يناجيها يستغيث بها ويناديها:
"یا شام إن جراحي لا ضفاف لها فامسحي عن جبيني الحزن والتعبا" همس لها في إحدى الليالي يغازلها: "هل أرحل عنك وقصتنا أحلى من عودة نيسان".
لكن نيسان آبى أن يفارقنا من غير أن يأخذه بصحبته فيغيب عن ربيعنا شذاه الفواح رحل فارس الشعر وشاعر الكلمة مات نزار فصمتت الأوتار وماتت القصيدة وحينها:
"بقيت السفن في المرفأ باكية تتمزق فوق الخلجان"
قال إنه مرساة لا ترسو لكن هذه المرة مرغماً يرسو.. ترى أنهكه رقيق الغزل:
"من ألف عام وأنا مبحرٌ
ولم أصل ولم يصل زورقي
يا مرفأ الفيروز
يا متعباً سفينتي
لابد أن نلتقي".
أتعبه العمر وأضناه الترحال فطمع في زمن ارتياح
"سأرتاح
لم يك معنی وجودي فضولاً
ولا كان عمري سُدى
فما مات من في الزمان... أحب
ولا مات من غردا"
نزار... يا حبة نارنج... يا اطواق الفل يا توتة شهية الثمار.. يا شموخ قاسيون يا زهرة ورد سرمدية الشذى.
نزار الانسان.. حتى القلوب ينهكها الهوى ويشقيها الغرام لكنها تبقى بالحب تنبض:
"انا ألف أحبك
فابتعدي.. عني
عن ناري ودخاني..
فانا لا أملك في الدنيا..
إلا عينيك واحزاني.."
نزار حين رحل عنا انتحبت القصيدة.. وحين غاب ناحت أشعار الغزل اليتيمة نزار الذي كان يهتف في ليلة حزنٍ كئيبة:
"لا أعرف في الأرض مكاني..
ضيعني دربي..
ضيعني اسمي..
ضيعني عنواني..
تاريخ مالي تاريخ..
إني نسيان النسيان"
بخجلٍ أو من غير خجلٍ يعيد طرح الأسئلة الملحة:
" شرقنا الباحث عن كل بطولة
في أبي زيد الهلالي
عن شرقنا المجترِّ
تاريخاً واحلاماً كسولة
وخرافات خوالي
عن الملايين التي لا تلتقي
بالخبز إلا في الخيال
والتي تسكن في الليل
بيوتاً من سعال
أبداً ما عرفت شكل الدواء"
حين يجئ يوم الوداع نكتشف أن دُنيانا صارت أخرى.. وتدور في الأعماق أسئلة شتَّى.. نحن.. نتوق.. نمني النفس.. لكن عبثاً ننتظر عودة:
"لقد كان الوعد أن تأتي شتاءً
لقد رحل الشتاء
ومضى الربيع
وأقفرت الدُّروب
فلا حكايا تطرزها
ولا ثوب بديع"
في البعيد يتراءى كطيفٍ هناك يسير.. كغيمة يطير.. يعبر كل المسافات حتى قبل أن تدركه العيون.. نسمع همساته.. نراه على شكل الرسوم في كل قصيدة تارةً كشظايا البلّور المكسور تجمعه إمرأة وتارةً نراه عاشقاً يجلس عند قارئة فنجان تبحث له عن حبيبة قلبٍ ليس لها أي أرضٍ أوطنٍ أو عنوان. نراه مع جريدته أو لفافة تبغه.. نراه في غضبه.. في حزنه.. في أفراحه.. لكن في كلِّ الصُّور لا نرى فيه غير الفنان الباقي في الوجدان.. شاعر الحب: إن غاب الجسد تبقى الكلمة الأمضى من كل السيوف تعانق طيف الخلود في كلِّ زمان.
جورج عازار - ستوكهولم