أيامه الاخيرة فى السجن كانت جحيماً لا يطاق .. هجرته زوجته وهو مسجون .. بعد خروجه كادت الوحدة تقتله .. كان في شوارع العاصمة .. غريباً يائساً .. لم يجد نفسه فيها ..
حالته المادية كانت سيئة للغاية .. لا تساعده على دفع إيجار شقته الضيقة الصغيرة .. قرر أن يتركها ويبحث عن غرفة صغيرة خارج المدينة يقدر على دفع كلفتها ..
لقد كان فيما مضي ناشطاً سياسياً .. يطالب بالعدالة الإجتماعية وبحقوق الفقراء والمعدمين .. لقد افنى حياته وزهرة شبابه مطالباً بحقوقهم ..لكنه الآن بعد خروجه من السجن صار أكثر بؤساً منهم ..
بعد بحث طويل عثر على مبتغاه .. منزل شعبي مؤلف من غرفة صغيرة، يبعد عن المدينة مسافة ساعتين سيراً على الأقدام ..
كتب قديمة، ملابس بالية..كانت كل ما يملك ..
قبالة المنزل بنيت بقالة صغيرة من بقايا الاخشاب والتنك المهترئ .. وإلى يسارها كوخ لبيع الخضار ..
كان البائعان يشتكيان من قلة عدد الزبائن فى المنطقة ..ومن فقرهم المدقع ..
توطدت عري الصداقة بينه وبينهم ..
بعد فترة قصيرة من استقراره في مسكنه الشعبي حضر إلى الحي بائع الكعك وبائع الذرة .. ثم بائع حلوى الغريبه ..ثم بائع المياة الغازية وأخيراً الاسكافي .. واستقروا جميعاً مع عائلاتهم فى الحي ..
تحول المكان بمرور الوقت الى سوق تجاري بسيط .. بدأ عامل النظافة يكنس الشوارع .. وكثر الباعة المتجولون، وشيد هناك مقهى ..
كان يشعر بالسعادة الغامرة لهذا الجو الرحب الباعث للفرح والبهجة .. لكنه مع الأسف ما زال عاطلاً عن العمل .. ولم يبق امامه سوى الاستدانة من أصدقائه .. لكنهم للأسف جميعاً مفلسون ..
عرض عليه أحد معارفه العودة إلى المدينة والسكن معه في غرفة واحدة مجاناً .. اعجبته الفكرة كثيراً .. لكن يستحيل عليه إخلاء منزله .. فهو مدين للبقال وبائع الخضار وآخرين ..
وفي ليلة من الليالي وبينما هو يفكر فى مخرج لما هو فيه .. إذا بالباب يقرع ..
كان الحاضرون البقال وبائع الخضار وصاحب المقهى ..
أعتذر لهم أنه لا يملك شئ ليقدمه لهم ..
فقالوا له:
لا بأس فقد احضرنا معنا الشاي والسكر ..
لقد كان يعتقد أنهم حضروا للمطالبة بديونهم ..
قالوا له:
لقد سمعنا أنك تنوي أن تغادر ..
قال لهم اطمئنوا لن أغادر المنزل قبل أن ادفع لكم ديونكم ..
قالوا له :
عيب يا سيد .. ديون ماذا .. وهل بيننا ديون .. هل طالبناك بشئ ..؟
نحن نعرف ما فعلت من أجل الفقراء والمساكين .. لقد حضرنا لمنزلك لنطلب منك البقاء وعدم الإنتقال .. فأنت رجل بركة .. ومنذ أتيت لهذا الحي والحركة التجارية في ازدياد مستمر .. ونحن من سيدفع لك ايجارك وأيضاً سندفع لك أجرة لكي تبقي .. فأنت كما قلنا لك رجل بركة وأي بركة ..!
شكرهم على عرضهم .. واعتذر عن قبوله .. لكنهم اصروا عليه ..
كان على وشك أن يجهش بالبكاء .. ثمة تغيير في هذا البلد يحدث .. وكأن صحوة بدأت توقظ الناس من سباتهم .. فهو لم يعمل مع رفاقه كل تلك السنين لأمور تافهة .. وهؤلاء الأشخاص الواقفون أمامه كانوا يشيحون بوجوههم عنه ويحتقرونه فيما مضي ..!
أدامكم الله .. شكراً جزيل الشكر .. ولكن اسمحوا لي فأنا لا يمكن أن اقبل معونتكم ..!
عرضوا عليه أن يستئجروا له منزلاً افضل .. وأن يضعوا خادماً يخدمه .. وأن يبعثوا له بالطعام كل يوم مجاناً ..
لكنه اصر على الرفض ..
حينها .. نظر الثلاثة في وجوه بعضهم وقرروا أنه لابد من إخباره بالحقيقة ..
اسمع يا أستاذنا الكبير ..أدامك الله لنا ذخراً وعزاً .. عندما حضرت إلى حينا بدأت الشرطة السرية تجوب ازقته بمظاهر متعددة (زبال، ماسح احذية الخ).. لمراقبتك ووضعك باستمرار تحت انظارهم .. وعلى هؤلاء الشرطة جاءوا شرطة آخرون لمراقبتهم .. وعلى الآخرون جاء آخرون لمراقبتهم .. حتى استقر اغلبهم في هذا الحي ..فازدهرت تجارتنا .. وأصبحت حالتنا المادية ممتازة .. فإذا انتقلت أنت من هنا ستعود المنطقة إلى حالها من الفقر والعوز لأن جميع أفراد الشرطة سيرحلون ليقتفوا أثرك .. فلا ترحل الله يخليك يا سيدنا لا ترحل ..
وأجهشوا بالبكاء .. وأجهش هو معهم بالبكاء .. ولكن لأمر آخر ...
المراقب
عزيز نيسين