أنايس نن حول الكتابة ومستقبل الرواية وأهمية كتابة المذكرات: مقتطفات نادرة من 1947
بقلم أناييس نن
- ترجمة منال الندابي
- 09/04/2019
“إنها تلك اللحظة من التأزّم العاطفي التي يبدأ فيها البشر في الكشف عن ذواتهم بدقةٍ ورقة”
في ديسمبر من عام 1946، قدّمت أناييس نن محاضرة حول الكتابة في دارت ماوث بالمملكة المُتحدة وقد لاقت نجاحًا كبيرًا في تلك الأوساط، ما دفعها في الصيف التالي إلى إصدار كتابها الصغير “حول الكتابة” والذي قامت بطباعته في دار النشر والطباعة التي أسستها عام 1942.
في كتابها “حول الكتابة” نجد تأملات حول ما تعلّمته من كتابة المذكرات منذ سن الحادية عشر وكيف أثّر ذلك على أسلوبها الكتابي، إذ تمت طباعة مذكراتها الشهيرة في طبعةٍ خاصة من 1000 نسخة وقد تم عرض 750 منها فقط للبيع. وأجد نفسي محظوظة بأن تمكّنت من الحصول على واحدة من هذه المذكرات الناجية لنفصّل جوهرها في هذا المقال.
في زمن الإنتاج الضخم للأعمال الأدبية وتعايشها مع أشكال تجريبية مُستقلّة من ذات الصنف، تأخذنا نن في تأملات مؤلمة وأبدية متلائمة مع أوضاعنا الأدبية الحالية، وموضع الروائي المُعاصر من كل ذلك:
“لن نتمكّن من أن نعي الهدف مما يدور حولنا طالما نرفض أن نفك الحيرة التي تدور بدواخلنا. لن نتمكّن من أن نربط بين الأحداث وأن نتحيّز لأطراف وأن نُحلّل تاريخيًا، وبالتالي سنعجز عن اتخاذ أي فعل أو قرار. إن انهماك الروائي المُعاصر بتشوهاتنا الداخلية السيكولوجية كبشر لم يُولد من حُب مرضي لكل ما هو مخيف وغير طبيعي بل يتأتّى من معرفة صادقة بأن هذا هو واقعنا الجديد.”
[…]
“كالفيزيائي المُعاصر، على الروائي أن يواجه حقيقة بأن هذا هو الواقع السيكولوجي اليوم وأن استكشافه والتعامل معه يتحقق فقط في حالات من الضغط الجوي العالي والحرارة والسُرعة، كما هو الحال لأبعاد الزمان والمكان التي في ضوئها تبدو الأشكال التقليدية للرواية وقوالبها العتيقة غير دقيقة البتة.
ولهذا السبب كسر جيمس جويس الشكل القديم للرواية وترك المجال لقريحته الكتابية أن تثور وتتفجّر كيفما شاءت بإبداع واتصالٍ خلّاق.
إن أغلب الروايات اليوم لا تتسّم بالإبداع الكافي وذلك لأنها لا تعكس تجارب الناس، بل تتحدّث عن خوف الناس من التجارب، إنها تعكس الأوجه الكثيرة واللامتناهية للتهرّب.
وتُكرّر نن مفهومها حول كون الانفعالية هي أحد الأركان الأساسية للإبداع:
“لكي يكتمل فعل الكتابة في الرواية يجب أن تصل التجربة إلى النضج الكامل. إن الروايات التي تُسهم في ضمور عواطفنا تُعمّق من جهلنا. إن كُل ما نكتشفه بدون اتصال عاطفي لا يملك القوة لكيّ يُغيّر من رؤيتنا. والتملّص المُستمر من التجارب العاطفية والانفعالية يخلق تلك الحالة من عدم النضج والتي تجعلنا نقابل تجارب الحياة بصدمات نفسية مستمرة وهو ما يجعل الإنسان غير قادر على استمداد القوة ولا التطوّر، وكل ما يستمدّه هو الاضطراب العصبي.”
وتتحدّث نن عن تجربتها في كتابة المذكرّات والتي تُحاكي إيمان فيرجينا وولف بالفوائد الإبداعية لكتابة المذكرات:
“إنها تلك اللحظة حينما كنت أكتب مذكراتي التي أدركتُ فيها كيفية اقتناص اللحظات الحيّة.
إن كتابة المذكرات هو ما ساعدني على اكتشاف بعض العناصر الحيوية للكتابة.
حينما أتحدّث عن العلاقة بين مذكراتي والكتابة، فإن هدفي ليس أن أُعمم بالنصح حول فوائد وقيمة كتابة اليوميات أو أن أدفع الآخرين لفعل ذلك، بل في الواقع أن أستخرج من هذه العادة اكتشافات تُسهّل علينا عملية النقل إلى أشكال الكتابة المختلفة.
من بين جُل ما اكتشفت من فعل كتابة المذكرات كان عُنصر العفوية والبساطة في الكتابة، وقد خلصتُ إلى أن هذه الصفات نشأت من حريتي في الاختيار، ففي المذكرات أقوم بكتابة ما يُثير إعجابي وأشعر به بصدقٍ ودافعية، وقد وجدتُ بأن هذا الاتقاد وهذه الحماسة جعلت من كل ما أكتبه في أعمالي ضاجًا وحيوي. إن الارتجال والربط الحُر، والخضوع للمزاج الطاغي، والاندفاع، كل هذه العناصر جعلتني أسيح في بحرٍ بلا انتهاء من الصور والأوصاف والرسومات الانطباعية.
هنالك شيءٌ يُميّز المذكرات، وهي أنها آنية، دافئة، قريبة من الحاضر، ومكتوبة في حرارة اللحظة، ومن قلب معمعة الشعور والعاطفة، وهو ما يزيح السِتار عن القدرة على إعادة تشكيل المُدركات والأحاسيس، وليس مجرد إعادة الذكريات أو المنظور النقدي للفرد.
تنسج المذكرات شبكة شاسعة تتشعّب فيها طرق الماضي والحاضر، مخبأةً بذكاء الانفعالات وردود الفعل، ونستطيع أن نرى من خلالها الأنماط المتشابهة والأفكار التي تصنع فردًا وذاتًا واحدة. إنها حكاية بلا بداية ولا نهاية، تُطوّق كافة تداعياتها وما يرتبط بها، كأنها الترياق لتشتت وتنافر الإنسان المُعاصر، وإذا ما أمعنت النظر سترى الأنماط تتلاقى مٌكوّنةً مشهد بانورامي يصف تلك الشخصية بدقة.
ولكن مفهومها الأعظم حول كتابة المذكرات يتعلّق بالطبيعة البشرية أكثر من الكتابة:
” إنها تلك اللحظة من التأزّم العاطفي التي يبدأ فيها البشر في الكشف عن ذواتهم بدقةٍ ورقة. إن لحظات الانفعالية المتصاعدة هي لحظات اكتشاف الحقيقة وسقوط الأقنعة، حيث تطفو على السطح النفس الحقيقية، مُجرّدة من أدوارها المُزيّفة، ثائرةً على واقعها وهويتها المُدّعاة. وفي لحظات الشغف المُلتهبة تظهر كمالية الشخص ومُجمل شخصيته.”
ومن خلال تجربتها في كتابة المذكرات، تتحدّث نن عن مبدأ أشار إليه راي برادبيري وهو أن الفكرة تتدفّق من العقل الحدسي مُجرّدة خامة، أما شكلها المُحسّن والمزخرف فهو نتاج استخدام الفكِر في مرحلةٍ لاحقة، وتقول نن في هذا السياق:
“للوصول إلى المثالية في الكتابة مع الاحتفاظ بعفوية النص وطبيعته الأصيلة، علينا أن نكتب ونكتب ونكتب. لنتمكّن من الكتابة برشاقة وخفة، علينا أن نتدرّب كما يتدرّب عازف البيانو، لا أن نُعدّل ونُحرّر مرةً بعد مرة، أن نحاول ونكرّر المحاولة إلى أن نتمكّن من القبض على اللحظة بأيدينا. إن التصحيح المفرط قد يقودنا إلى الرتابة، بينما إعادة الكتابة ومحاولة إيصال ما نريد مرةً بعد مرة هو السبيل لقتل الرتابة، ولهذا فإن الكتابة وإعادة الكتابة تمنحنا ذلك الحِس بالعفوية الذي يتأتّى بالتكرار والممارسة المُستمرة.
“إننا كبشر وبشكلٍ طبيعي نقاوم الحقيقة ونبنّي حصون منيعة تُبقينا بعيدًا عنها مُرتاحين في هذا الجهل اللذيذ للحقيقة وتداعياتها، وباستخدام الرموز نستطيع أن نُولّد طاقة ديناميكية تصل إلى مشاعر الآخرين وتُطيح بحصونهم الوهمية.”
وحول قوة القصص الشعبية والحكايات الخيالية، تعود نن إلى الإشارة إلى الدور الكبير الذي تلعبه الحسية في صناعة الفنون، والتعايش بين الشعور والمنطق والذي يتحقق فقط إن كان الكاتب أو الفنان متعايش مع حسّه إلى أقصى الحدود، ليفهم وأخيرًا النمط الخفّي في هذه الصنعة:
“هنالك تركيب أصيل في ذهننا اللاواعي يُمكّننا من إدراك حبكة وشكل ونمط الرواية المُستقبلية إذا ما استطعنا تعقّبه واستكشافه، ففي المتاهات الفوضوية للاوعي تكمن حتمية تتسم بالمنطق والترابط كالتي نجدها في الدراما الكلاسيكية. وعلى ضوء هذا المنطق الجديد، يتم اقتباس الشكل من المعنى والذي بدوره يُولد من الفكرة الأساسية. يُخلّق ويتشكّل كما تم خُلقت الأرض، بسلسلة من التشنجات والانفجارات التي تُسببها اضطرابات جيولوجية.”