ادراك
Perception - Perception
الإدراك
الإدراك perception هو اختبار المحيط مباشرة عن طريق الحواس، أي إنه العملية التي يختبر بها المرء محيطه المباشر. وتكون نتيجة هذه العملية تمييز ألوان مثلاً أو روائح أو أصوات أو أشكال ثابتة في المكان أو متحركة. ومن الممكن القول إن الإدراك يشير إلى العملية التي تُترجَم بها الإثارة الحسية التي تتعرض لها الحواس إلى خبرة منظمة، أو هو، كما يرد في تعابير علم النفس التجريبي، استجابة الفرد لإثارة خارجية.
وقد عُدت الاستجابة الإدراكية مقدمة ضرورية لتلك الأفعال اللاحقة، أي للأنماط السلوكية التي تكيف بها العضوية ذاتها أو محيطها بحيث تزيد من فرصها في البقاء على قيد الحياة. وهكذا يكون الإدراك تكيفاً في جوهره.
أي إنه الخطوة الأولى في السلوك الضابط الذي يوفق بين الفرد والعالم الخارجي، ويدخل فيه جسم الفرد المدرك، وحاجات الفرد البيولوجية والاجتماعية.
الإدراك والعالم الفيزيائي
يثير المنظِّر العام في الإدراك والعالم الفيزيائي عدة موضوعات تعدّ مقدمة في دراسة الإدراك وهي الموضوعات الآتية:
الخلفية التاريخية للإدراك: كان الفكر المنظم حول الإدراك ينتمي، تاريخياً، إلى قطاع الفلسفة. وقد ظلت بعض المسائل التي بحثها الفلاسفة في موضوع الإدراك من الهموم الشائعة في الفكر المعاصر. ومع أن الإدراك بدأ شاغلاً فلسفياً، فإن البحث فيه نما نمواً خاصاً في علم النفس.
وقد نشأ انشغال الفلسفة بالإدراك عن الاهتمامات المتصلة بنظرية المعرفة. فتساءل منظرو المعرفة عن حقيقة وجود عالم فيزيائي مستقل عن خبرة الإنسان وعن سبل الوصول إلى معرفة خصائصه إذا ثبت وجوده المستقل، وتساءلوا كذلك: أهناك أفكار فطرية أم إن كل خبرة تتكون بالضرورة من اتصال بالعالم الخارجي تتوسطه الحواس؟ وقد تجاوز علم النفس مثل هذه الأسئلة ليركز على مسائل يستطيع معالجتها بمناهجه الخاصة، إلا أنه ما زالت هناك رواسب لهذه المشاغل الفلسفية، وما زال هناك باحثون يعنون، مثلاً، بالإسهامات النسبية للعوامل الفطرية والعوامل المتعلَّمة في العملية الإدراكية.
إن معظم الباحثين العلميين في الإدراك يسلّمون اليوم بحقيقة وجود العالم الفيزيائي الظاهر كما هو موصوف في فروع الفيزياء المعنية بالطاقة، وتكون المسائل التي يتأملونها هي تلك المتصلة بعملية تشكل المدركات من التفاعل بين الطاقة الفيزيائية، كالضوء مثلاً، والعضوية التي تدرك، وبمدى التطابق بين المدركات والأشياء الفيزيائية التي تقابلها.
صدق المدركات: إن العبارة الأخيرة السابقة المتصلة بالتطابق بين المدركات والأشياء تطرح مسألة صدق المدركات، أي مدى توافق محتواها مع العالم الخارجي. لقد جرت العادة، فيما يتصل بالإدراك البصري، على اعتبار المدركات واقعة على خط متصل تقع الصورة الإيهامية في إحدى نهايتيه، والصورة الواقعية المماثلة للواقع في نهايته الأخرى. وبذلك تكون الهلوسات والأحلام والأوهام والإدراكات الخاطئة والناقصة درجات من الإدراك على هذا الخط. ومن طبيعة الاستجابة الإدراكية هذه أن تكون المدركات الواقعة في النهاية الثانية لهذا الخط المستمر في ندرة تلك الواقعة في النهاية الأولى (الصورة الإيهامية) إن لم تكن أندر منها. فالإدراك غير معني بتصور مضبوط وكامل في الوعي لما هو خارج الفرد بقدر ما هو معني بتقديم عالم بصري أو سمعي أو لمسي أو شمي أو ذوقي يسهل عملية التكيف في برهة الإدراك. إنه ليس تصوراً سلبياً لما هو في العالم الخارجي، بل هو جهد فيه اصطفاء من درجة عالية يسعى نحو معنى يحمل فيه الفرد إلى المعلومات التي توفرها له حواسه بنية معرفية توجهها وتحددها حاجاته واتجاهاته وخبراته السابقة وتكوينه البيولوجي.
الإحساس والإدراك: قبل الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس التفريق بين الإدراك والإحساس انطلاقاً من أسس عقلانية. ولكن البرهان الخبري على كون الإدراك مختلفاً عن الإحساس حقاً مسألة أخرى. فغالباً ما قيل، مثلاً: «إن الإحساسات بسيطة والمدركات معقدة».
ولكن هل تستطيع الإجراءات التجريبية أن تبرهن على كون البنود أو العناصر في فئة منها «أبسط» مما هي في الأخرى؟ إن الأساس القبلي لهذا التقسيم الأولي غير قابل للبرهان الخبري.
وهناك أساس آخر للتمييز هو المدلول القائل إن الإدراك، خلافاً للإحساس، خاضع لتأثير التعليم. فيمكن أن يقال إن الإحساسات التي يولدها مثير خاص ستكون هي نفسها، المرة بعد الأخرى، إذا استبعدنا التعب والمرض أو أي تغيرات عارضة أخرى في الحساسية، في حين تتوقف المدركات الناجمة عن المثير نفسه، إلى حد بعيد، على ما جرى تعلمه بين المرة والمرة.
وقد اعتمد بعض علماء النفس أساساً آخر في التمييز حين وصفوا المدركات بأنها متصلة نموذجياً بالأشياء الخارجية، في حين عدوا الإحساسات خبرات ذاتية محددة داخلياً.
وهكذا، فإن ألماً بسيطاً في الإصبع يسمى إحساساً. أما إذا كانت السمة البارزة للخبرة هي خبرة شيء مدبب حاد حدة مؤلمة فإن هذه الخبرة ستسمى إدراكاً.
الإدراك بوصفه تركيباً: نسب بعض العلماء التنظيم الظاهر في المدركات إلى التعلم بوصفه مبنياً من ترابطات عارضة بين عناصر تواقتت وتكراراًت في خبرة الشخص المدرك. وألح آخرون، ولا سيما الغشتالتيون Gestalts (علماء نفس «الشكل أو البنية»)، على كون التنظيم الإدراكي متضمناً في الوجوه الفطرية لعمل الدماغ بدلاً من كونه متوقفاً على تركيب العناصر الأبسط في كليات متكاملة عن طريق التعليم.
وقد تبين للباحثين أن حل النزاع يقتضي حرمان العضوية المدركة من كل خبرة حسية، ومن ثم من كل تعلم حسي، والقيام بتقصي ما يبقى سليماً من الوظائف الإدراكية بعد عودة الوظائف الحسية إلى العمل السوي. وتحقق ذلك واقعياً في حالة أشخاص ولدوا عمياناً ثم استعادوا الرؤية إثر عملية جراحية. وقد تبين أن هؤلاء يتمتعون بحساسية سوية للتغيرات في حدة الإضاءة واللون وتبين وجود شيء ما أو غيابه. ولكن ظهر أن هؤلاء أشخاص لا يملكون القدرة المناسبة على تمييز حجم شيء ما من حجم شيء آخر أو على تذكر حجم شيء كان معروضاً منذ قليل. ومس النقص لديهم مثيرات بصرية مهمة اجتماعياً كالوجوه والأشخاص، وقد احتاجوا إلى مدة من الخبرة لتمييز مربع من مثلث، في حين كان عليهم قبل ذلك، أن يعدوا الزوايا لإجراء هذا التمييز.
وقد شملت الدراسات على الحيوان نوعين من التجارب: حرمان بعض الحيوانات من الخبرة البصرية منذ الولادة أو ما يقرب منها، وإغناء المحيط ببعض الخبرات أو إفقاره من بعضها. وتبين من هذه التجارب، بنوعيها، أن الخبرات الإدراكية المبكرة تقوم بدور مهم في النمو الإدراكي،كما يمكن أن تحدث تغيرات في وزن الدماغ. وكانت هذه التجارب أساساً للمعالجات القائمة على إغناء محيط الأطفال المعوقين اجتماعيا ًوثقافياً.
ومن جهة أخرى، بينت الدراسات الجارية على حديثي الولادة من الأطفال أن خبراتهم الإدراكية المبكرة ليست مجرد نقاط لامعة وطنين كما ذكر وليم جيمس W.James وأن ابن اليوم أو اليومين يبدو قادراً على تمييزات بصرية دقيقة. فقد أثبت تسجيل التثبيت البصري في أثناء تحرك العينين وجود تفضيل لمثير على آخر، وهو دليل على التمييز.إن هذه المكتشفات تبدو معاكسة لتلك الناجمة عن دراسات المصابين بإعتام العين الولادي الذين استردوا بصرهم، وهي الدراسات التي تذهب إلى أن التمييز البصري ليس فطرياً. والتفسير الممكن لهذا التناقض هو أن المصابين بإعتام العين الولادي يعانون ما هو أكثر من نقص الخبرة البصرية. ويمكن أن لا تكون الخبرة البصرية المبكرة ضرورية لتوليد النماذج الإدراكية بل للمحافظة عليها وتوطيدها بحيث يمكن لقدرات الطفل الإدراكية الفطرية أن تهبط بتأثير الاضطراب المرضي.