كيف لجامع القصص ألا يضعها في رواية؟
بقلم أيسجول سافاس
- ترجمة إيمان معروف
دأب سيرجي سيرجيفيتش، أيام الجمع، على التقاطنا من أنحاء الحرم الجامعي ودجّنا في شاحنته الصغيرة في طريقه إلى كوخه الخشبي الأبيض عند حافة بحيرة، ذلك الكوخ الجميل ذو الطّنف الصدفي والشرفة المريحة بمقاعدها الهزازة، كأنه خرج للتو من حكاية روسيّة.
وحالما نجتمع في الداخل، سيشعل فوجي وإيلا الفرن، بينما يتجول كلبه اللابرادور الأسود بيننا مبتهجاً، ويتردد صوت ديوكيه، وتعزف زوجة سيرجي سيرجيفيتش التشيلو في قاعة الدراسة.
وسرعان ما يملأ سيرجي سيرجيفيتش كؤوسنا قبل أن يقودنا إلى العمل في تحضير العجينة، وطي البلميني، وصيد الأسماك من البحيرة. وحالما تنتظم الأمور جميعها، يخرج سيرجي إلى الشرفة للتدخين، فإذا تبعه أحدنا، بادره بالسؤال: من أحب أفراد مجموعتنا إلى قلوبكم؟ بمن أنتم مولعون؟
وبعد العشاء، نترك الأطباق على أرضية المطبخ كي تلعقها الكلاب، ونذهب إلى المقصورة الخشبية التي بناها سيرجي سيرجيفيتش خلف المنزل ونطلق عليها اسم البانيا (الحمام باللغة الروسية). فإذا كان مزاج مضيفنا طيباً، فسوف يعزف الأكورديون أو الغيتار، ويتنقّل منتشياً بين ألحان الأغاني الشعبية الروسية. أما نحن فنضع قبعات اللباد المعلقة على الجدران على رؤوسنا، ونتبادل الدخول والخروج من الساونا، ننام على المقاعد الخشبية في غرفة الراحة، أو نخرج إلى الحديقة لنتدحرج فوق الثلج.
كان سيرجي سيرجيفيتش أستاذ اللغة الروسية في ميدلبري، فيرمونت. كان رجلاً ذو شارب كثٍّ ونظارات صغيرة، وخزانته ملوّنة دوماً بالقمصان السميكة والسترات الصوفية. وكان يتحدث اللغات كما لو أنه يلعب بكرات العجين، يمدّها ويطويها، يكسّر الكلمات ويفصلها ويعيد جمعها معاً في تراكيب جديدة. وكثيراً ما تراه في خضم درس تصريفات الفعل يخرج بالصف إلى الخارج، فقط كي يحظى لنفسه بسيجارة. أو يرسل أحدنا في بعض الأحيان، إلى قاعة الطعام ليحضر له كأس مشروب غازي “ماونتن ديو”.
كان يكره معظم ما يتصل بالاشتراكية وكل الأشياء المخادعة، وكان ماهراً في استشعار وجود كلا الشيئين في لحظة. كما يدرك على الفور إن هو أحبّ شخصًا ما، أو أغنية، أو قصيدة، أو لوحة ما، ويقررُّ بشكل أسرع إن كرههم. وكم تمنيت أن أحظى ببصيرته يوماً، علّني أفهم في أقل من برهة ما يجعل الأشياء حقيقية أو تستحق النظر. وأعترف أنني لم آخذ دروساً في الأدب في صفه أبداً لأنني لم أثق يوماً ببراعتي في المحاكمة. كنت أخشى أن أتفوه بكلام أحمق وأخسر مكاني في مجموعة البانيا (الحمام).
ضمّت المجموعة طلاباً من بلغاريا والتشيك وكازخستان إضافة إلى طلاب أتراك. وانضم إليها لاحقاً طلابٌ من إيران والمجر وأوزبكستان وفلسطين ولاتفيا. لقد كانت فترة أسطوريةً في ذلك البيت الأبيض، وتكشَّف الوقت كقصة، حتى أنّه هو نفسه كان موجوداً في تلك القصص. ومع كل اجتماع لنا كانت تزداد ذخيرتنا الفنية غنى وتتنامى قضايانا. فمثلاً، ثمّة حكاية عن فوجي، المكتبيّة الأقدم والأكثر نحافة، والتي كانت تخشى البانيا بعد أن تُركت منسيةً هناك ليلة بأكملها صدفة، وانكمش حجمها إلى النصف صبيحة اليوم التالي. وأيضاً حكاية لقاء سيرجي وديوكيه على متن رحلة جوية من أوروبا إلى الولايات المتحدة، حيث أدى سيرجي سيرجيفيتش خدعة سحرية بواسطة ملكة البستوني. كانت هناك حكايات عن جميع الطلاب الذين التقيناهم في ذلك المكان، ومنح سيرجي سيرجيفيتش لكل منهم لقباً خاصاً.
كان المرء ينال الشرف الأعظم حين يختاره سيرجي ليخضع لأسئلته وتهكّمه، ورغم أنّ معرفته بالأدب كانت شبيهةً بأسلوبه في تحدّث اللغات – سلسة، مرنةً وقابلة للتجسّد- إلا أنه لم يكن متلهفاً للحديث عن الأدب بل سرعان ما ينشغل عنه بحلّ لغزٍ ما، أو بإحدى طرائف طفولتنا البسيطة أو تفاصيل حفلة الحرم الجامعي التي جرت في الليلة الماضية، أو أنه يفقد فجأة الاهتمام بكل شيء.
” ويدرك على الفور إن هو أحبّ شخصًا ما، أو أغنية، أو قصيدة، أو لوحة ما، ويدرك بشكل أسرع إن هو كرهها”.
وقد سألته على سبيل التفاؤل الساذج في إحدى الأمسيات، إن كان يعلم أن نابوكوف لم يكن كاتباً جيداً فحسب، بل عالم حشرات بارع أيضاً.
“هل كان كذلك حقاً؟” أجاب سيرجي سيرجيفيتش.
“هذا مثيرٌ للاهتمام.”
ثم اختفى برهةً ليعود وبصحبته قصيدة بعنوان “في اكتشاف فراشة”، مكتوبة له شخصياً بخط اليد من قبل نابوكوف، وراح يلقيها علينا:
….
تقف فاردةً جناحيها في غفلةٍ من نومها السريع). . .
*
في المرة الأولى التي دعيت فيها إلى البانيا أخبرت سيرجي سيرجيفيتش أنه يشبه جدّي، فبدا غير مسرور من هذه الملاحظة العاطفية، ولم يمنحني الكثير من الاهتمام، رغم أنّ ما قصدته هو أن جدي كان عائلتي بأكملها، وجسّد كلّ الأشخاص الذين مروا في حياتي وأصغيت إلى رواياتهم. كان يتمتع بنفس حبّ الحياة والاستخفاف بها في آن. ونفس الكراهية للأشخاص الذين أخذوا أنفسهم على محمل الجد، ونفس القدرة على المحاكاة الساخرة لهم في غمضة عين.
كان جميع أفراد عائلتي من رواة القصص – صاخبون وذوو شخصيات جذابة، ولكل منهم شخصيته الفريدة، لكن كانوا جميعهم في حالة حوار دائم مع الآخرين ولا يصمتون أبداً، كالشجيرات التي تنحدر من نفس النسب. وكانوا يتشاركون براعة في المراقبة لا ترحم وعيناً تلقط الكوميديا الساخرة عن بعد، دون أي نقص في المواد المتاحة لهم. إنهم عائلة من قطاع الطرق الهاربين والأنسباء المتآمرين، حيث يختال الأعمام شاهرين مسدساتهم، وينتشر الأطفال غير الشرعيين في كل منعطف، وحيث يحترق إرث العائلة مع حرائق بيوت الدعارة كما احترقت خزانة ملابس جدتي المصنوعة من خشب الجوز.
(قبل عدة سنوات ، اتصل بي أخي ليخبرني أنه قرأ رواية تتحدث عن عائلتنا وتدعى “مئة عام من العزلة”).
وكنت أعتقد لفترة طويلة، أن وظيفة الكاتب تشبه وظيفة عالم الأنثوغرافيا وهي بحاجة لجمع أفضل القصص ومن ثمّ كتابتها، مع بعض الالتفافات والبراعة الفنية. ومن هنا، كان لدي الكثير من الأشخاص تحت تصرفي لاستخدامهم في اقتباس الحبكات الروائية وخلق الشخصيات ضمن مشاهد طبيعية فريدة. وسيكون من العار عدم استخدامها لكتابة شيء يزخر بثرواتٍ منحت لي بالجملة. ومع ذلك، راودني شك مزعج أن هذه القصص لا تخصني، فقد كانت عريضةً جدًا وصاخبة، وكنت أشعر حينها أنني لا أنتمي إلى ذلك النمط من رواة القصص الكاريزماتيين.
*
أخبرني سيرغي سيرجيفيتش في إحدى الليالي في حانة ميدلبري، قصة جرت أحداثها في طفولته، عن فتاة غجرية زارت مسقط رأسه مع قافلة السيرك. وكانت البلدة كلها مدعوة كل مساء لمواجهة تحدي الدب الشرس مقابل فرصة الفوز بإناء مليء بالمال. ولكن لسوء الحظ هزم الدب خصومه ليلة إثر ليلة. وإلا أنّ الفتاة الغجرية تجرأت في إحدى الأيام بعد المدرسة، وأطلعت سيرجي على السرّ، إذ همست له: “ما عليك سوى دغدغة خصيتي الدب حتى تجعله لا حول له ولا قوة”. وتابع سيرجي سيرجيفيتش سرد قصته السخيفة بأسلوبه الخطير الساخر المعتاد، متجاهلاً عدم تصديقي.
لقد تطوعَ في ذلك المساء لمصارعة الدب وهزمه شر هزيمةٍ، وعاد بالمال إلى المنزل. وفي صباح اليوم التالي، حضرت الفتاة الغجرية إلى المدرسة بوجهٍ مليء بالكدمات. ويقال أنها ربما لم تأت إلى المدرسة على الإطلاق، وغادرت مع رحيل السيرك عن المدينة.
وأنا لست متأكدةً من صحة الرواية لذا كتبت القصة بالطريقتين.
كنت أملأ دفتر ملاحظاتي بالقصص التي رواها لي سيرجي سيرجيفيتش، إلى جانب قصص الأجداد، والعمات، والأعمام، وكنت أجد دوماً فرصة لاستخدامها لما فيها من فكاهة شيطانية وتقلبات ذكية. إلا أنني في مرحلة ما، اعترفت بعجزي عن جعل هذه القصص قائمة بذاتها – لم يكن لدي موهبة رواة القصص لاستغلالها- لكنني وجدت مكانًا لها داخل ذكريات الشخصيات، كقصص داخل القصص . لكنها ظلّت رغم ذلك مجرد رسوماتٍ كاريكاتيرية خارج حدود المكان، لأنني لم أتمكن من اتخاذ الخطوة لإغداقها بشيء من نفسي.
*
وأرسلت مرةً قصة كتبتها إلى سيرجي سيرجيفيتش،. كتبتها بأسلوبه هو، وكنت آمل بشدة أن تنال إعجابه. إلا أنه لم يعر رسالتي أي اهتمام بل ولم يذكر الأمر أبداً. وكنت أعيد قراءة القصة من وقت لآخر، أقرأها كما تخيلت أن سيرجي سيرجيفيتش قد قرأها، إلى أن قررت أخيراً أن أصرف النظر عنها فقد كانت الشخصيات تتحدث بسخرية واضحة، وما اعتقدت في البداية أنه رؤى عميقة لم يكن أكثر من سخرية مبتذلة. واختتمت الأحداث في نهاية القصة بذكاء فيه الكثير من الغرور والتفاخر، وكأن الخاتمة هدية مبهرجة. لقد تأثرت بفكرة سيرجي سيرجيفيتش وهو يغضّن وجهه بنفورٍ حين يقرأ على الشرفة.
وأثناء زيارتي فيرمونت بعد عدة سنوات، جلست وإياه على شرفة البيت الأبيض، وبعد أن خلد الجميع للنوم. سألني سيرغي سيرجيفيتش إن كنت أذكر القصة القصيرة التي أرسلتها له فيما مضى.
أخبرته أنني أذكر ذلك جيداً.
فأردف قائلاً: “لم أقرأها أبدًا”. “كنتِ صغيرةً جداً، وكنت على يقين من أنها قصة سيئة لا محال”.
وأوضح أنه كان شديد الانفعال والتعنّت حينها، وكان مغرماً بي لدرجة أنه سمح لنفسه بهذا الازعاج البسيط.
*
اتصل بي والدي في الآونة الأخيرة من قرية في جنوب تركيا.
وقال: “ثمة أشخاص هنا حبذا لو تلتقين بهم”. “قد يوفرون لك مادة دسمة تصلح لرواية”.
وأعطاني لمحة عن بعض الشخصيات: شقيقان، فرقتهما سنوات طويلة و مصيران مختلفان بشكل كبير. ها هو يرسم الخطوط العريضة بمهارة ووضوح وكأن خطة الكتاب موضوعة أمام ناظريه بأكملها، وكل ما عليّ هو كتابته فقط. وقال: “ستكون قصة عن الشوق والتضحية”. “وحكاية متوسطية بالفعل. أليس هذا بالضبط نمط الكتاب الذي أردتِ كتابته؟ “
أشعر أحيانا أن راوي القصص الأصيل في عائلتي لا يمكنه تصديق أنني – أنا الخجولة المتحفظة، البطيئة في استيعاب النكات، والمنزوية عن الأجيال والجغرافيا – قررت أن أصبح كاتبةً. وهاهم يغدقون، من باب الإحسان والشعور بالواجب، حبكات روائية وقصص كما يقدمون الزكاة، بغية مساعدتي في محاولاتي الإبداعية الهزيلة. وكنت في كل مرة لا أرتاح قبل سماع ما سيمنحوني إياه، وكلي أمل أن تأتي هذه القصة أخيرًا لإنقاذي ولتخفف عني عبء الغوص في الأعماق بحثاً عن المزيد.
*
وقد أمضيت قبل بضعة أشهر فترة أسبوعين برفقة زوجي في شمال إيطاليا، حيث بدأت بكتابة الفصول الأولى من رواية “حول شخصية رسام. لم أكن أعرف كيف، وما إذا كانت خيوط القصة ستتكشف. كنت أنتظر تحولاً ما، ومتى تعبر كتابتي إلى عالم حقيقي.
أقمنا في منزل يجاور منزل صاحبة الأرض، باولا، وهي مدرّسة ناعمة الكلام عيناها بلون العسل. كنا نجلس للعمل كل صباح في الحديقة، وكانت باولا تمرّ بنا في طريقها إلى العمل واضعة إصبعها إلى شفتيها، أي أنها لن تزعجنا. وفي المساء، عند الرجوع من مسيرتنا في التلال المحيطة وكروم العنب، كنا نجد الكرز والخبز الطازج على أعتاب البيت.
وبعد ظهر أحد الأيام، وبمزيج من الفرنسية والإيطالية أخبرتني باولا أنها رغبت في اطلاعي على قصة المنزل وعائلتها لولا عقبة اللغة. وذكرت أنها حكاية خاصة جداً ولا بدّ من كتابتها.
كان القسم الخاص بنا من المنزل مطلي من الأرض إلى السقف بألوان مائية، عرفنا لاحقاً أن والدة باولا هي من رسمتها. فأخبرت باولا أن الرواية التي بدأتُها، هناك في حديقتها، كانت تدور حول رسام أيضاً وأنني أكتب وأرسم بإيحاء من القصص ثم رسمت بيدي شكل غيوم أو أحلام لأن منزلها أعطاني الكثير من الإلهام. فقد كنت أجسد فكرة الكاتب الذي يستقي من وحي إلهامه. فدقت باولا على صدرها وهزت رأسها. وصاحت: “خسارة، خسارة”. كان تشعر بالعار أنها لم تخبرني بعد قصة عائلتها.
في يومنا الأخير دعتنا باولا إلى منزلها وأشارت إلى لوحة زيتية كئيبة على الجدار الخلفي. كان رسماً لامرأة ذات عيون سوداء داكنة وينساب وشاح من الدانتيل أسفل شعرها وكتفيها.
قالت باولا وهي تلوح بيديها نحو الخلف مشيرة إلى أجيال تعاقبت ومضت: “إنها جدة جدة جدتي”. “زوجة الرسام فرونزه”.
“أنت حفيدة فرونزه؟” صرخت مذهولةً!
أجابت باولا: “نعم”.
وكررت مستاءةً، أنه من العار عليها ألا تروي القصة بأكملها.
وذكرت أنها ما تزال تحتفظ بالوشاح في الطابق العلوي مشيرة بيدها إلى غرفة نومها.
*
يمنحك الناس قصصهم مع اعتقادهم أن الكاتب يجدّ بحثًا عنهم بالتأكيد. وأنّ الكاتب مؤتمنٌ على القصة من قبل أصحابها؛ على أن يرويها بجدارة، وأن يتعامل مع تفاصيلها بكل تعاطف.
*
أمضيت خلال فترة الجامعة فصلًا دراسيًاً كاملاً في روسيا حيث قرأت كتباً يفوق عددها ما قرأته في حياتي كلها –قرأت الكتب التي أحضرتها معي، والكتب التي خلفها الطلاب السابقون، وكتب أصدقائي وكتب أولاد المبشرين في البلدة. كان لدي كتب لوليتا، وديزي ميلر، وساحة واشنطن، والليالي العربية، والعديد من روايات جون غريشام. كانت مذكرتي مليئة بملاحظاتٍ عن المدينة وعن المرأة العجوز التي عشت معها، وكنت أرقب تغير أسلوب ملاحظاتي مع تغير قراءاتي: “نعال مبلل بقشور جذر الشمندر؛ وشعرٌ بلون مربى الراوند؛ والنهر المجمد أسود مثل كتاب مفتوح. ” كانت المجلة عبارة عن خزانة من الأشياء التي تثير الفضول، غنية بالأوصاف الملونة والتفاصيل الفولكلورية، وفهارس الأيقونات، والقصص الخيالية ، والأمثال الشعبية.
لكنها أغفلت الجزء الأكثر أهمية من تلك الأشهر – المضايقات العادية، والملل، والساعات التي أمضيتها وصديقاتي في مشاهدة مقاطع الأغاني في مطعم ماكدونالدز، حيث درسنا فصول الثقافة الخاصة بنا من قبل مدرب أطلقنا عليه اسم الكابتن أوبين. لم يكن أي من هذا ينتمي إلى المجلة التي نشرت فيها تجربتي. ولم تكن تفاصيل الحياة اليومية مع مضيفتي القديمة، التي كانت تريدني أن أجلس معها كل مساء لتروي لي قصصاً عن ماضيها. تحدثت عن زوجها المتوفى والجيران الذين سكنوا المبنى نفسه. ولتلفت انتباهي، روت لي حكاية مترفة أيضاً، عن فيلٍ أخبر صاحبه أنه جائع جدًا. ههما دفعني إلى قضاء المزيد من الوقت في غرفتي، أقرأ المزيد من الكتب هرباً من هجوم القصص.
انتهيت من قراءة آخر كتاب لدي، إلى المنارة، خلال رحلتي في القطار وحيدةً إلى قازان. حيث خنقتني العبرات بعدئذٍ. ليس فقط بسبب مصير السيدة رمزي البائس، وإنما حزناً على نفسي، في مقصورة القطار التي شاركتها مع بعض الجنود وجدة عجوز مع نهاية ذلك اليوم.
قررت بعد ذلك كتابة رواية للصحبة وسيجمع كتابي كل ما جمعته من قصص حتى ذلك الحين، كل الأشياء الجميلة والغريبة التي شهدتها وحدي، وكل ما كتبته في دفتر ملاحظاتي. وكتبت بضع صفحات قبل أن أستسلم، وبمجرد أن أدركت أن مجموعتي لن تصل إلى شيء أكبر من أجزائها. عرفت أنني لا أملك شيئاً يقال حتى الآن.
ومع ذلك، تابعت البحث عن ذاك المكان المراوغ حيث تسكن القصص – قصص ذات ذروة وحبكة مع لمسة من إنسانية مغلفة بروح الدعابة والفكاهة، كقصص رواة القصص الذين عرفتهم. لقد بحثت عن خيالي الخاص، في مكان ما من العالم، على أمل أن ألتقطه وأعيده إليّ، كفراشة نابوكوف المعلقة على لوح، وأجنحتها المفرودة فوق الملصق الأحمر.