عبيد شعر
’Abid al-Shi’r - ’Abid al-Shi’r
عَبيد الشِّعر
مصطلح نقدي، كان الأصمعي أول من أطلق هذه التسمية على زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأضرابهما، ونسبهما إلى التكلف وثقاف الشعر، إذ قال: «ومن الشعراء المتكلف والمطبوع، فالمتكلِّف هو الذي قوَّمَ شعره بالثقاف ونقَّحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهيرٍ والحطيئة» وكان الأصمعي يقول: «زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر؛ لأنهم نقَّحوه، ولم يذهبوا فيه مذاهب المطبوعين. وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المنقَّح، وكان زهير يسمي كُبرَ قصائده الحوليات …».
فالتكلف سمة عبيد الشعر، غير أنه لايريد تكلف إبداع الشعر، فهم مطبوعون طبع الموهبة على قول الشعر، لكن الطبع طبقات وطاقات متفاوته، ومذهب تكلف الشاعر يظهر بعد إبداع أشعارهم، فهم يقومون بتهذيب الأشعار بعد إبداعها، وهي أول سمات التكلف عند الأصمعي، وقد ذهب الجاحظ إلى تهذيب تسمية الأصمعي فجعل شعرهم شعر الصنعة.
ومن آيات شعر مدرسة عبيد الشعر القرب في مستويات أشعار الشاعر في الاستحسان والإجادة، لقول ابن جني حكاية عن الأصمعي صاحب الرؤية النقدية في عبيد الشعر: «وكان الأصمعي يعيب الحطيئة ويتعقبه، فقيل له في ذلك. فقال وجدت شعره كله جيداً فدلني ذلك على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع الذي يرمي الكلام على عواهنه، جيده على رديئه».
فاستواء أشعار الحطيئة في الجودة دله على صنعة الحطيئة لشعره، بمعنى أنه يصلحه بعد إبداعه على خلاف الشاعر المطبوع الذي يدع شعره جيده على رديئه.
ومن صفات عبيد الشعر إطالة زمن تنقيح القصائد وتهذيب أبياتها حتى قال الحطيئة: خير الشعر الحوليّ المُحَكَّك، توكيداً لفكرة الزمن والتهذيب أو تحكيك الشعر بإزالة الزوائد أو الألفاظ الغريبة أو اختيار الأفصح والأمثل مناسبة وملاءمةً للحال والموقف والغرض الشعري.
ولعبيد الشعر موهبة لاتجود في كل حين غير أنهم يبحثون عن الأوقات المناسبة لإبداع كل منهم شعراً، كما يبحثون عن الأماكن التي تحفز قرائحهم على قول الشعر، ويطربون بحضور بواعث الشعر كالرغبة والرهبة والطرب وغير ذلك.
أما انتظار لحظة الإبداع فقد ترقبها سويد بن كراع العكلي، وكان ممن ينقح شعره، إذ قال:
أَبيتُ بأَبوابِ القوافي كأَنَّما
أصادي بها سِرباً منَ الوَحشِ نُزَّعا
أُكَالئُها حَتَّى أُعَرِّسَ بعد ما
يكون سُحيراً أو بُعَيدُ فأهجَعا
إذا خِفْتُ أن تُروى عليَّ رَدَدْتُها
وراءَ التراقي خشيةً أن تطَلَّعا
فمذهبه في الإبداع اقتناص اللحظة المناسبة التي تأتي سَحَراً أو بُعيد السَّحَر، وإذا جاء الإبداع ضعيفاً، وخشي نقد النقاد ردها خلف التراقي من غير أن يخرجها للناس، فكأنه أحس بوجود القصيدة قبل خروجها من عالم النفس، وأدرك ضعفها، فردها إلى عالم النفس، ولم يجعل لها مخرجاً إلى عالم الحس.
وقال الحطيئة مرة إنه هو أشعر الناس إذا طمع بالعطاء، وهذا حافز خارجي للشعر، وحسبك ما رواه الأصمعي بقوله: كفاك من الشعراء أربعة: «امرؤ القيس إذا ركب (الطَّرديات) والنابغة إذا رهَّب (الاعتذاريات) وزهير إذا رغَّب (في المديح) والأعشى إذا طرب (للمرأة أو الخمرة)» وأضاف بعضهم: «وعنترة إذا كلِب (الحماسة للحب أو الحرب)».
ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن عدداً من الشعراء من أصحاب هذا المذهب الشعري يمكن أن يُطلق عليهم اسم المدرسة الأوسية نسبةً إلى أوس بن حجر، وهذا غير دقيق.
صحيح أن الرواية تكسب الشاعر دربة لكن اكتساب الدربة أمر مختلف عن مذهب التنقيح الذي يلتزمه الشاعر، فإنك لاتكاد تجد شاعراً مطبوعاً أو متكلفاً إلا وهو يروي شعر شاعر تقدمه. ومن هنا يجب الفصل بين مذهب التنقيح ورواية الشعر التي تؤهل الشاعر للفحولة على مذاهب بعض النقاد.
مما تقدم يمكن القول: إن مدرسة عبيد الشعر هي مدرسة الشعراء الذين أصلحوا خلل الموهبة بالعلم أو بقوة الحافز.
عبد الكريم محمد حسين
’Abid al-Shi’r - ’Abid al-Shi’r
عَبيد الشِّعر
مصطلح نقدي، كان الأصمعي أول من أطلق هذه التسمية على زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأضرابهما، ونسبهما إلى التكلف وثقاف الشعر، إذ قال: «ومن الشعراء المتكلف والمطبوع، فالمتكلِّف هو الذي قوَّمَ شعره بالثقاف ونقَّحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهيرٍ والحطيئة» وكان الأصمعي يقول: «زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر؛ لأنهم نقَّحوه، ولم يذهبوا فيه مذاهب المطبوعين. وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المنقَّح، وكان زهير يسمي كُبرَ قصائده الحوليات …».
فالتكلف سمة عبيد الشعر، غير أنه لايريد تكلف إبداع الشعر، فهم مطبوعون طبع الموهبة على قول الشعر، لكن الطبع طبقات وطاقات متفاوته، ومذهب تكلف الشاعر يظهر بعد إبداع أشعارهم، فهم يقومون بتهذيب الأشعار بعد إبداعها، وهي أول سمات التكلف عند الأصمعي، وقد ذهب الجاحظ إلى تهذيب تسمية الأصمعي فجعل شعرهم شعر الصنعة.
ومن آيات شعر مدرسة عبيد الشعر القرب في مستويات أشعار الشاعر في الاستحسان والإجادة، لقول ابن جني حكاية عن الأصمعي صاحب الرؤية النقدية في عبيد الشعر: «وكان الأصمعي يعيب الحطيئة ويتعقبه، فقيل له في ذلك. فقال وجدت شعره كله جيداً فدلني ذلك على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع الذي يرمي الكلام على عواهنه، جيده على رديئه».
فاستواء أشعار الحطيئة في الجودة دله على صنعة الحطيئة لشعره، بمعنى أنه يصلحه بعد إبداعه على خلاف الشاعر المطبوع الذي يدع شعره جيده على رديئه.
ومن صفات عبيد الشعر إطالة زمن تنقيح القصائد وتهذيب أبياتها حتى قال الحطيئة: خير الشعر الحوليّ المُحَكَّك، توكيداً لفكرة الزمن والتهذيب أو تحكيك الشعر بإزالة الزوائد أو الألفاظ الغريبة أو اختيار الأفصح والأمثل مناسبة وملاءمةً للحال والموقف والغرض الشعري.
ولعبيد الشعر موهبة لاتجود في كل حين غير أنهم يبحثون عن الأوقات المناسبة لإبداع كل منهم شعراً، كما يبحثون عن الأماكن التي تحفز قرائحهم على قول الشعر، ويطربون بحضور بواعث الشعر كالرغبة والرهبة والطرب وغير ذلك.
أما انتظار لحظة الإبداع فقد ترقبها سويد بن كراع العكلي، وكان ممن ينقح شعره، إذ قال:
أَبيتُ بأَبوابِ القوافي كأَنَّما
أصادي بها سِرباً منَ الوَحشِ نُزَّعا
أُكَالئُها حَتَّى أُعَرِّسَ بعد ما
يكون سُحيراً أو بُعَيدُ فأهجَعا
إذا خِفْتُ أن تُروى عليَّ رَدَدْتُها
وراءَ التراقي خشيةً أن تطَلَّعا
فمذهبه في الإبداع اقتناص اللحظة المناسبة التي تأتي سَحَراً أو بُعيد السَّحَر، وإذا جاء الإبداع ضعيفاً، وخشي نقد النقاد ردها خلف التراقي من غير أن يخرجها للناس، فكأنه أحس بوجود القصيدة قبل خروجها من عالم النفس، وأدرك ضعفها، فردها إلى عالم النفس، ولم يجعل لها مخرجاً إلى عالم الحس.
وقال الحطيئة مرة إنه هو أشعر الناس إذا طمع بالعطاء، وهذا حافز خارجي للشعر، وحسبك ما رواه الأصمعي بقوله: كفاك من الشعراء أربعة: «امرؤ القيس إذا ركب (الطَّرديات) والنابغة إذا رهَّب (الاعتذاريات) وزهير إذا رغَّب (في المديح) والأعشى إذا طرب (للمرأة أو الخمرة)» وأضاف بعضهم: «وعنترة إذا كلِب (الحماسة للحب أو الحرب)».
ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن عدداً من الشعراء من أصحاب هذا المذهب الشعري يمكن أن يُطلق عليهم اسم المدرسة الأوسية نسبةً إلى أوس بن حجر، وهذا غير دقيق.
صحيح أن الرواية تكسب الشاعر دربة لكن اكتساب الدربة أمر مختلف عن مذهب التنقيح الذي يلتزمه الشاعر، فإنك لاتكاد تجد شاعراً مطبوعاً أو متكلفاً إلا وهو يروي شعر شاعر تقدمه. ومن هنا يجب الفصل بين مذهب التنقيح ورواية الشعر التي تؤهل الشاعر للفحولة على مذاهب بعض النقاد.
مما تقدم يمكن القول: إن مدرسة عبيد الشعر هي مدرسة الشعراء الذين أصلحوا خلل الموهبة بالعلم أو بقوة الحافز.
عبد الكريم محمد حسين