عبد حكم (اسره)
Ibn Abdul Hakam - Ibn Abdel Hakam
ابن عبـد الحـكم (أسرة ـ)
اشْتُهِرَتْ في التراث العربي والإسلامي أُسَر معينة برع أفرادها في علمٍ أو أكثر من العلوم العربية والإسلامية، أو كانت لهم مكانة سياسية أو قبلية في أقوامهم كبني زُرارة، وبني موسى بن شاكر، وآل بَخْتْيَشُوع وغيرهم.
ومن هذه الأسر العريقة في الجاه والعلم بمصر في العصر العباسي بنو عبد الحَكَم القرشيون الذين ينتهي نسبهم إلى الليث بن رافع، ونبغ فيهم قديماً نفر من الفقهاء والمحدثين الذين عاصروا حَمَلة الرواية من الصحابة والتابعين أو تلقّوها عنهم، واتصلوا بالولاة والزعماء، ووقفوا على أسرار الدولة، ونبغ منهم رأس الأسرة عبد الله ابن عبد الحكم وأولاده الثلاثة وهم: عبد الحكم، وعبد الرحمن، ومحمد. ولهؤلاء الإخوة الثلاثة أخ رابع اسمه سعد بن عبد الله بن الحكم، عُرِفَ بالعلم أيضاً، ولكنه لم يُرزق شهرة واسعة، ولا اهتمّ به كثيراً مؤلفو كتب التراجم.
1ـ عبد الله بن عبد الحكم (150ـ214هـ)
هو أبو محمد، عبد الله بن عبد الحكم بن أعْيَن بن ليث بن رافع، فقيه محدّث مصري، وُلِدَ في الاسكندرية سنة 150هـ، وقيل سنة 155هـ، ودرس على علماء عصره، وعاصر الإمامين مالكاً والشافعي. وكان مالكيّ المذهب كما كان من جلّة أصحاب الإمام مالك ابن أنس (ت197هـ) وأعلمهم بأقواله واجتهاداته، وانتهت إليه رياسة المالكية في مصر بعد أشهب بن عبد العزيز القيسي (ت204هـ).
وكان ابن عبد الحكم غنياً وجيهاً وقد روى عن مالك كتابه «الموطأ» سماعاً. وكان في الوقت نفسه يتقرب إلى الإمام الشافعي (ت204هـ) ويلازم مجلسه،ويقال إنه دفع للشافعي عند قدومه إلى مصر ألف دينار من ماله، وأخذ له من أحد التجار ألف دينار. ومن رجلين آخرين ألف دينار أخرى.
وروى بشر بن بكر قال: رأيت مالك ابن أنس في النوم بعدما مات بأيام، فقال لي: إن ببلدكم رجلاً يقال له: ابن عبد الحكم، فخذوا عنه فإنه ثقة.
وممن أخذ العلم عن ابن عبد الحكم: الربيع بن سليمان الجِيزي، صاحب الشافعي، إلا أن الربيع كان قليل الرواية عن الشافعي وإنما يروي عن عبد الله بن عبد الحكم كثيراً.
توفي ابن عبد الحكم في شهر رمضان سنة 214هـ، وقيل سنة 210هـ، وله ستون أو بضع وستون سنة، ودفن إلى جانب قبر الإمام الشافعي، وله مصنفات في الفقه وغيره، طبع منها حتى اليوم (2005م) كتاب واحد هو «سيرة عمر بن عبد العزيز» وأما باقي كتبه فأشهرها ثلاثة: «القضاء في البنيان»، و«المناسك»، و«الأهوال».
2ـ عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم (ت239هـ)
هو أبو عثمان، أكبر أبناء عبد الله ابن عبد الحكم الأربعة، ولم يكن فيهم أفقه منه، ولا أجود خطاً. وكان خيّراً فاضلاً. له سماع كثير من أبيه، ومن عبد الله بن وهب وغيرهما من رواة مالك بن أنس. إلا أنه كان من أكابر أصحاب ابن وهب، ولم يكن في أصحاب ابن وهب من هو أتقى منه ولا أوْرَع.
وقد ذكره ابن فرحون في كتاب «الديباج المُذهب» في الطبقة الثانية ممّن لم يرَ مالك بن أنس والتزم مذهبه من أهل مصر.
توفي عبد الحكم بن عبد الله بمصر في السجن، وناله فيه عذاب شديد، وقد قيل إن موته كان بسبب المحنة في خلق القرآن، وأنه دُخّن عليه بالكبريت حتى مات، وقيل أيضاً إنه لم يرجع عن قوله في تلك المحنة فضُرب نحو ثلاثين سوطاً، ولايستر جسمه سوى ثوب رقيق. وقيل أيضاً كان ممن كُلّف مع غيره النظر في أموال أحد الثائرين بمصر على الخلافة، ثم حوسبوا وطولبوا بدفع أموال طائلة فعجزوا عن الأداء، فأودعوا السجن وتوفي فيه عبد الحكم من أثر العذاب.
3 ـ عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحَكَم (187ـ257هـ):
هو أبو القاسم، الابن الثاني لعبد الله بن الحكم، من أهل العلم بالحديث والرواية والتاريخ بمصر. مصريّ المولد والوفاة، وكانت ولادته في فسطاط مصر، وتوفي في المحرم 257هـ، ودفن إلى جانب قبر أبيه المجاور لقبر الإمام الشافعي، وهو آخر من دوّن الفتوح الإسلامية الخاصة بصدر الإسلام، كما أنه أول مؤرخ دوّن سير الفتوح الإسلامية لمصر والمغرب بطريق التحقيق والرواية المسندة. وقد خصّ مصر بأكبر جهده؛ إذ اهتم بتاريخها وما كان خاصاً بفتحها وأخبارها وولاتها وقضاتها، وجمع ما استطاع مما قيل في شأنها من الأحاديث النبوية ومختلف الأنباء والسِّيَر في رواية واحدة متناسقة متعاقبة تكوّن تاريخاً مدوّناً لمصر. وساعده على ذلك ما أحاط به من ظروف وكفايات، إذ عاش في مصر نفسها وأتيح له أن يدرس مجتمعاتها وتقاليدها ورسومها الدارسة، وقد طبع كتابه هذا بعنوان: «فتوح مصر والمغرب والأندلس». وذكرت له أسماء أخرى قريبة من هذا، وظهرت له طبعات عدة في القاهرة وأوربا، كما ترجم للغات أجنبية عدة. وأضحى مورداً لاينضب لمؤرخي مصر الإسلامية خاصة، ولكل من يبحث في تاريخ الفتح الإسلامي لمصر وأيامها الأولى في ظل الإسلام، وسيبقى هذا الكتاب وثيقةً خالدة في بابه.
4 ـ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (182ـ268هـ):
أبو عبد الله، الابن الثالث لعبد الله بن عبد الحكم. انتهت إليه رياسة العلم فكان فقيه عصره، ومفتي الديار المصرية، وإليه كانت الرحلة من المغرب والأندلس في العلم والفقه، ومن شيوخه: عبد الله بن وهب، وابن أبي فُديك، وأشهب بن عبد العزيز، والشافعي.
وروى عنه من تلامذته: النسائي في السنن، وأبو حاتم الرازي، وابن خزيمة، وابن صاعد، وأبو العباس الأصمّ وغيرهم، وكان محمد في البدء مالكيّ المذهب، فأصبح شافعياً، ثم رجع إلى المذهب المالكي، وكان من أعرف الناس بمذهب الإمام مالك، وقد جعله صاحب كتاب الديباج في الطبقة الثانية من أصحاب مالك من أهل مصر. إلا أنه لم يكن يحفظ الأسانيد.
وعندما قدم الإمام الشافعي إلى مصر صحبه محمد طويلاً، وتفقّه به ولازم مجلسه، وكان الشافعي معجباً به لفرط ذكائه وحرصه على العلم حتى قال فيه: «لو أنّ لي ولداً مثله، وعليّ ألف دينار لا أجد لها قضاءً».
عُرف محمد بسجايا حميدة، إذ كان ثقةً فاضلاً صدوقاً، كما عُرف بالنُّبل والوجاهة، قال فيه أبو عُمر الصَّدفي: «رأيت أهل مصر لايعدلون به أحداً، ويصفونه بالعلم والفضل والتواضع».
وفي أواخر حياته نزلت به محنة صعبة، إذ كان ممّن امتُحن في فتنة القول بخلق القرآن، كأخيه الأكبر عبد الحكم، وقد حُمل من أجل ذلك إلى بغداد، وجيء به إلى القاضي أحمد بن أبي دُواد الإيادي، فلم يُجبه محمد إلى ما طلب منه فرُدّ إلى مصر، وتوفي محمد سنة 268هـ، وقيل سنة 269هـ، ودفن بجوار قَبْري أبيه وأخيه عبد الرحمن، اللذين كانا إلى جانب قبر الإمام الشافعي، ولمحمد هذا جملة من الكتب منها: «أدب (أو آداب) القضاة»، «أحكام القرآن»، «الردٌّ على فقهاء (أو أهل) العراق»، «الدعوى والبيّنات»، «السّبق والرمي»، «الكفالة»، «الوثائق والشروط»، «الرجوع عن الشهادة» … ويقال إن له كتاباً في الردّ على الإمام الشافعي في بعض المسائل.
محمود فاخوري
Ibn Abdul Hakam - Ibn Abdel Hakam
ابن عبـد الحـكم (أسرة ـ)
اشْتُهِرَتْ في التراث العربي والإسلامي أُسَر معينة برع أفرادها في علمٍ أو أكثر من العلوم العربية والإسلامية، أو كانت لهم مكانة سياسية أو قبلية في أقوامهم كبني زُرارة، وبني موسى بن شاكر، وآل بَخْتْيَشُوع وغيرهم.
ومن هذه الأسر العريقة في الجاه والعلم بمصر في العصر العباسي بنو عبد الحَكَم القرشيون الذين ينتهي نسبهم إلى الليث بن رافع، ونبغ فيهم قديماً نفر من الفقهاء والمحدثين الذين عاصروا حَمَلة الرواية من الصحابة والتابعين أو تلقّوها عنهم، واتصلوا بالولاة والزعماء، ووقفوا على أسرار الدولة، ونبغ منهم رأس الأسرة عبد الله ابن عبد الحكم وأولاده الثلاثة وهم: عبد الحكم، وعبد الرحمن، ومحمد. ولهؤلاء الإخوة الثلاثة أخ رابع اسمه سعد بن عبد الله بن الحكم، عُرِفَ بالعلم أيضاً، ولكنه لم يُرزق شهرة واسعة، ولا اهتمّ به كثيراً مؤلفو كتب التراجم.
1ـ عبد الله بن عبد الحكم (150ـ214هـ)
هو أبو محمد، عبد الله بن عبد الحكم بن أعْيَن بن ليث بن رافع، فقيه محدّث مصري، وُلِدَ في الاسكندرية سنة 150هـ، وقيل سنة 155هـ، ودرس على علماء عصره، وعاصر الإمامين مالكاً والشافعي. وكان مالكيّ المذهب كما كان من جلّة أصحاب الإمام مالك ابن أنس (ت197هـ) وأعلمهم بأقواله واجتهاداته، وانتهت إليه رياسة المالكية في مصر بعد أشهب بن عبد العزيز القيسي (ت204هـ).
وكان ابن عبد الحكم غنياً وجيهاً وقد روى عن مالك كتابه «الموطأ» سماعاً. وكان في الوقت نفسه يتقرب إلى الإمام الشافعي (ت204هـ) ويلازم مجلسه،ويقال إنه دفع للشافعي عند قدومه إلى مصر ألف دينار من ماله، وأخذ له من أحد التجار ألف دينار. ومن رجلين آخرين ألف دينار أخرى.
وروى بشر بن بكر قال: رأيت مالك ابن أنس في النوم بعدما مات بأيام، فقال لي: إن ببلدكم رجلاً يقال له: ابن عبد الحكم، فخذوا عنه فإنه ثقة.
وممن أخذ العلم عن ابن عبد الحكم: الربيع بن سليمان الجِيزي، صاحب الشافعي، إلا أن الربيع كان قليل الرواية عن الشافعي وإنما يروي عن عبد الله بن عبد الحكم كثيراً.
توفي ابن عبد الحكم في شهر رمضان سنة 214هـ، وقيل سنة 210هـ، وله ستون أو بضع وستون سنة، ودفن إلى جانب قبر الإمام الشافعي، وله مصنفات في الفقه وغيره، طبع منها حتى اليوم (2005م) كتاب واحد هو «سيرة عمر بن عبد العزيز» وأما باقي كتبه فأشهرها ثلاثة: «القضاء في البنيان»، و«المناسك»، و«الأهوال».
2ـ عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم (ت239هـ)
هو أبو عثمان، أكبر أبناء عبد الله ابن عبد الحكم الأربعة، ولم يكن فيهم أفقه منه، ولا أجود خطاً. وكان خيّراً فاضلاً. له سماع كثير من أبيه، ومن عبد الله بن وهب وغيرهما من رواة مالك بن أنس. إلا أنه كان من أكابر أصحاب ابن وهب، ولم يكن في أصحاب ابن وهب من هو أتقى منه ولا أوْرَع.
وقد ذكره ابن فرحون في كتاب «الديباج المُذهب» في الطبقة الثانية ممّن لم يرَ مالك بن أنس والتزم مذهبه من أهل مصر.
توفي عبد الحكم بن عبد الله بمصر في السجن، وناله فيه عذاب شديد، وقد قيل إن موته كان بسبب المحنة في خلق القرآن، وأنه دُخّن عليه بالكبريت حتى مات، وقيل أيضاً إنه لم يرجع عن قوله في تلك المحنة فضُرب نحو ثلاثين سوطاً، ولايستر جسمه سوى ثوب رقيق. وقيل أيضاً كان ممن كُلّف مع غيره النظر في أموال أحد الثائرين بمصر على الخلافة، ثم حوسبوا وطولبوا بدفع أموال طائلة فعجزوا عن الأداء، فأودعوا السجن وتوفي فيه عبد الحكم من أثر العذاب.
3 ـ عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحَكَم (187ـ257هـ):
هو أبو القاسم، الابن الثاني لعبد الله بن الحكم، من أهل العلم بالحديث والرواية والتاريخ بمصر. مصريّ المولد والوفاة، وكانت ولادته في فسطاط مصر، وتوفي في المحرم 257هـ، ودفن إلى جانب قبر أبيه المجاور لقبر الإمام الشافعي، وهو آخر من دوّن الفتوح الإسلامية الخاصة بصدر الإسلام، كما أنه أول مؤرخ دوّن سير الفتوح الإسلامية لمصر والمغرب بطريق التحقيق والرواية المسندة. وقد خصّ مصر بأكبر جهده؛ إذ اهتم بتاريخها وما كان خاصاً بفتحها وأخبارها وولاتها وقضاتها، وجمع ما استطاع مما قيل في شأنها من الأحاديث النبوية ومختلف الأنباء والسِّيَر في رواية واحدة متناسقة متعاقبة تكوّن تاريخاً مدوّناً لمصر. وساعده على ذلك ما أحاط به من ظروف وكفايات، إذ عاش في مصر نفسها وأتيح له أن يدرس مجتمعاتها وتقاليدها ورسومها الدارسة، وقد طبع كتابه هذا بعنوان: «فتوح مصر والمغرب والأندلس». وذكرت له أسماء أخرى قريبة من هذا، وظهرت له طبعات عدة في القاهرة وأوربا، كما ترجم للغات أجنبية عدة. وأضحى مورداً لاينضب لمؤرخي مصر الإسلامية خاصة، ولكل من يبحث في تاريخ الفتح الإسلامي لمصر وأيامها الأولى في ظل الإسلام، وسيبقى هذا الكتاب وثيقةً خالدة في بابه.
4 ـ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (182ـ268هـ):
أبو عبد الله، الابن الثالث لعبد الله بن عبد الحكم. انتهت إليه رياسة العلم فكان فقيه عصره، ومفتي الديار المصرية، وإليه كانت الرحلة من المغرب والأندلس في العلم والفقه، ومن شيوخه: عبد الله بن وهب، وابن أبي فُديك، وأشهب بن عبد العزيز، والشافعي.
وروى عنه من تلامذته: النسائي في السنن، وأبو حاتم الرازي، وابن خزيمة، وابن صاعد، وأبو العباس الأصمّ وغيرهم، وكان محمد في البدء مالكيّ المذهب، فأصبح شافعياً، ثم رجع إلى المذهب المالكي، وكان من أعرف الناس بمذهب الإمام مالك، وقد جعله صاحب كتاب الديباج في الطبقة الثانية من أصحاب مالك من أهل مصر. إلا أنه لم يكن يحفظ الأسانيد.
وعندما قدم الإمام الشافعي إلى مصر صحبه محمد طويلاً، وتفقّه به ولازم مجلسه، وكان الشافعي معجباً به لفرط ذكائه وحرصه على العلم حتى قال فيه: «لو أنّ لي ولداً مثله، وعليّ ألف دينار لا أجد لها قضاءً».
عُرف محمد بسجايا حميدة، إذ كان ثقةً فاضلاً صدوقاً، كما عُرف بالنُّبل والوجاهة، قال فيه أبو عُمر الصَّدفي: «رأيت أهل مصر لايعدلون به أحداً، ويصفونه بالعلم والفضل والتواضع».
وفي أواخر حياته نزلت به محنة صعبة، إذ كان ممّن امتُحن في فتنة القول بخلق القرآن، كأخيه الأكبر عبد الحكم، وقد حُمل من أجل ذلك إلى بغداد، وجيء به إلى القاضي أحمد بن أبي دُواد الإيادي، فلم يُجبه محمد إلى ما طلب منه فرُدّ إلى مصر، وتوفي محمد سنة 268هـ، وقيل سنة 269هـ، ودفن بجوار قَبْري أبيه وأخيه عبد الرحمن، اللذين كانا إلى جانب قبر الإمام الشافعي، ولمحمد هذا جملة من الكتب منها: «أدب (أو آداب) القضاة»، «أحكام القرآن»، «الردٌّ على فقهاء (أو أهل) العراق»، «الدعوى والبيّنات»، «السّبق والرمي»، «الكفالة»، «الوثائق والشروط»، «الرجوع عن الشهادة» … ويقال إن له كتاباً في الردّ على الإمام الشافعي في بعض المسائل.
محمود فاخوري