في مطلع القرن المنصرم ساد اعتقاد بأن الفيزياء وصلت لذروتها، وأن ما حققه علماء الفيزياء مثل نيوتن في قوانينه الثلاثة، وقوانين الديناميك الحرارية، وكذلك ما تَمَّ على يد ماكسويل في قوانين الكهرباء والمغناطيسية هو كافٍ في حدّ ذاته لتفسير الكون بالمجمل دون الحاجة إلى مزيد من النظريات والفرضيات. ولعلّ ما وَرد عن اللورد كلفن في مقولته الشهيرة: “لا يوجد هنالك شيء جديد يمكن اكتشافه في الفيزياء الآن، كل ما تبقى هو المزيد والمزيد من القياسات الدقيقة” هو خير تأكيد لما دار في خَلَد العلماء في تلك الحقبة.
لكن لم تلبث هذه القناعة أن تلاشت في غضون سنوات قليلة، حيث عجزت تلك القوانين عن تفسير عدة ظواهر فيزيائية، وقد انبرى لتفسير تلك الظواهر علماء لا يقلون شأناً عن نيوتن وماكسويل، وبالأخص أينشتاين وبلانك اللذان أضافا لَمستهما في الفيزياء من خلال نظريتين لا تزالان تُبهراننا بجمالهما، ألا وهما نظريتا النسبية والكم.
أما في الحديث عن الظواهر التي لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية تفسيرها فهي كثيرة، ويعد إشعاع الجسم الأسود أحد أبرز وأقدم تلك الظواهر، تُرى ما هو الجسم الأسود؟ وما هو إشعاعه؟ ولماذا انهارت أمامه قوانين الفيزياء الكلاسيكية؟ وكيف ساهمَ في بناء أحد أبرز نظريات الفيزياء في القرن العشرين (نظرية الكمّ)؟ هذه المقالة ستكون محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة.
لكن قبل البدء بشرح الجسم الأسود، يجب إيضاح مفهومين فيزيائيين مهمّين لتكون الصورة واضحة لدى القارئ:
الآن، الجسم الأسود:
الجسم الأسود هو جسم افتراضي يمتص جميع الطيف الكهرومغناطيسي، وبالنتيجة سيكون مشعّاً أيضًا لكل الطيف الكهرومغناطيسي حسب القانون الثاني للديناميكية الحرارية، و يمكن تمثيله بشكل بسيط على شكل صندوق مغلق يحتوي على فتحة صغيرة تسمح بمرور الأشعة خارج الصندوق، حيث أنه عند تسخين الصندوق لدرجة حرارة معينة فإن الإشعاع الكهرومغناطيسي يبدأ بالانبعاث، وتكون أعلى شدة للإشعاع ضمن طول موجي معيّن، وكلّما زادت درجة الحرارة، انزاحت أعلى قيمة لشدة الإشعاع باتجاه الأطوال الموجية الأقصر.
و لتقريب الصورة للقارئ، تخيل أنك تقوم بتسخين قطعة حديد، ففي البداية ستشعر بالحرارة والتي تمثل الأطوال الموجية تحت الحمراء، وعند زيادة درجة الحرارة تبدأ القطعة بالاحمرار تدريجياً ثم تتحول إلى اللون الأصفر، أي كل ما زادت درجة الحرارة فإننا نلاحظ بوضوح إزاحة نحو الطول الموجي الأقصر أو (نحو تردد أعلى) بعبارة أخرى.
وفي مطلع القرن المنصرم تمكّن العلماء من الحصول على البيانات التجريبة لإشعاع الجسم الأسود وقاموا برسم منحني شدة الإشعاع بالنسبة للطول الموجي وبمختلف درجات الحرارة، أي لم تكن مشكلةً من الناحية العملية، لكن الإشكال الذي حصل حين حاول العلماء تفسير تلك النتائج بناءً على معطيات الفيزياء الكلاسيكية حيث ظهر تباين كبير بين البيانات التجريبية والمعادلات الرياضية التي حاولت تفسير الإشعاع اعتماداً على الفيزياء الكلاسيكية.
أولى المحاولات كانت للعالم فاين والذي استطاع أن يضع صيغة رياضية تفسر توزيع الطيف المغناطيسي وتتطابق مع النتائج العملية، وقد استندَ على توزيع بولتزمان في صيغته لكنه نجح فقط في الأطوال الموجية القصيرة، أما في الأطوال الموجية الطويلة فإن الصيغة الرياضية تفشل في التطابق مع النتائج. من ناحية أخرى، قامَ العالمان رايلي وجميس بمحاولة ثانية لوضع صيغة رياضية لإشعاع الجسم الأسود باستخدام معادلات ماكسويل للموجات الكهرومغناطيسية وباستخدام الفيزياء الإحصائية، وأظهرت الصيغة تطابق شديد مع النتائج العملية في الأطوال الموجية الطويلة، أما في الأطوال الموجية القصيرة فإن الشدة تستمر بالتصاعد إلى ما لا نهاية خلافًا للنتائج الموجودة، كما أنها في نفس الوقت غير منطقية لأنه واعتماداً على هذه الصيغة فإن مجرد وجودنا بالقرب من موقد مثلاً كافي لأن نحترق بالكامل نظراً لتصاعد الشدة إلى ما لا نهاية حسب قانون رايلي وجيمس و سُميَّ هذا التناقض بـ”الكارثة فوق البنفسجية” لكون التوزيع الجديد يُبدي تناقض واضح مع النتائج العملية بدءاً من الأمواج فوق البنفسجية. لكن ما سبب هذا الاختلاف الشديد بالرغم من أن الصيغة اعتمدت على قوانين ماكسويل في الأمواج والمثبتة تجريبياً ونظرياً؟ السبب الرئيسي لذلك هو أن تلك القوانين تتعامل مع الطاقة على أنها مستمرة وليست مجزأة، وهذا الذي يفسر تزايد شدة الإشعاع تبعاً للطول الموجي إلى ما لا نهاية حسب صيغة رايلي وجيمس.
لكن ماذا لو اعتبرنا الطاقة على شكل أجزاء؟ هل سيتغير شيء؟
هذا السؤال الذي طرحه “بلانك” على نفسه، وبالفعل بعد عدة محاولات وباستخدام مهارته بالرياضيات، تمكن من إيجاد صيغة رياضية تطابق وبشكل مذهل نتائج التجربة، ولكن باستخدام افتراض كان يُعتبر سخيفاً في حينها لدرجة أنه لم يكن مُتقَبلاً في الأوساط العلمية، وهذا الافتراض يعامل الطاقة على شكل جزيئات منفردة من الطاقة سميت حينها بالكمّات (quanta) ولم يَدُر بخَلَد بلانك أن ذلك فتح الباب على مصراعيه لفيزياء جديدة ثورية ألا وهي فيزياء الكمّ، وتذكر المصادر أنه اعتبر حله لهذه المعضلة هو مجرد حيلة رياضية فقط، وأن افتراض انتشار الطاقة الكهرومغناطيسية على شكل كمّات ليس له أي معنى فيزيائي، لكن وكالعادة فإن أينشتاين مولع بالصيغ الغريبة، وبالفعل قد استطاع تفسير ظاهرة أخرى كانت أيضًا مَثَارًا للنقاش في حينها ألا وهي الظاهرة الكهروضوئية، حيث استخدم صيغة بلانك في تفسير هذه الظاهرة، وأثبت أنه بشكل فيزيائي تجريبي أن الطاقة الكهرومغناطيسية تنتقل بشكل أجزاء سماها فيما بعد بـ”الفوتونات”، وأنها ليست مجرد حيلة رياضية فقط. بهذا الاستنتاج البسيط (أن الطاقة مجزأة وليست مستمرة) تغير وجه الفيزياء إلى الأبد، وانتقلت الفيزياء من النظرة التشائمية الحتمية المتمثلة بالفيزياء الكلاسيكية وقوانينها إلى نظرة ذات بعد أكثر تشويقاً وروعة، حيث لا يوجد هناك شيء قابل للجزم وأن كل ما نراه من حولنا هو مجرد احتمالات لا أكثر.
لكن لم تلبث هذه القناعة أن تلاشت في غضون سنوات قليلة، حيث عجزت تلك القوانين عن تفسير عدة ظواهر فيزيائية، وقد انبرى لتفسير تلك الظواهر علماء لا يقلون شأناً عن نيوتن وماكسويل، وبالأخص أينشتاين وبلانك اللذان أضافا لَمستهما في الفيزياء من خلال نظريتين لا تزالان تُبهراننا بجمالهما، ألا وهما نظريتا النسبية والكم.
أما في الحديث عن الظواهر التي لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية تفسيرها فهي كثيرة، ويعد إشعاع الجسم الأسود أحد أبرز وأقدم تلك الظواهر، تُرى ما هو الجسم الأسود؟ وما هو إشعاعه؟ ولماذا انهارت أمامه قوانين الفيزياء الكلاسيكية؟ وكيف ساهمَ في بناء أحد أبرز نظريات الفيزياء في القرن العشرين (نظرية الكمّ)؟ هذه المقالة ستكون محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة.
لكن قبل البدء بشرح الجسم الأسود، يجب إيضاح مفهومين فيزيائيين مهمّين لتكون الصورة واضحة لدى القارئ:
- الموجة الكهرومغناطيسية: وهي عبارة عن مجالين متعامدين أحدهما مجال كهربائي والآخر مغناطيسي، ينتقلان عبر الفراغ بسرعة الضوء والتي تقارب ثلاثمائة ألف كيلومتر بالثانية، وينتقلان عبر الأوساط المادية لكن بسرعات أقل تعتمد على معامل الانكسار لهذه الأوساط، وباعتبارها موجات فهي تمتلك خصائص الموجات كالطول الموجي الذي يمثل المسافة بين قمتين أو قعرين لسعة الموجة، ويقاس بوحدات الطول كالمتر وأجزائه ومضاعفاته، وكذلك التردد الذي يمثل المقياس لتكرار حدث معين ضمن مدة زمنية معينة، وعادة ما يقاس بمقلوب واحدة الزمن (الثانية) ويسمى (هرتز)، وأن حاصل ضرب الطول الموجي بالزمن يمثل السرعة دائماً، وبما أن سرعة الموجة الكهرومغناطيسية هي مقدار ثابت في الفراغ (الرقم المذكور آنفاً) فإن جميع الأمواج الكهرومغناطيسية تسير بنفس تلك السرعة، لكن الاختلاف الجذري بينهم هو طول الموجة والتردد، فكلما زاد أحدهما قل الآخر نتيجة لثبات سرعة، وهذا الاختلاف هو الذي يعطي كل طيف كهرومغناطيسي خصائصه (بالإضافة طبعاً لطاقة الموجة التي تعتمد كلياً على ترددها)، ابتداءً من الموجات ذات الطول الموجي العالي الذي يقدر بالكيلومترات، ثم موجات المايكرو المجهرية، ثم الأشعة تحت الحمراء، مروراً بالضوء المرئي و الأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية، وانتهاءً بالأمواج الكونية.
- ثابت بولتزمان: وهو ثابت ناتج عن قسمة (مضروب الحجم بالضغط للغازات) على (درجة الحرارة)، أما قيمته فهي38064852(79)×10−23 جول/ كلفن.
الآن، الجسم الأسود:
الجسم الأسود هو جسم افتراضي يمتص جميع الطيف الكهرومغناطيسي، وبالنتيجة سيكون مشعّاً أيضًا لكل الطيف الكهرومغناطيسي حسب القانون الثاني للديناميكية الحرارية، و يمكن تمثيله بشكل بسيط على شكل صندوق مغلق يحتوي على فتحة صغيرة تسمح بمرور الأشعة خارج الصندوق، حيث أنه عند تسخين الصندوق لدرجة حرارة معينة فإن الإشعاع الكهرومغناطيسي يبدأ بالانبعاث، وتكون أعلى شدة للإشعاع ضمن طول موجي معيّن، وكلّما زادت درجة الحرارة، انزاحت أعلى قيمة لشدة الإشعاع باتجاه الأطوال الموجية الأقصر.
و لتقريب الصورة للقارئ، تخيل أنك تقوم بتسخين قطعة حديد، ففي البداية ستشعر بالحرارة والتي تمثل الأطوال الموجية تحت الحمراء، وعند زيادة درجة الحرارة تبدأ القطعة بالاحمرار تدريجياً ثم تتحول إلى اللون الأصفر، أي كل ما زادت درجة الحرارة فإننا نلاحظ بوضوح إزاحة نحو الطول الموجي الأقصر أو (نحو تردد أعلى) بعبارة أخرى.
وفي مطلع القرن المنصرم تمكّن العلماء من الحصول على البيانات التجريبة لإشعاع الجسم الأسود وقاموا برسم منحني شدة الإشعاع بالنسبة للطول الموجي وبمختلف درجات الحرارة، أي لم تكن مشكلةً من الناحية العملية، لكن الإشكال الذي حصل حين حاول العلماء تفسير تلك النتائج بناءً على معطيات الفيزياء الكلاسيكية حيث ظهر تباين كبير بين البيانات التجريبية والمعادلات الرياضية التي حاولت تفسير الإشعاع اعتماداً على الفيزياء الكلاسيكية.
أولى المحاولات كانت للعالم فاين والذي استطاع أن يضع صيغة رياضية تفسر توزيع الطيف المغناطيسي وتتطابق مع النتائج العملية، وقد استندَ على توزيع بولتزمان في صيغته لكنه نجح فقط في الأطوال الموجية القصيرة، أما في الأطوال الموجية الطويلة فإن الصيغة الرياضية تفشل في التطابق مع النتائج. من ناحية أخرى، قامَ العالمان رايلي وجميس بمحاولة ثانية لوضع صيغة رياضية لإشعاع الجسم الأسود باستخدام معادلات ماكسويل للموجات الكهرومغناطيسية وباستخدام الفيزياء الإحصائية، وأظهرت الصيغة تطابق شديد مع النتائج العملية في الأطوال الموجية الطويلة، أما في الأطوال الموجية القصيرة فإن الشدة تستمر بالتصاعد إلى ما لا نهاية خلافًا للنتائج الموجودة، كما أنها في نفس الوقت غير منطقية لأنه واعتماداً على هذه الصيغة فإن مجرد وجودنا بالقرب من موقد مثلاً كافي لأن نحترق بالكامل نظراً لتصاعد الشدة إلى ما لا نهاية حسب قانون رايلي وجيمس و سُميَّ هذا التناقض بـ”الكارثة فوق البنفسجية” لكون التوزيع الجديد يُبدي تناقض واضح مع النتائج العملية بدءاً من الأمواج فوق البنفسجية. لكن ما سبب هذا الاختلاف الشديد بالرغم من أن الصيغة اعتمدت على قوانين ماكسويل في الأمواج والمثبتة تجريبياً ونظرياً؟ السبب الرئيسي لذلك هو أن تلك القوانين تتعامل مع الطاقة على أنها مستمرة وليست مجزأة، وهذا الذي يفسر تزايد شدة الإشعاع تبعاً للطول الموجي إلى ما لا نهاية حسب صيغة رايلي وجيمس.
لكن ماذا لو اعتبرنا الطاقة على شكل أجزاء؟ هل سيتغير شيء؟
هذا السؤال الذي طرحه “بلانك” على نفسه، وبالفعل بعد عدة محاولات وباستخدام مهارته بالرياضيات، تمكن من إيجاد صيغة رياضية تطابق وبشكل مذهل نتائج التجربة، ولكن باستخدام افتراض كان يُعتبر سخيفاً في حينها لدرجة أنه لم يكن مُتقَبلاً في الأوساط العلمية، وهذا الافتراض يعامل الطاقة على شكل جزيئات منفردة من الطاقة سميت حينها بالكمّات (quanta) ولم يَدُر بخَلَد بلانك أن ذلك فتح الباب على مصراعيه لفيزياء جديدة ثورية ألا وهي فيزياء الكمّ، وتذكر المصادر أنه اعتبر حله لهذه المعضلة هو مجرد حيلة رياضية فقط، وأن افتراض انتشار الطاقة الكهرومغناطيسية على شكل كمّات ليس له أي معنى فيزيائي، لكن وكالعادة فإن أينشتاين مولع بالصيغ الغريبة، وبالفعل قد استطاع تفسير ظاهرة أخرى كانت أيضًا مَثَارًا للنقاش في حينها ألا وهي الظاهرة الكهروضوئية، حيث استخدم صيغة بلانك في تفسير هذه الظاهرة، وأثبت أنه بشكل فيزيائي تجريبي أن الطاقة الكهرومغناطيسية تنتقل بشكل أجزاء سماها فيما بعد بـ”الفوتونات”، وأنها ليست مجرد حيلة رياضية فقط. بهذا الاستنتاج البسيط (أن الطاقة مجزأة وليست مستمرة) تغير وجه الفيزياء إلى الأبد، وانتقلت الفيزياء من النظرة التشائمية الحتمية المتمثلة بالفيزياء الكلاسيكية وقوانينها إلى نظرة ذات بعد أكثر تشويقاً وروعة، حيث لا يوجد هناك شيء قابل للجزم وأن كل ما نراه من حولنا هو مجرد احتمالات لا أكثر.