عبد وهاب (محمد)
Abdul Wahab (Mohammad-) - Abdul Wahab (Mohammad-)
عبد الوهاب (محمد ـ)
(1902ـ 1992)
يقول محمد عبد الوهاب إنه ولد عام 1910. ويقول الصحفي والكاتب المعروف محمد التابعي إنه ولد عام 1898 استناداً لجواز سفره الذي شاهده إبان سفرهما معاً. بينما يجزم المؤرخ الموسيقي عبد العزيز محمود عناني في مخطوطة «سجل المكتبة الصوتية» بأن تاريخ ولادة محمد عبد الوهاب عام 1902وهو الأرجح. كذلك أكدت المؤرخة المستشرقة الروسية إيزابيلا روبينوفا يوليان هذا التاريخ استناداً لما أزجاه إليها محمد عبد الوهاب نفسه. نزح أبوه الشيخ عبد الوهاب عيسى مع أسرته إلى القاهرة من بلدة «أبو كبير» في محافظة الشرقية، وعمل في مسجدها المعروف بمسجد الشعراني.
في الخامسة من عُمُرِهِ ألحقه أبوه بكتَّاب الشيخ عبد العزيز عاشور الذي كان قاسياً بعض الشيء، وحفظ على يديه بعض أجزاء القران الكريم، وفي السابعة من عمره أخذ يتردد إلى المسجد ليستمع إلى تلاوات الشيخ محمد رفعت، وتواشيح علي محمود، وحلقات الذكر التي قال عبد الوهاب فيها: «كنت أرى وأسمع حلقات الذكر التي كان المصلون يقيمونها بعد صلاة الفجر أحياناً، وبعد صلاة العشاء في أحيان أخر. وبرغم أني كنت في السابعة، فإنني كنت أشعر بانقياد عجيب لأنغام الذكر الرتيبة.…» وفي السابعة أيضاً، بدأ عبد الوهاب يحفظ أغاني سلامة حجازي[ر] ويغنيها لرفاق الحي. عانى محمد عبد الوهاب في طفولته كثيراً من شيخ الكتَّاب، ومن أسرته بالضرب المبرح بسبب هربه الدائم من الكتَّاب، وقد ألزمته الأسرة في نهاية الأمر المواظبة قبل الظهر على كتَّاب الشيخ عاشور، وبالعمل بعد الظهر في محل الخياط محمود شمعون لقاء خمسة مليمات يومياً.
في العاشرة من عمره سمعه محمد شمعون «شقيق صاحب محل الخياطة، الذي كان يعمل ملحناً في فرقة فوزي الجزايرلي ليلاً وخياطاً في محل أخيه نهاراً» يغني فأخذه ليسمعه لفوزي الجزايرلي الذي وافق فوراً على العمل عنده ليغني بين فصول الرواية لقاء خمسة قروش لِلَّيلةِ الواحدة، وسماه «محمد بغدادي»، وكانت أغنية يونس القاضي «أنا عندي منجة وصوتي كمنجة» أول أغنية يشدو بها. وبعد شهر على ذلك فاجأه أخوه الكبير الشيخ حسن يغني في مسرح «الكلوب المصري» فشده بعنف، زاجراً إياه، وأخرجه من المسرح.
كان حب الغناء قد استشرى في وجدان محمد عبد الوهاب الصغير، فهرب مع سيرك جوال إلى دمنهور عام 1918حيث لبث يقدم فقرات غنائية باسمه الصريح ضمن عروض السيرك مدة أسبوع كامل عاد بعدها إلى البيت بعد أن توسط له الشيخ أحمد موسى.
استسلمت الأسرة أمام إصرار محمد عبد الوهاب على الغناء، ووجدت ألا مناص من ذلك، فاشترطت أن يتم ذلك تحت إشرافها، وهكذا تنفس الصعداء ولاسيما بعد أن وافقت أسرته على التحاقه بفرقة المحامي عبد الرحمن رشدي المسرحية ليغني بين فصول المسرحية الواحدة كما هي العادة. وفي العام نفسه، أي في عام 1918وبعد عودته مع الفرقة من المنيا، وفي أثناء تقديم الفرقة لمسرحية «الشمس المشرقة» التي أبدع فيها محمد عبد الوهاب تمثيلاً وغناءً، تدخَّل الشاعر أحمد شوقي[ر] بنفوذه لدى المسؤولين ليمنعه من التمثيل والغناء بموجب أمر من حكمدار القاهرة رسل باشا بسبب صغر سنه، وكان على محمد عبد الوهاب أن ينتظر ثلاث سنوات ليستطيع العمل من دون أن يعترض على عمله أحد. وفي عام 1921 عمل مع علي الكسار في مسرح الماجستيك، وفي هذا المسرح تعرَّف إلى سيد درويش[ر]. وفي العام نفسه ألَّف سيَّد درويش فرقته الخاصة، وقدم في تياترو برنتانيا أوبريت[ر. الأوبرا] «شهرزاد» التي أذاقته مرارة الإخفاق للمرة الأولى في حياته، ومع ذلك لم ييأس وقرر تقديمها ثانية بعد أن أسند دور البطولة الغنائية فيها لمحمد عبد الوهاب فأخفق هو الآخر.
في عام 1922 تعاقد محمد عبد الوهاب مع فرقة نجيب الريحاني[ر] للقيام برحلة فنية في بلاد الشام، حيث غنَّى في غزة والقدس وبيروت ودمشق، ليعود مع الريحاني بعد شهر واحد حاملين معهما الإخفاق مطلقاً.
انتسب محمد عبد الوهاب في عام 1924 إلى نادي الموسيقى الشرقي، الذي غدا فيما بعد معهد الموسيقى الشرقي، فدرس الموشحات على يدي درويش الحريري، وصفر علي، والعود على يدي محمد القصبجي[ر]. وبحث في أثناء ذلك عن عمل، فأثمر البحث عن تعيين «محمد أفندي عبد الوهاب» مدرساً للأناشيد بمدرسة «الخازندارة»، ولكنه لم يستمر في ذلك، وكان من تلامذته إحسان عبد القدوس. وفي العام ذاته؛ غنى محمد عبد الوهاب للمرة الأولى في حياته قصيدة «جددي يا نفس حظك» في فندق «سان استيفانو» في الإسكندرية بوصفه مطرباً مع تخت موسيقي[ر. الفرقة الموسيقية]، وليس بين فصول المسرحيات.
وفي تلك الليلة تبددت الكراهية التي غمرت قلبه على أحمد شوقي، وصار عبد الوهاب من أحب الناس إلى قلب أحمد شوقي الذي رعاه حتى وفاته، والأغنية الأولى التي غناها من نظم شوقي هي دور [ر. الأغنية]:
«توحشني وانت ويايا
واشتاق لك وعنيك في عنينا»
وكان على محمد عبد الوهاب في عام 1925 أن يخوض معركة مع الكاتبين الكبيرين إبراهيم عبد القادر المازني[ر] وعباس محمود العقاد[ر] بسبب صداقته لأحمد شوقي وعداوتهما لـه، واستطاعت فاطمة (روز اليوسف) أن تبدد هذا العداء عندما دعت المازني والعقاد مع أحمد رامي[ر] ومحمد التابعي إلى سهرة في بيتها للاستماع إلى محمد عبد الوهاب، وقد أشاد الجميع بصوته وقدراته الفنية، حتى أن العقاد مدحه بقصيدة نشرها في مجلة «البلاغ»، كما كتب المازني والتابعي مقالات تثني عليه. وفي العام نفسه لحن عبد الوهاب لمسرح نجيب الريحاني[ر] أوبريت «قنصل الوز»، ولمنيرة المهدية أوبريت «المظلومة»، وأتم تلحين «كيلوباترا» التي مات عنها سيد درويش دون أن ينهيها، وقام بتمثيل دور «أنطونيو» أمام منيرة المهدية، وصار يتقاضى منها عشر جنيهات لِلِّيْلَةِ الواحدة. وبين الأعوام 1925ـ 1927 وجد محمد عبد الوهاب نفسه مشهوراً مطرباً وملحناً وممثلاً. لم يدم تعامله مع منيرة المهدية سوى شهرين، إذ انتقل للغناء في دار التمثيل العربي، ومن ثم غنى في المنصورة ودمنهور والإسكندرية وغيرها.
في عام 1927 اصطحبه شوقي معه إلى باريس، وتعرف في الباخرة ملك العراق فيصل الأول الذي دعاه ليغني في عيد جلوسه، فغنى له قصيدة شوقي «يا شراعاً وراء دجلة». ومنذ غنى للملك فيصل لُقِّب عبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء، والمطرب النابغة والموسيقار المتجدد، ومنذ عام 1928 وحتى عام 1931صار يغني أيام الثلاثاء والخميس، وأحياناً يوم الأحد في مسرح رمسيس لقاء عشرين جنيهاً لليلة الواحدة، وكان هذا المبلغ وقتذاك يعد ثروة كبيرة.
في العام 1931 بدأ رحلة التطور في الغناء، وانتقل إلى محاكاة الغناء الأوبرالي في الغناء التقليدي العربي كما في مونولوغي «أهون عليك» و«في الليل لما خلي».
في عام 1932حل عبد الوهاب ضيفاً على فكري أباظة في «الزقازيق»، بعد وفاة أحمد شوقي، ليغني فيها، وهناك تعرف إلى المخرج محمد عبد الكريم[ر]، وفوجئ به يطلب إليه أن يغني في فيلم سينمائي، ووقع محمد عبد الوهاب تحت إغراء جملة استرعت انتباهه: «في المسرح يسمعك خمسمئة نفر، وفي السينما ملايين الناس في الوطن العربي).
في الرابع من كانون الأول 1933عرض أول أفلامه «الوردة البيضاء» بنجاح كبير ومذهل، ثم تتالت أفلامه: «دموع الحب» 1935، و«يحيا الحب» 1937، و«يوم سعيد» 1939، و«ممنوع الحب» 1942، و«رصاصة في القلب» 1944، و«لست ملاكاً» 1946، و«غزل البنات» 1949. وقد غنى في هذه الأفلام ولحَّن إحدى وسبعين أغنية، كان لها الدور الأكبر في تطور الأغنية العربية، وفي تطور التخت الموسيقي, وفي دخول عدد كبير من الآلات الموسيقية الغربية إلى الفرقة الموسيقية العربية. ويعد محمد عبد الوهاب مع القصبجي والسنباطي[ر] وزكريا أحمد[ر] العمالقة الذين ابتدعوا أسلوباً للأغنية السينمائية لاتحيد عنه.
تزوج محمد عبد الوهاب ثلاث مرات: الأولى من سيدة ثرية تكبره بعشرين عاماً رفض أن يذكر اسمها ورمز لها بحرف «ز» ودام هذا الزواج عشر سنوات من عام 1931 إلى 1941. وتزوج في عام 1944من السيدة إقبال نصار ورُزِقَ منها بخمسة أولاد، ثلاث بنات وولدين (عائشة، وعفت، وعصمت، ومحمد، وأحمد) ولكنه كما يقول لم يوفق في زواجه الثاني الذي دام اثني عشر عاماً، وفي دمشق التقى بالسيدة نهلة القدسي عام 1957 وعندما طلقها زوجها، تزوج منها عبد الوهاب، واستمر هذا الزواج حتى وفاته. وما تزال السيدة نهلة القدسي عقيلته تعمل على إذكاء الروح في أعماله الغنائية والموسيقية بالوسائل المختلفة، واعتمدت المطرب الملحن السوري صفوان بهلوان أفضل مؤدٍ لأعماله.
ومحمد عبد الوهاب هو مغني ألحانه الذاتية، ويقدَّر عددها طوال مسيرته الفنية بتسع وخمسين ومئتي أغنية، وعدد الأغاني التي لحنها لتسعة وعشرين مطرباً ومطربة لايزيد على ثلاث وأربعين ومئة أغنية، إضافة إلى أوبريت سينمائية واحدة «مجنون ليلى». وبلغ عدد شعراء وكتاب أغانيه ستة وأربعين شاعراً منهم: أحمد شوقي، وأحمد رامي، ونزار قباني[ر] وغيرهم. أما عدد القطع الموسيقية التي ألفها فلاتزيد على ثلاث وخمسين قطعة.
قَسَمَ محمد عبد الوهاب حياته الفنية إلى تسع مراحل هي:
ـ مرحلة التقليد والمحاكاة: قلَّد في هذه المرحلة المطربين الذين سبقوه أو عاصرهم مثل الشيخ سلامة حجازي[ر]، والشيخ سيد درويش وغيرهما، وقد ساعدت هذه المرحلة محمد عبد الوهاب على فهم المقامات الشرقية ودراستها والتعمق فيها، واستطاع بها الصمود أمام بعض أعلام الغناء الذين سبقوه كالشيخ أمين حسنين، وصالح عبد الحي[ر]، وزكي مراد[ر] وغيرهم، ولم تعط مرحلة التقليد هذه ثمراً.
ـ مرحلة العرض الصوتي، وتميزت بـ «يا جارة الوادي»، و«تلفتت ظبية الوادي»، و«كلنا نحب القمر»، و«خايف أقول اللي في قلبي»، و«ردت الروح» وغيرها من الأغاني والقصائد التي يمكن تصنيفها حسب تصنيف الأغنية المعروف في ذاك الوقت بالقصيدة والمونولوغ والطقطوقة؛ وعلى الرغم من تباين هذه الأغاني من حيث القالب الفني، فإن محمد عبد الوهاب الذي كان صوته في أوج نضارته وقوته وحيويته، أعطى هذه المرحلة مزيداً من العرض الصوتي فتفرد بطريقة خاصة في الإلقاء الغنائي مبتعداً في ذلك عن الفجاجة والابتذال، ولاسيما انتقاء الكلمات، منتقلاً بالغناء مرة واحدة إلى الرصانة والوقار، من دون أن يتخلى عن القفلة الجماهيرية، آخذاً في الحسبان كأسلافه الصوت الإنساني هو الأساس. أضف إلى هذا الإحساس الفني، حسن التعبير ورهافة الأداء اللذين لم يكونا معروفين في دنيا الطرب قبل محمد عبد الوهاب، سوى ما أعطاه محمد القصبجي لأم كلثوم[ر].
ـ مرحلة الغناء الحر، وتميزت بأغنية «في الليل لما خلي» وفي هذا المونولوغ الذي كتبه أحمد شوقي لجأ محمد عبد الوهاب إلى الغناء الحر، فلم يستعمل أي نوع من الإيقاع في المقدمة، واعتمد في الإلقاء الغنائي إلى حد بعيد على طريقة الإلقاء الغنائي في الغناء الكلاسيكي الأوربي، وهي طريقة لم يلجأ إليها أحد في الغناء العربي, واستطاع فيها أن يصور كلمات المونولوغ تصويراً يخال السامع فيه الكلمات خلقت لتؤدى بالطريقة التي أداها محمد عبد الوهاب، إذ استخدم في هذه الأغنية للمرة الأولى آلتي الكمان الجهير (فيولونسيل) والكمان الأجهر (الكونتر باص)[ر. الكمان]، إلى جانب آلتي «المثلث» و«الكاستنييت» المستعملتين في الإيقاعات الغربية.
ـ المرحلة السينمائية: تميزت هذه المرحلة في حياة محمد عبد الوهاب الفنية بخطين بارزين فرضتهما عليه السينما. ويمكن تقسيم هذه المرحلة حسب تطور عبد الوهاب الفني إلى قسمين: مرحلة «الوردة البيضاء»، و«دموع الحب»، و«يحيا الحب»، ومرحلة «يوم سعيد»، و«ممنوع الحب»، و«رصاصة في القلب»، و«لست ملاكاً» تتوسطهما مرحلة خاصة عُرِفَتْ بمرحلة القصيدة أو الأغنية الطويلة.
ففي مرحلة السينما الأولى يُلاحظ أن المشاهد السينمائية اضطرت عبد الوهاب إلى الأخذ بالأغنية القصيرة التي شاعت في نطاق واسع في أوربا، واعتمد عبد الوهاب في أغاني أفلامه الأولى على البساطة واختصار العرض الصوتي جزئياً، على خلاف أغاني أفلام المرحلة الثانية التي لجأ فيها إلى تبسيط الأغنية والألحان الدارجة، ليستطيع العامَّة من المستعمين أداءها بسهولة. ويرى بعض النقاد أن عبد الوهاب لجأ إلى ذلك لهدف تخليص الأغنية من التعقيدات الصوتية المعروفة عند المطربين الأوائل الذين سبقوه في مطلع القرن العشرين، بينما يرى بعضهم الآخر أنه لجأ إلى ذلك بسبب تراجع المساحات الصوتية التي كان يملكها قبلاً، التي لم تعد تسعفه في الوصول إلى الطبقات الصوتية التي كان يرتع فيها صوته في مراحله الأولى. وعلى الرغم من وجاهة الرأيين فإن محمد عبد الوهاب استطاع بلا ريب، في أغاني المرحلة السينمائية الثانية تحقيق هدف أساسي شوهدت آثاره في ترديد الجماهير لأغانيه بسهولة ويسر، متنقلاً بذلك من الأغنية الخاصة التي لايستطيع أداءها سوى مغنٍ محترف كما في قصيدتي «ياجارة الوادي» و«أعجبت بي» إلى الأغنية الدارجة التي يستطيع أداءها أي مغنٍ مهما كان صوته عادياً.
وفي المرحلة السينمائية أدخل محمد عبد الوهاب لأول مرة الإيقاعات الغربية الراقصة كإيقاعات الرومبا و التانغو وما إليها، والألحان الفولكلورية الروسية، إلى جانب الاقتباس من موسيقى الأعلام الذي شهدته هذه المرحلة بدءاً من ألحان سيد درويش، ومروراً ببتهوفن وشوبرت وبورودين وفردي وغيرهم من أعلام الكلاسيكيين، وانتهاءً بأغاني الموسيقى الراقصة التي لمعت على أيدي تينوروسي، ورينا كيتي في فرنسا. علماً بأن محاولات محمد عبد الوهاب في الاقتباس بدأت تحديداً قبل المرحلة السينمائية وذلك عندما غنى مونولوغه الشهير «أهون عليك» الذي اقتبس ألحانه الأساسية من أوبرا «عايدة» للموسيقي الإيطالي فردي.
ـ مرحلة القصيدة: ظهرت هذه المرحلة في المرحلة السينمائية التي امتدت طوال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. ففي هذه المرحلة لحن عبد الوهاب، كما يقول، للأغاني ذات النفس الطويل فكانت «الجندول» 1940 و«كيلوباترا» 1945، وكلتاهما من شعر على محمود طه، و«الكرنك» 1942 من شعر أحمد فتحي، وقد أكد فيها جميعاً الهدف الغنائي الذي بدأه في أوبريت «مجنون ليلى». ففي هذه الأوبريت والقصائد الآنفة الذكر انتقل محمد عبد الوهاب دفعة واحدة من تلحين الأحرف والكلمات ـ وهي الطريقة المتعارف عليها قديماًً في التلحين ـ إلى تلحين الجمل الزجلية أو صدر البيت أو عجزه مرة واحدة. وبمقارنة بسيطة بين أغاني عبد الوهاب التي سبقت هذه المرحلة مثل «في الليل لما خلي» و«ياجارة الوادي» والقصائد المذكورة، يستطيع المستمع أن يلمس الفرق الكبير في ذلك.
ـ مرحلة الشعر الغنائي: يقول محمد عبد الوهاب عن قصيدة «أيظن» إنه انتقل إلى مرحلة جديدة متطورة في الغناء هي مرحلة «الشعر الغنائي». وفي هذه المرحلة، كما يقول، حاول التعبير عن الكلمة، ويستشهد للتدليل على ذلك بقصيدتي «أيظن» لنزار قباني، وقصيدة «لا تكذبي» لكامل الشناوي، وأغنية «فاتت جنبنا» وظهرت بصوت عبد الحليم حافظ، ويتابع عبد الوهاب شرح هذه المرحلة فيقول: (أغاني تعبيرية … زي واحد يتكلم بلغة شاعرية ويادوب تسمع فيها الموسيقى، وطبعاً فيها طرب لأني لا أستطيع أن أبتعد عن الناس …).
ـ مرحلة أم كلثوم وهي المرحلة التي أعطى فيها محمد عبد الوهاب ما سماه النقاد بالشوامخ، وهي لم تستطع الوصول إلى القمة التي أعطاها صانع الشوامخ ـ السنباطي ـ في المرحلة نفسها للمطربة ذاتها. والشيء الجديد في ألحان عبد الوهاب لأم كلثوم يكمن أولاً في الموسيقى الخفيفة ذات الإيقاعات الراقصة، وثانياً في محاولته التخلص من القفلة الجماهيرية التي هذبها السنباطي وأعطاها قالبها النهائي، إلى قفلة جماهيرية أخرى تحل محلها كما في «أنت عمري»، و«أنت الحب»، و«هذه ليلتي»، و«فكروني»، ولكنه أخفق واستسلم لتيار السنباطي في ذلك فجرفه كما جرف من قبله الموجي[ر]، والمكاوي، وبليغ حمدي[ر]، وإن استطاع ذلك إلى حد بعيد في «أنت عمري» وحدها. وثالثاً نجاحه الكبير في إقناع أم كلثوم بإدخال آلات موسيقية لم تستعلمها في التخت الشرقي المتطور الذي يرافقها كآلات الأكورديون[ر] والكيتار[ر. القيثارة] الكهربائي والأورغ[ر. الأرغن] الكهربائي وغيرها، وقد قلده في ذلك فيما بعد جميع الذين لحنوا لأم كلثوم بما فيهم السنباطي.
أجود ما لحنه محمد عبد الوهاب لأم كلثوم من أغاني الحفلات، على الرغم من الألحان المقتبسة، «أنت الحب» التي تذكر بأسلوبه الكلاسيكي الذي غاب عن جمهور المستمعين. ومن الإذاعيات قصيدة نزار قباني «أصبح عندي الآن بندقية» وهي من توزيع الموسيقار الراحل «أندريا رايدر» التي تذكر بألحانها القوية وتوزيعها العلمي الدقيق بنشيد «الجامعة» من ألحان السنباطي الذي غنته أم كلثوم في عام 1936 في فيلم «نشيد الأمل».
ـ مرحلة الأغنية الوطنية والقومية التي امتدت طوال مسيرته الفنية، وتُقْسَمُ إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل ثورة تموز 1952 وما بعدها، ففي المرحلة الأولى لحن وغنى خمس عشرة أغنية، ما بين نشيد وأغنية طربية، منها أربع أغنيات للملك فاروق هي «الملك، والفن، والتاجين، والشباب» وفي هذه المرحلة مال إلى التطريب في الغناء الوطني. ومثالها «حب الوطن» عام 1933، و«الجهاد» 1941، و«دمشق» 1943، و«فلسطين» 1948.
وفي فترة ثورة تموز 1952وما بعدها لحن وغنى: لحن لغيره/42/نشيداً وأغنية وقصيدة في تمجيد الثورة وجمال عبد الناصر والوحدة والعروبة وفلسطين ومن أبرزها: «نشيد الحرية» 1952، و«دعاء الشرق والروابي الخضر» 1954، و«أصبح عندي الآن بندقية» 1969 التي شدت بها أم كلثوم.
ـ مرحلة الموسيقى الصامتة أو التصويرية أو الموسيقى التعبيرية كما سماها عبد الوهاب: تخلص منذ منتصف الثلاثينيات من قوالب التراث المعروفة في الموسيقى الشرقية عامة والعربية خاصة، ويقصد بها «السماعي، والبشرف، واللونغا، والتحميلة، والدولاب» جميعها[ر. الصيغ الموسيقية] وما إليها بعد أن عالج التأليف في بعض أنواعها ونجح، وكان هدفه من وراء ذلك تحرير الموسيقى العربية من قوالب التراث لأنها دخيلة عليها. ويبدو أن فاته، وهو في أوج إبداعه، بأن الموسيقى العربية هي الوارثة لهذا التراث، أو أنه أراد الانطلاق والتحرر من قيود القوالب الفنية للتراث في مرحلة تحريره للغناء، مرحلة «في الليل لماخلي»، فطلع بأول قطعة موسيقية متحررة في فيلم «الوردة البيضاء» بعنوان «فانتازي نهاوند». وبعد هذه القطعة، تألقت معزوفات عبد الوهاب الموسيقية، وتحمل أسماء لموسيقى مجردة لايمكن لها البَتَّةَ أن تحمل معنى حتمياً أو أن ترتبط بطريقة ما بالأسماء التي تحملها مثل: «شَغَل»، و«حبي»، و«ألف ليلة»، و«عتاب»، و«إليها»، و«من الشرق».
إن جميع القطع الموسيقية التي وضعها عبد الوهاب تحت اسم الموسيقى التعبيرية، وجميع المؤلفات الأخرى لسائر الموسيقيين العرب الذين قلدوا عبد الوهاب في ذلك، لا تخضع لأي قالب من قوالب التراث أو لأي قالب جديد متعارف عليه، وإنما تعتمد على حرية الأنغام والتعبير والانعتاق من القيود الفنية.
تلك هي مراحل التأليف عند محمد عبد الوهاب، ومهما قيل في هذه المراحل من نقد موضوعي أو غير موضوعي، له أو عليه، فإنه أعطى في حياته ما لم يستطع غيره أن يعطيه معتمداً على نفسه وعلى مكانته الموسيقية في تحقيق التمرد على الأوضاع الموسيقية البالية التي وجدها، كما أن التاريخ سيسجل لـه، كما سجل من قبل لسيد درويش، الثورة الموسيقية التي حمل لواءها بكل ما فيها، وسيحكم له أو عليه إن كانت هذه الثورة فوضوية أو نابعة من فكر أصيل.
صميم الشريف
Abdul Wahab (Mohammad-) - Abdul Wahab (Mohammad-)
عبد الوهاب (محمد ـ)
(1902ـ 1992)
في الخامسة من عُمُرِهِ ألحقه أبوه بكتَّاب الشيخ عبد العزيز عاشور الذي كان قاسياً بعض الشيء، وحفظ على يديه بعض أجزاء القران الكريم، وفي السابعة من عمره أخذ يتردد إلى المسجد ليستمع إلى تلاوات الشيخ محمد رفعت، وتواشيح علي محمود، وحلقات الذكر التي قال عبد الوهاب فيها: «كنت أرى وأسمع حلقات الذكر التي كان المصلون يقيمونها بعد صلاة الفجر أحياناً، وبعد صلاة العشاء في أحيان أخر. وبرغم أني كنت في السابعة، فإنني كنت أشعر بانقياد عجيب لأنغام الذكر الرتيبة.…» وفي السابعة أيضاً، بدأ عبد الوهاب يحفظ أغاني سلامة حجازي[ر] ويغنيها لرفاق الحي. عانى محمد عبد الوهاب في طفولته كثيراً من شيخ الكتَّاب، ومن أسرته بالضرب المبرح بسبب هربه الدائم من الكتَّاب، وقد ألزمته الأسرة في نهاية الأمر المواظبة قبل الظهر على كتَّاب الشيخ عاشور، وبالعمل بعد الظهر في محل الخياط محمود شمعون لقاء خمسة مليمات يومياً.
في العاشرة من عمره سمعه محمد شمعون «شقيق صاحب محل الخياطة، الذي كان يعمل ملحناً في فرقة فوزي الجزايرلي ليلاً وخياطاً في محل أخيه نهاراً» يغني فأخذه ليسمعه لفوزي الجزايرلي الذي وافق فوراً على العمل عنده ليغني بين فصول الرواية لقاء خمسة قروش لِلَّيلةِ الواحدة، وسماه «محمد بغدادي»، وكانت أغنية يونس القاضي «أنا عندي منجة وصوتي كمنجة» أول أغنية يشدو بها. وبعد شهر على ذلك فاجأه أخوه الكبير الشيخ حسن يغني في مسرح «الكلوب المصري» فشده بعنف، زاجراً إياه، وأخرجه من المسرح.
كان حب الغناء قد استشرى في وجدان محمد عبد الوهاب الصغير، فهرب مع سيرك جوال إلى دمنهور عام 1918حيث لبث يقدم فقرات غنائية باسمه الصريح ضمن عروض السيرك مدة أسبوع كامل عاد بعدها إلى البيت بعد أن توسط له الشيخ أحمد موسى.
استسلمت الأسرة أمام إصرار محمد عبد الوهاب على الغناء، ووجدت ألا مناص من ذلك، فاشترطت أن يتم ذلك تحت إشرافها، وهكذا تنفس الصعداء ولاسيما بعد أن وافقت أسرته على التحاقه بفرقة المحامي عبد الرحمن رشدي المسرحية ليغني بين فصول المسرحية الواحدة كما هي العادة. وفي العام نفسه، أي في عام 1918وبعد عودته مع الفرقة من المنيا، وفي أثناء تقديم الفرقة لمسرحية «الشمس المشرقة» التي أبدع فيها محمد عبد الوهاب تمثيلاً وغناءً، تدخَّل الشاعر أحمد شوقي[ر] بنفوذه لدى المسؤولين ليمنعه من التمثيل والغناء بموجب أمر من حكمدار القاهرة رسل باشا بسبب صغر سنه، وكان على محمد عبد الوهاب أن ينتظر ثلاث سنوات ليستطيع العمل من دون أن يعترض على عمله أحد. وفي عام 1921 عمل مع علي الكسار في مسرح الماجستيك، وفي هذا المسرح تعرَّف إلى سيد درويش[ر]. وفي العام نفسه ألَّف سيَّد درويش فرقته الخاصة، وقدم في تياترو برنتانيا أوبريت[ر. الأوبرا] «شهرزاد» التي أذاقته مرارة الإخفاق للمرة الأولى في حياته، ومع ذلك لم ييأس وقرر تقديمها ثانية بعد أن أسند دور البطولة الغنائية فيها لمحمد عبد الوهاب فأخفق هو الآخر.
في عام 1922 تعاقد محمد عبد الوهاب مع فرقة نجيب الريحاني[ر] للقيام برحلة فنية في بلاد الشام، حيث غنَّى في غزة والقدس وبيروت ودمشق، ليعود مع الريحاني بعد شهر واحد حاملين معهما الإخفاق مطلقاً.
انتسب محمد عبد الوهاب في عام 1924 إلى نادي الموسيقى الشرقي، الذي غدا فيما بعد معهد الموسيقى الشرقي، فدرس الموشحات على يدي درويش الحريري، وصفر علي، والعود على يدي محمد القصبجي[ر]. وبحث في أثناء ذلك عن عمل، فأثمر البحث عن تعيين «محمد أفندي عبد الوهاب» مدرساً للأناشيد بمدرسة «الخازندارة»، ولكنه لم يستمر في ذلك، وكان من تلامذته إحسان عبد القدوس. وفي العام ذاته؛ غنى محمد عبد الوهاب للمرة الأولى في حياته قصيدة «جددي يا نفس حظك» في فندق «سان استيفانو» في الإسكندرية بوصفه مطرباً مع تخت موسيقي[ر. الفرقة الموسيقية]، وليس بين فصول المسرحيات.
وفي تلك الليلة تبددت الكراهية التي غمرت قلبه على أحمد شوقي، وصار عبد الوهاب من أحب الناس إلى قلب أحمد شوقي الذي رعاه حتى وفاته، والأغنية الأولى التي غناها من نظم شوقي هي دور [ر. الأغنية]:
«توحشني وانت ويايا
واشتاق لك وعنيك في عنينا»
وكان على محمد عبد الوهاب في عام 1925 أن يخوض معركة مع الكاتبين الكبيرين إبراهيم عبد القادر المازني[ر] وعباس محمود العقاد[ر] بسبب صداقته لأحمد شوقي وعداوتهما لـه، واستطاعت فاطمة (روز اليوسف) أن تبدد هذا العداء عندما دعت المازني والعقاد مع أحمد رامي[ر] ومحمد التابعي إلى سهرة في بيتها للاستماع إلى محمد عبد الوهاب، وقد أشاد الجميع بصوته وقدراته الفنية، حتى أن العقاد مدحه بقصيدة نشرها في مجلة «البلاغ»، كما كتب المازني والتابعي مقالات تثني عليه. وفي العام نفسه لحن عبد الوهاب لمسرح نجيب الريحاني[ر] أوبريت «قنصل الوز»، ولمنيرة المهدية أوبريت «المظلومة»، وأتم تلحين «كيلوباترا» التي مات عنها سيد درويش دون أن ينهيها، وقام بتمثيل دور «أنطونيو» أمام منيرة المهدية، وصار يتقاضى منها عشر جنيهات لِلِّيْلَةِ الواحدة. وبين الأعوام 1925ـ 1927 وجد محمد عبد الوهاب نفسه مشهوراً مطرباً وملحناً وممثلاً. لم يدم تعامله مع منيرة المهدية سوى شهرين، إذ انتقل للغناء في دار التمثيل العربي، ومن ثم غنى في المنصورة ودمنهور والإسكندرية وغيرها.
في عام 1927 اصطحبه شوقي معه إلى باريس، وتعرف في الباخرة ملك العراق فيصل الأول الذي دعاه ليغني في عيد جلوسه، فغنى له قصيدة شوقي «يا شراعاً وراء دجلة». ومنذ غنى للملك فيصل لُقِّب عبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء، والمطرب النابغة والموسيقار المتجدد، ومنذ عام 1928 وحتى عام 1931صار يغني أيام الثلاثاء والخميس، وأحياناً يوم الأحد في مسرح رمسيس لقاء عشرين جنيهاً لليلة الواحدة، وكان هذا المبلغ وقتذاك يعد ثروة كبيرة.
في العام 1931 بدأ رحلة التطور في الغناء، وانتقل إلى محاكاة الغناء الأوبرالي في الغناء التقليدي العربي كما في مونولوغي «أهون عليك» و«في الليل لما خلي».
في عام 1932حل عبد الوهاب ضيفاً على فكري أباظة في «الزقازيق»، بعد وفاة أحمد شوقي، ليغني فيها، وهناك تعرف إلى المخرج محمد عبد الكريم[ر]، وفوجئ به يطلب إليه أن يغني في فيلم سينمائي، ووقع محمد عبد الوهاب تحت إغراء جملة استرعت انتباهه: «في المسرح يسمعك خمسمئة نفر، وفي السينما ملايين الناس في الوطن العربي).
في الرابع من كانون الأول 1933عرض أول أفلامه «الوردة البيضاء» بنجاح كبير ومذهل، ثم تتالت أفلامه: «دموع الحب» 1935، و«يحيا الحب» 1937، و«يوم سعيد» 1939، و«ممنوع الحب» 1942، و«رصاصة في القلب» 1944، و«لست ملاكاً» 1946، و«غزل البنات» 1949. وقد غنى في هذه الأفلام ولحَّن إحدى وسبعين أغنية، كان لها الدور الأكبر في تطور الأغنية العربية، وفي تطور التخت الموسيقي, وفي دخول عدد كبير من الآلات الموسيقية الغربية إلى الفرقة الموسيقية العربية. ويعد محمد عبد الوهاب مع القصبجي والسنباطي[ر] وزكريا أحمد[ر] العمالقة الذين ابتدعوا أسلوباً للأغنية السينمائية لاتحيد عنه.
تزوج محمد عبد الوهاب ثلاث مرات: الأولى من سيدة ثرية تكبره بعشرين عاماً رفض أن يذكر اسمها ورمز لها بحرف «ز» ودام هذا الزواج عشر سنوات من عام 1931 إلى 1941. وتزوج في عام 1944من السيدة إقبال نصار ورُزِقَ منها بخمسة أولاد، ثلاث بنات وولدين (عائشة، وعفت، وعصمت، ومحمد، وأحمد) ولكنه كما يقول لم يوفق في زواجه الثاني الذي دام اثني عشر عاماً، وفي دمشق التقى بالسيدة نهلة القدسي عام 1957 وعندما طلقها زوجها، تزوج منها عبد الوهاب، واستمر هذا الزواج حتى وفاته. وما تزال السيدة نهلة القدسي عقيلته تعمل على إذكاء الروح في أعماله الغنائية والموسيقية بالوسائل المختلفة، واعتمدت المطرب الملحن السوري صفوان بهلوان أفضل مؤدٍ لأعماله.
ومحمد عبد الوهاب هو مغني ألحانه الذاتية، ويقدَّر عددها طوال مسيرته الفنية بتسع وخمسين ومئتي أغنية، وعدد الأغاني التي لحنها لتسعة وعشرين مطرباً ومطربة لايزيد على ثلاث وأربعين ومئة أغنية، إضافة إلى أوبريت سينمائية واحدة «مجنون ليلى». وبلغ عدد شعراء وكتاب أغانيه ستة وأربعين شاعراً منهم: أحمد شوقي، وأحمد رامي، ونزار قباني[ر] وغيرهم. أما عدد القطع الموسيقية التي ألفها فلاتزيد على ثلاث وخمسين قطعة.
قَسَمَ محمد عبد الوهاب حياته الفنية إلى تسع مراحل هي:
ـ مرحلة التقليد والمحاكاة: قلَّد في هذه المرحلة المطربين الذين سبقوه أو عاصرهم مثل الشيخ سلامة حجازي[ر]، والشيخ سيد درويش وغيرهما، وقد ساعدت هذه المرحلة محمد عبد الوهاب على فهم المقامات الشرقية ودراستها والتعمق فيها، واستطاع بها الصمود أمام بعض أعلام الغناء الذين سبقوه كالشيخ أمين حسنين، وصالح عبد الحي[ر]، وزكي مراد[ر] وغيرهم، ولم تعط مرحلة التقليد هذه ثمراً.
ـ مرحلة العرض الصوتي، وتميزت بـ «يا جارة الوادي»، و«تلفتت ظبية الوادي»، و«كلنا نحب القمر»، و«خايف أقول اللي في قلبي»، و«ردت الروح» وغيرها من الأغاني والقصائد التي يمكن تصنيفها حسب تصنيف الأغنية المعروف في ذاك الوقت بالقصيدة والمونولوغ والطقطوقة؛ وعلى الرغم من تباين هذه الأغاني من حيث القالب الفني، فإن محمد عبد الوهاب الذي كان صوته في أوج نضارته وقوته وحيويته، أعطى هذه المرحلة مزيداً من العرض الصوتي فتفرد بطريقة خاصة في الإلقاء الغنائي مبتعداً في ذلك عن الفجاجة والابتذال، ولاسيما انتقاء الكلمات، منتقلاً بالغناء مرة واحدة إلى الرصانة والوقار، من دون أن يتخلى عن القفلة الجماهيرية، آخذاً في الحسبان كأسلافه الصوت الإنساني هو الأساس. أضف إلى هذا الإحساس الفني، حسن التعبير ورهافة الأداء اللذين لم يكونا معروفين في دنيا الطرب قبل محمد عبد الوهاب، سوى ما أعطاه محمد القصبجي لأم كلثوم[ر].
ـ مرحلة الغناء الحر، وتميزت بأغنية «في الليل لما خلي» وفي هذا المونولوغ الذي كتبه أحمد شوقي لجأ محمد عبد الوهاب إلى الغناء الحر، فلم يستعمل أي نوع من الإيقاع في المقدمة، واعتمد في الإلقاء الغنائي إلى حد بعيد على طريقة الإلقاء الغنائي في الغناء الكلاسيكي الأوربي، وهي طريقة لم يلجأ إليها أحد في الغناء العربي, واستطاع فيها أن يصور كلمات المونولوغ تصويراً يخال السامع فيه الكلمات خلقت لتؤدى بالطريقة التي أداها محمد عبد الوهاب، إذ استخدم في هذه الأغنية للمرة الأولى آلتي الكمان الجهير (فيولونسيل) والكمان الأجهر (الكونتر باص)[ر. الكمان]، إلى جانب آلتي «المثلث» و«الكاستنييت» المستعملتين في الإيقاعات الغربية.
ـ المرحلة السينمائية: تميزت هذه المرحلة في حياة محمد عبد الوهاب الفنية بخطين بارزين فرضتهما عليه السينما. ويمكن تقسيم هذه المرحلة حسب تطور عبد الوهاب الفني إلى قسمين: مرحلة «الوردة البيضاء»، و«دموع الحب»، و«يحيا الحب»، ومرحلة «يوم سعيد»، و«ممنوع الحب»، و«رصاصة في القلب»، و«لست ملاكاً» تتوسطهما مرحلة خاصة عُرِفَتْ بمرحلة القصيدة أو الأغنية الطويلة.
ففي مرحلة السينما الأولى يُلاحظ أن المشاهد السينمائية اضطرت عبد الوهاب إلى الأخذ بالأغنية القصيرة التي شاعت في نطاق واسع في أوربا، واعتمد عبد الوهاب في أغاني أفلامه الأولى على البساطة واختصار العرض الصوتي جزئياً، على خلاف أغاني أفلام المرحلة الثانية التي لجأ فيها إلى تبسيط الأغنية والألحان الدارجة، ليستطيع العامَّة من المستعمين أداءها بسهولة. ويرى بعض النقاد أن عبد الوهاب لجأ إلى ذلك لهدف تخليص الأغنية من التعقيدات الصوتية المعروفة عند المطربين الأوائل الذين سبقوه في مطلع القرن العشرين، بينما يرى بعضهم الآخر أنه لجأ إلى ذلك بسبب تراجع المساحات الصوتية التي كان يملكها قبلاً، التي لم تعد تسعفه في الوصول إلى الطبقات الصوتية التي كان يرتع فيها صوته في مراحله الأولى. وعلى الرغم من وجاهة الرأيين فإن محمد عبد الوهاب استطاع بلا ريب، في أغاني المرحلة السينمائية الثانية تحقيق هدف أساسي شوهدت آثاره في ترديد الجماهير لأغانيه بسهولة ويسر، متنقلاً بذلك من الأغنية الخاصة التي لايستطيع أداءها سوى مغنٍ محترف كما في قصيدتي «ياجارة الوادي» و«أعجبت بي» إلى الأغنية الدارجة التي يستطيع أداءها أي مغنٍ مهما كان صوته عادياً.
وفي المرحلة السينمائية أدخل محمد عبد الوهاب لأول مرة الإيقاعات الغربية الراقصة كإيقاعات الرومبا و التانغو وما إليها، والألحان الفولكلورية الروسية، إلى جانب الاقتباس من موسيقى الأعلام الذي شهدته هذه المرحلة بدءاً من ألحان سيد درويش، ومروراً ببتهوفن وشوبرت وبورودين وفردي وغيرهم من أعلام الكلاسيكيين، وانتهاءً بأغاني الموسيقى الراقصة التي لمعت على أيدي تينوروسي، ورينا كيتي في فرنسا. علماً بأن محاولات محمد عبد الوهاب في الاقتباس بدأت تحديداً قبل المرحلة السينمائية وذلك عندما غنى مونولوغه الشهير «أهون عليك» الذي اقتبس ألحانه الأساسية من أوبرا «عايدة» للموسيقي الإيطالي فردي.
ـ مرحلة القصيدة: ظهرت هذه المرحلة في المرحلة السينمائية التي امتدت طوال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. ففي هذه المرحلة لحن عبد الوهاب، كما يقول، للأغاني ذات النفس الطويل فكانت «الجندول» 1940 و«كيلوباترا» 1945، وكلتاهما من شعر على محمود طه، و«الكرنك» 1942 من شعر أحمد فتحي، وقد أكد فيها جميعاً الهدف الغنائي الذي بدأه في أوبريت «مجنون ليلى». ففي هذه الأوبريت والقصائد الآنفة الذكر انتقل محمد عبد الوهاب دفعة واحدة من تلحين الأحرف والكلمات ـ وهي الطريقة المتعارف عليها قديماًً في التلحين ـ إلى تلحين الجمل الزجلية أو صدر البيت أو عجزه مرة واحدة. وبمقارنة بسيطة بين أغاني عبد الوهاب التي سبقت هذه المرحلة مثل «في الليل لما خلي» و«ياجارة الوادي» والقصائد المذكورة، يستطيع المستمع أن يلمس الفرق الكبير في ذلك.
ـ مرحلة الشعر الغنائي: يقول محمد عبد الوهاب عن قصيدة «أيظن» إنه انتقل إلى مرحلة جديدة متطورة في الغناء هي مرحلة «الشعر الغنائي». وفي هذه المرحلة، كما يقول، حاول التعبير عن الكلمة، ويستشهد للتدليل على ذلك بقصيدتي «أيظن» لنزار قباني، وقصيدة «لا تكذبي» لكامل الشناوي، وأغنية «فاتت جنبنا» وظهرت بصوت عبد الحليم حافظ، ويتابع عبد الوهاب شرح هذه المرحلة فيقول: (أغاني تعبيرية … زي واحد يتكلم بلغة شاعرية ويادوب تسمع فيها الموسيقى، وطبعاً فيها طرب لأني لا أستطيع أن أبتعد عن الناس …).
ـ مرحلة أم كلثوم وهي المرحلة التي أعطى فيها محمد عبد الوهاب ما سماه النقاد بالشوامخ، وهي لم تستطع الوصول إلى القمة التي أعطاها صانع الشوامخ ـ السنباطي ـ في المرحلة نفسها للمطربة ذاتها. والشيء الجديد في ألحان عبد الوهاب لأم كلثوم يكمن أولاً في الموسيقى الخفيفة ذات الإيقاعات الراقصة، وثانياً في محاولته التخلص من القفلة الجماهيرية التي هذبها السنباطي وأعطاها قالبها النهائي، إلى قفلة جماهيرية أخرى تحل محلها كما في «أنت عمري»، و«أنت الحب»، و«هذه ليلتي»، و«فكروني»، ولكنه أخفق واستسلم لتيار السنباطي في ذلك فجرفه كما جرف من قبله الموجي[ر]، والمكاوي، وبليغ حمدي[ر]، وإن استطاع ذلك إلى حد بعيد في «أنت عمري» وحدها. وثالثاً نجاحه الكبير في إقناع أم كلثوم بإدخال آلات موسيقية لم تستعلمها في التخت الشرقي المتطور الذي يرافقها كآلات الأكورديون[ر] والكيتار[ر. القيثارة] الكهربائي والأورغ[ر. الأرغن] الكهربائي وغيرها، وقد قلده في ذلك فيما بعد جميع الذين لحنوا لأم كلثوم بما فيهم السنباطي.
أجود ما لحنه محمد عبد الوهاب لأم كلثوم من أغاني الحفلات، على الرغم من الألحان المقتبسة، «أنت الحب» التي تذكر بأسلوبه الكلاسيكي الذي غاب عن جمهور المستمعين. ومن الإذاعيات قصيدة نزار قباني «أصبح عندي الآن بندقية» وهي من توزيع الموسيقار الراحل «أندريا رايدر» التي تذكر بألحانها القوية وتوزيعها العلمي الدقيق بنشيد «الجامعة» من ألحان السنباطي الذي غنته أم كلثوم في عام 1936 في فيلم «نشيد الأمل».
ـ مرحلة الأغنية الوطنية والقومية التي امتدت طوال مسيرته الفنية، وتُقْسَمُ إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل ثورة تموز 1952 وما بعدها، ففي المرحلة الأولى لحن وغنى خمس عشرة أغنية، ما بين نشيد وأغنية طربية، منها أربع أغنيات للملك فاروق هي «الملك، والفن، والتاجين، والشباب» وفي هذه المرحلة مال إلى التطريب في الغناء الوطني. ومثالها «حب الوطن» عام 1933، و«الجهاد» 1941، و«دمشق» 1943، و«فلسطين» 1948.
وفي فترة ثورة تموز 1952وما بعدها لحن وغنى: لحن لغيره/42/نشيداً وأغنية وقصيدة في تمجيد الثورة وجمال عبد الناصر والوحدة والعروبة وفلسطين ومن أبرزها: «نشيد الحرية» 1952، و«دعاء الشرق والروابي الخضر» 1954، و«أصبح عندي الآن بندقية» 1969 التي شدت بها أم كلثوم.
ـ مرحلة الموسيقى الصامتة أو التصويرية أو الموسيقى التعبيرية كما سماها عبد الوهاب: تخلص منذ منتصف الثلاثينيات من قوالب التراث المعروفة في الموسيقى الشرقية عامة والعربية خاصة، ويقصد بها «السماعي، والبشرف، واللونغا، والتحميلة، والدولاب» جميعها[ر. الصيغ الموسيقية] وما إليها بعد أن عالج التأليف في بعض أنواعها ونجح، وكان هدفه من وراء ذلك تحرير الموسيقى العربية من قوالب التراث لأنها دخيلة عليها. ويبدو أن فاته، وهو في أوج إبداعه، بأن الموسيقى العربية هي الوارثة لهذا التراث، أو أنه أراد الانطلاق والتحرر من قيود القوالب الفنية للتراث في مرحلة تحريره للغناء، مرحلة «في الليل لماخلي»، فطلع بأول قطعة موسيقية متحررة في فيلم «الوردة البيضاء» بعنوان «فانتازي نهاوند». وبعد هذه القطعة، تألقت معزوفات عبد الوهاب الموسيقية، وتحمل أسماء لموسيقى مجردة لايمكن لها البَتَّةَ أن تحمل معنى حتمياً أو أن ترتبط بطريقة ما بالأسماء التي تحملها مثل: «شَغَل»، و«حبي»، و«ألف ليلة»، و«عتاب»، و«إليها»، و«من الشرق».
إن جميع القطع الموسيقية التي وضعها عبد الوهاب تحت اسم الموسيقى التعبيرية، وجميع المؤلفات الأخرى لسائر الموسيقيين العرب الذين قلدوا عبد الوهاب في ذلك، لا تخضع لأي قالب من قوالب التراث أو لأي قالب جديد متعارف عليه، وإنما تعتمد على حرية الأنغام والتعبير والانعتاق من القيود الفنية.
تلك هي مراحل التأليف عند محمد عبد الوهاب، ومهما قيل في هذه المراحل من نقد موضوعي أو غير موضوعي، له أو عليه، فإنه أعطى في حياته ما لم يستطع غيره أن يعطيه معتمداً على نفسه وعلى مكانته الموسيقية في تحقيق التمرد على الأوضاع الموسيقية البالية التي وجدها، كما أن التاريخ سيسجل لـه، كما سجل من قبل لسيد درويش، الثورة الموسيقية التي حمل لواءها بكل ما فيها، وسيحكم له أو عليه إن كانت هذه الثورة فوضوية أو نابعة من فكر أصيل.
صميم الشريف