نجوى بن شتوان تكتب: تقشير المعنى والشراكات المعيقة
- بقلمنجوى بن شتوان
عن الكتابة في مرحلة لاحقة انتقلت للكتابة في السرير، وكلما كبرت وجدت نفسي أفضل السرير حتى مع توفر الطاولة والكرسي.
يبدأ التنوير من خلال الفم: طهر نظامك الغذائي، وكذلك لغتك. تحدث فقط بربع الكلمات التي ترغب في التفوه بها، تحدث بالكلمات الضرورية بنسبة مئة بالمئة. يمكنك الحديث بكلمات ضرورية بنسبة تسعين بالمئة، وعشرة بالمئة بأصوات وجدانية. لا تهاجم بالكلمات. لا تتحدث ﻷحدٍ لا يرغب في الاستماع إليك.
أليخاندرو خوردوڤسكي
أحببت شيئًا مملًّا
جزء من تعريف ما نفعله نحن الكُتاب يأتي من محيطنا الذي قد يفهم ما نفعله وقد لا يفهم، وقد يقرأ وقد لا يقرأ، وقد يقبل وقد يرفض، وقد يهتم وقد يُغفل.
في المجمل، اعتبر محيطي ما أفعله عبثًا لا فائدة منه، وربما كان على حق، غير أني أجد نفسي في ممارسة الكتابة أكثر من يقين محيطي بأنه على صواب. ورغم عدم معرفتي إلى أين تقودني هذه المزاولة المحببة إلى نفسي، فإنني لم أطلق على نفسي صفة كاتبة أو قاصة أو روائية. كنت وما زلت أزاول هواية تمتعني وتجعلني أتنفس، تزيح عني قدرًا من أثقال الحياة، وتسمح لي بأن أكتب ما أفكر به، لذا خشيت من أن تحويلها إلى مصنف أدائي أو وظيفي سيجعل منها عبئًا بدلًا من أن تظل متنفسًا، وهو ما يدفعني إلى عدم تقديم نفسي بها للآخرين ما لم يبادروني هم بها.
في الكتابة اختبرت ضيقًا من الآخرين الذين لا يجدون حرجًا في مطالبتي بالكتابة كما يريدون كما لو كنت ظلًّا لهم أو آلة ناسخة لأفكارهم. لطالما أرادوا أن أروي القصص التي تُظهرهم أبطالًا خيرين وضحايا لشرور الآخرين. بالنسبة لهم كانت تلك هي الحقيقة التي يجب أن يوثقها الأدب عنهم، ولأجلها رووا لي الكثير من الأسرار عن حيوات أصدقائهم ومنافسيهم، وليس عن أنفسهم وإن مازت رواياتهم باستخدام حبكات وحيل سردية تجعل من يستمع يصدق كل ما يروى له.
لقد استفدت من أساليب الحبك التي يستعملونها، ومن الأكاذيب التي يروونها دون أن تحوم حولها شبهة الأكاذيب، حتى أحسبني إن لم أك كاتبة فكنت لأصبح، ففي مجتمعنا شئت أم أبيت أنت كاتب بشكلٍ ما!
في سن صغيرة، وفي بداية علاقتي بالكتابة، مارستها حسب الوقت الذي لا أكون فيه مشغولة بأعمال البيت، ثم حين استقرت الممارسة صرت أفضل وقت الصباح عن المساء، وكان الجلوس الطويل الذي تتطلبه أثقل جزء في الممارسة كلها. إنه يختص بنقل أحداث كاملة عبر النقر على الحروف التي تُشكل كلمات لصياغة جمل مصنوعة بشكل جيد. رأيت فيها عملًا هندسيًّا يبدأ من الأصغر إلى الأكبر، ومن الداخل إلى الخارج، ويختلط فيه الإبداع بالملل، لكنه كأي عمل روتيني يزاوله موظف في مؤسسة ما، عليه التخلص منه بأدائه، أما أفضل جزء في الكتابة فهو الجانب الذي يتعلق بعملية الخلق والابتداع، وينصب على التفاصيل في الفكرة وتفحص زوايا التناول والتشويق، كان يتأتى لي إما بالجلوس وحدي وإما بالمشي لمسافات طويلة حتى تكشف المرأة التي في داخلي عن نفسها، وتمليني ما أكتب دون تشويش.
مع المران أمكنني تقدير الوقت الذي تفضله للقائي، فهي إما تأتي باكرًا وأنا في السرير ما بين الصحوة والنوم وإما عند المشي الطويل وحدي.
ماذا تفعل الكتابة؟ ما غايتها؟
شيء كلا شيء.
أطارد بها المعنى إلى ما لا نهاية، وأنتشي باصطياد الأفكار كفراشاتٍ صغيرة غير مرئية منثورة من حولي، أجمع منها أجملها في حركة مستمرة. أحوم حول الأشياء لأكتشف ما بعد الظلام فيها، ثم ماذا بعدُ؟ لا أشعر بأني سأفعل بحقيقتها شيئًا إن وصلت إليها، مجرد متعة اختبار السفر الطويل إلى المعنى، والحياة تصبح ممكنة ومحتملة في وجود المتع، ثم إذا غدت الأشياء بينه صريحة صارت أقرب لواقع غير مثير، أدير له ظهري وأمضي كشيء قتلته ألفته عندي.
بالكتابة حاربت مللًا وُلدت به بمللٍ أعيشه، أردت وأريد أن أنجو منه لبعض الوقت. أكتب عن الأشياء السيئة بطريقة ممتعة وأحكي عن الفظاعات بطريقة مسلية، وأسرد المبكي بطريقة مضحكة، وألهو بنفسي عن نفسي حتى يمضي الوقت. أحاول أن أتخطى بها نفسي وأعيش حياتي دون تأثر بما حدث ويحدث، بطريقة مشابهة لما فعله رينيه ماغريت عندما تخطى الواقع بالغليون الذي رسمه وكتب تحته: "هذا ليس غليونًا".
الكاتب ابن كل شيء
أنا كائن خائف وقلق، هكذا طبعتني البيئة التي فتحت عيني فيها. كما أن لدي مستوياتي من الكائن الاجتماعي والانطوائي معًا. كائن يستطيع أن يعتزل الناس ويعيش كروبنسون كروزو دون أن يتأثر حسه الاجتماعي بالعزلة، وكائن يستطيع أن يعيش مثل بائع الطعام في المطاعم الشعبية دون أن يتأثر حسه الخاص بالآخرين.
استغرق مني صنع هذا التوازن وقتًا طويلًا، بدأ من البيت قبل أن يتسع إلى المجتمع.
كنت شخصًا مختلفًا في عائلتي، لم يجمعني بها تعاطي الأدب والفن، كنت أحب شيئًا لم يسبقني إليه أحد في عائلتي، الشيء الذي هيأني للعزلة المنتجة، فالكتابة لا تتوافق بطبيعتها مع كثرة التواصل الاجتماعي والاكتظاظ بالآخرين.
في البيت الأمي الذي وُلدت فيه لم يكن هناك ما يؤسس لكاتب -مكتبة/ كُتب/ جرائد/ أفلام/ لوحات، إلخ- بل إنه لا وجود حتى لطاولة أو كرسي. كنا أنا وإخوتي نكتب فروضنا الدراسية على الأرض، ولم يكن هذا غريبًا في حينه!
كانت الأرض طاولتي، أسند ظهري إلى الحائط وعلى ساقي أضع أوراقي، كما أن المشي الطويل أو القصير لم يكن متاحًا، فطبيعة بلادي متحرشة بالإناث في الفضاء العام، لذلك لم يسعني التواصل مع نفسي بالمشي إلا بعد مغادرتها إلى جغرافيا أخرى من ثقافتها المشي والفن.
في مرحلة لاحقة انتقلت للكتابة في السرير، وكلما كبرت وجدت نفسي أفضل السرير حتى مع توفر الطاولة والكرسي. ساعدني المكث فيه ساعة على الأقل في الصباح على تلقي وحي مجهول المصدر، أهرع لتسجيله قبل أن أعد قهوتي ويتبخر.
تعاطي الأدب يسليني ويلهيني عن قلق وجودي حتى لو لم يقرأني أحد. تغيرت عاداتي بعد دخول الإنترنت إلى حياتنا، أصبحت أفتتح يومي بمطالعة الأخبار قبل الذهاب للعمل على الصفحة التي خلفتها على كمپيوتري بالأمس، وقد تكون صفحة حزينة جدًّا أفتتح بها يومي، لكن علي الصمود والتحمل.
كنت أسجل كل شيء وأنا على يقين بأني سأتخلص من نصف ما أكتبه لاحقًا، تمامًا كيقيني بأنني لن أحتفظ بكل ما أتناوله من طعام وشراب، إذ هناك دائمًا فائض من كل شيء سيُستبعَد بطريقةٍ ما.
عندما يأتي دور "السكين" أقطع الكثير من مجموع ما كتبت، فما يتبقى لا يأتي إلا مع ما يجب أن يذهب، وهكذا.
كان التسويف في البدء بأي عمل سردي يطالني، فأنا ملولة، وكثيرًا ما أجلت لغير ما سبب فقط لدرايتي بأن هناك قدرًا كبيرًا من الجلوس الطويل في انتظاري، تساعدني على التسويف عدة مشتتات الإقلاع عنها مشابهٌ لقرار الإقلاع عن التدخين والناس، قد أتخذه وأنا أضحك في جلسة مع الأصدقاء، مثلما اتخذت قرار التخلص من سلطة التلفزيون خلال مشاهدتي التلفزيون.
المؤسسة الاجتماعية سجنًا
كما أشرت قبلًا، وُلدت في بيت أمي بين عدد كبير من الإخوة، بيت لم توجد به مكتبة، فما لا تستعمله العائلة لا حاجة بها إلى اقتنائه أو الانشغال به، لذلك لم يكن أمامي إلا بعض كُتب مستعارة من ابن الجيران. كانت بداياتي مع كُتب الأدب الغربي التي استعرت بعضها منه، وأخرى جلبتها لي صديقتي في المدرسة الثانوية من مكتبة أخيها.
وجدت في المطبخ راحتي، إذ أصبح المكان الوحيد الهاديء في بيتنا المحتشد، خاصة أننا اقتنينا طاولة لدائن فيه، أي صار لدي طاولة عمل ومكان خاص نسبيًّا. بمرور الوقت انتقلت للعيش وحدي، فلم يعد المطبخ يعنيني حتى في ساعات الطعام التي يتوجب علي أن آكل فيها، انقطعت علاقتي بطاولته واستقرت علاقتي بالكتابة في السرير. أما القراءة فاستمرت بالاستعارة من مكتبة صديق مليئة بالكُتب، وفي الوقت الحاضر أصبحت من رواد الكتاب الإلكتروني PDF لسهولة التنقل به.
لم أتخذ أية طقوس خلال الكتابة، فالكتابة عمل روتيني لا يطريه وجود سجائر أو قهوة أو أطعمة أو مشاريب معينة. إنها أشبه بتدريب عسكري تؤكل خلاله الضفادع والأرانب حية، رغم أن المعركة الواقعية حين تجري لن تحظرها الضفادع وستفر منها الأرانب وجميع الكائنات. فضلت طقس التدرب على الجوع خلال الكتابة مقابل أن تكون مكافأتي خوض معركة في أرض بها أطعمة جاهزة، فقد جعت بما فيه الكفاية في أثناء الكتابة.
حين أستغرق في الكتابة أحب إنهاء الجزء الذي أكتبه حتى على حساب وقت الطعام والراحة، فالجوع يمكن معالجته، لكن الحماسة للتدوين لن تأتى في أي وقت.
الكتابة خارج الوطن
منذ انتقلت للعيش في أوروپا أصبح وقتي ملكي، القليل من الصحبة، والكثير من الالتصاق بالبيت، ومن ثم القراءة والتفكير والصلاة ومشاهدة الأفلام.
وفي زمن التواصل السريع حبذت عدم الوقوع في كماشة "مجتمعات الآخرين"، وألا أكون في متناولهم طيلة الوقت.
معظم الكُتاب تتواجد بجانبهم زوجاتهم وشريكاتهم في أوقات الكتابة، يبدو حضورهن واضحًا في حياتهم باعتبارهم مبدعين. في المقابل لم يحدث أن سمعت عن كاتبة عربية حدث لها ذلك، وأنا على رأس قائمة من لم يوجد أثر لهؤلاء في حياتهن من قريب أو من بعيد. الكتابة تجعل النساء وحيدات، وتحيلهن إلى غريبات، فالروابط الاجتماعية في العالم العربي تقتل الموهبة ولا تنميها في الغالب، والمرأة المبدعة تقتل بشكل يتوازى مع وأد عصري يغرقها في المهام والتكليفات الحياتية، وترتهنها الشراكات المعيقة، فيسرق وقتها لحساب حيوات الآخرين من باب الواجب. لذلك أميل لعيش حياتي متخففة من أعباء الروابط الاجتماعية، خالية من الدعم الاجتماعي على طريقتنا والذي لا يعدو عن كونه وصاية ذات تسمية أنيقة.
الأسلوب تقشير للمعنى
هل يمكننا وصف عملية الكتابة؟
هل يمكننا تقديم شرح وافٍ عما نفعله بالكلمات والأفكار، وأن نضرب الأمثلة على ذلك؟
هل يمكن تحويل حالة ذهنية نفسية إلى وصفة؟ الأمر يشبه سرد حلم على مجموعة من الناس، سيبني كل منهم تصوره الخاص عن المنام من خلال ما يقال.
ذات مرة سألت امرأة تصبغ النساء بالحناء: كيف توصلت إلى عمل هذه الأشكال الرائعة؟
أجابتني: أضعها في كيس تزيين الحلويات، ثم أبدأ التحريك.
شرحت لي الشكل الظاهري، لكنها لم تشرح لي كيفية التحريك، وهو أهم جزء في عملية الصباغة تمارسه بشكل عفوي ملفت.
ومرة أخرى سألت امرأة إفريقية تضفر الشعر بتشكيلات بديعة: كيف تفعلين هذا؟
أجابتني: يستغرق مني الأمر ثلاث أو أربع ساعات بعد أن أعرف ملمس الشعر.
شرحت لي تكلفة العمل بالدقيقة، لكنها لم تشرح لي ما الملمس.
ومرة أخرى سألت أمي عن أكلة معقدة، كيف تعدها بمذاق لذيذ دون وصفة وميزان؟
فأجابتني: يجب أن تكون المواد طرية والكمية متوازنة.
شرحت لي كل شيء ما عدا توزيع الاختلاف بين المكونات، وهو ما يُعرف بالتوازن.
هناك جوانب في كل عمل مميز لا يمكن وصفها بدقة مهما شرحناه مجهريًّا.
الإبداع كذلك حركة متسقة بإيقاع خفي وملمس وتوازن خاص.
آلية الكتابة
لا أعرف كيف يصبح الكاتب كاتبًا. كل ما أدركه أنه يتوجب علي أن أبذل جهدي لقول ما أريده بشكل شائق غير مشحون بالفلسفة أو المصطلحات، ولا مفخخ بالتنظير والتشنجات الثورية التي يمتلئ بها الواقع. علي تحويل مسار النهر إلى ناحيةٍ جديدة ببساطة ودون تعقيد.
إن أفضل تدريب على الكتابة هو أن نكتب بالتزام وصبر ومثابرة دون اعتماد على الموهبة وحدها، وعدم رهن ما نفعله بالحظ، فالحظ قد يتخلى وكثيرًا ما سيفعل ويتخلى. علينا أن نعقد اتفاقًا وديًّا معه، مقتضاه إن أتيت أتيت، وإن لم تأت فسنصنعك بأنفسنا.
أما أسوأ مايصيب حياة الكاتب بعد التدخلات الاجتماعية، هو أن يقع فريسة للشللية الثقافية. الكاتب الذكي لا يستبدل الشيطان بالجان، ولا يتكتل إلا مع ما يكتبه، أو من الأفضل له أن يركن إلى الصمت.