#مصباح_الخميس_38
? كان أبي يقول لي: "روح طوّل للحصان"، وفي أبو الگالات امتلكنا عربةً وحصانًا، وكانت بالنسبة إليّ ثروةً فرّقت بين "الحرملة" و"أبو الگالات". في السنة الأخيرة لنا في الحرملة اشترى أبي حمارًا كبيرًا "صلبي" دون البغل، وفوق الحمار العادي، فأضيف إلى حمارتنا البيضاء، وأضيف إليهما الحصان الأشقر في "أبو الگالات" مع بضع نعجات.
.
وكان طبيعيًا أن "نطوّل" للحصان والحمار، وكل"هايشة" مزوّدة بحبل محكم الربط حول وجهها "الرشمة" وينتهي بسكّة من حديد بدلًا من الوتد، وكان طبيعيًّا أن تسمع: "روح طوّل للجحشة وطگّ السچّة بالمدُگّ". والمدگّ حجر كبير ندقّ به السكة حتى تغوص في لحم التراب، ولكنّ شمس تموز كانت تخلخل التراب، فيسهل معه أن "تشلع" الدابّة السكّة، وتمضي إلى أرض فيها زرع، وليس ذاك إلّا في الأرض المحميّة، فيأتي أصحابها شاكين لائمين :"دابّتكم هدّت" فيلحق بنا لوم قد يتحوّل إلى حساب.
.
أدين لأيام الجامعة الأولى التي أخرجتني من وهم الحداثة، وأعادتني إلى طفولتي حين قرأت في معلّقة عمرو بن كلثوم:
كأنّ ثفالها شرقيّ نجدٍ* ولهوتها قضاعة أجمعينا
وكنّا نستعمل "التّفال" بثاء مخففة إلى تاء، ونريد به القماش الذي توضع عليه كرات العجين. ولكنّي لم أفطن إلى بيت طرفة:
لعمْرُك إنّ الموت ما أخطأ الفتى* لكالطّوَل المرخى وثنياه في اليدِ
كيف لم أهتمّ لـ "طِوَل" طرفة، وأنتبه إلى أنّ الشاعر كان "يطوّل" لفرسه أو ناقته التي "دندشها" بألوان من التشبيهات في أوّل معلّقته؟.
.
حين انتقلنا إلى "أمّ الفرسان" تركنا وراءنا العربة والحصان والحمار الصلبي والدوابّ، ولا بدّ أن أبي باعها بثمن بخس مع البيت والدكّان. كانت "أمّ الفرسان" قرية كبيرة نسبة إلى القرى التي عشت فيها "120 بيتًا منتظمًا" وصلت بينها فيما بعد طرق مستقيمة لا مكان فيها لعطفة ولا لفّة، سوفوخوزات منظّمة دقيقة وجامدة.
ولكنّ أرض البيادر كانت تعدل من صرامة البيوت المسقوفة بالكونكريت الرصاصي، ففي أرض البيادر كنت ترى مرابط الدوابّ ومراتع الماشية وملاعب الصبية في الربيع، ولكنّ الصيف سيحوّلها إلى فضاء لمتعة بصرية هائلة، لأطفال فوق "جراجر" تدور عكس عقارب الساعة في دروب دائريّة، وفي المساء يأخذون الخيول المتعبة بعيدًا عن بيادر العدس، ويطوّلون لها.
.
جاءنا بيت طرفة سؤالًا بديلًا عن حلقة البحث: أعرب إعراب مفردات وجمل البيت الآتي:
لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى* لكالطول المرخى وثنياه باليد
وربّما كان لرهبة الإعراب لطلاب "غير مداومين" يعالجون لام الابتداء وجواب القسم والحيرة في "ثنياه" أهي مثنّى أم اسم مقصور.. ربّما ألهاني كلّ هذا عن "الطِّوَل المرخى".
كانت العربات والخيول وقتها تفسح المكان للطريزيلات بأزيزها المنكر، دوابّ على ثلاثة أرجل، لا تحتاج إلى من يطوّل لها، حتّى إذا تكاثرت وملأت شوارع القرية صارت الطريزيلة "جحشة البيت" يستعينون بها في "نقل الطحنة" و"نقل حشيش الربيع". ولم يكون صوت "جحشة البيت" بين النهيق والصهيل، ولكنّه صوت خاصّ مؤذٍ تمّ تصميمه في "حلب" عند صانعي "الشگمانات" الرخيصة، وهي توقظ القرية عند الرابعة لتعلمها أنّ موعد الذهاب إلى الحقول جنوبًا قد حان، كانت منبّه القرية طوال عقد أو عقدين من الزمان.
.
ظلّت العربات تنجز أعمالًا لا قبل للطريزيلات بها، وهي نقل التبن والقش، وما زالت أدوات ربط الدابّة تغريني بالبحث عن جذورها. منذ يومين تصفحت كتابًا فريدًا عن بغداد القديمة أيام الوالي ممدوح باشا، وعن سوقها، وفيه تصنع أدوات النقل ومرابط الدواب ومنها "الحياص" وفي مصباح اليوم بحثت عن الرشمة، فلم أجد معناها الذي أريده إلّا في التاج: "الرَّشمة بفتح الراء: ما يوضع في فم الفرس، وهي من العاميّة".
وكانت الطريزيلات هي الأخرى تستنفد أغراضها أمام ناقلات جديدة "البيك اب "ات، أو البيكامات، ولم يكن البيكام جحشة البيت أوّل الأمر. في السبعينات جاء بيكام التويتّا (التويوتا) وكان واسطة القوم في النقل والعمل والمسايير، وكنت ترى التمايز الاجتماعي في استقلال هذه الواسطة، فيركب الوجهاء من الأمام، وبقية الفريق من الخلف، وكنت ترى ألوانًا من التوجيب الاجتماعي والمفاضلة والأقسام المغلّظة "لا والله العظيم، ألّا تركب من جدّام". ولكنّ البيكام في سنواته المتأخرة بات "جحشة البيت" أيضًا، وسمح للكسالى أن يناموا حتى ساعة متأخًّرة.
كانت طريزيلتنا تتمتّع بأزيز مضاعف، يشعر به المنتظرون من مسافة بعيدة، وكنّا انتظرناطويلًا كي نبيعها، وحين بعنا "جحشة البيت" لم يعد ثمة "طحنة" تذهب إلى "الطاحونة" ولا "جوالة برغل" تأتي منها أيضًا. تقلّصت مساحات الزراعة والرعي، وتقاسم الناس أرض البيادر بالمتر، وكانت مطحنة الرافدين تصنع حاجة القامشلي من البرغل، وكانت أفرانها تسمح لنسائنا "الخبّازات" سابقًا أن يغتنمن هذا الوقت في أعمال أخرى.
.
ولكنّ "طَوَّل" و"المٌدُگّ" ظلّت في البال: قبل أشهر تعثّرت بالمدقّ في التاج: "حجر يدقّ به الطيب" ويجمع على مداقّ. وكان هذا يمنحني شعورًا بالغبطة، وأنّ بحثي في تلك الكلمات يتمّ في أرضٍ "فدرة" ولكنّ المدگّ وحده لن يكفي مادّة مالم نجد ما يدقّه.
كانت أيّام البيكابات قد ولّت هي الأخرى ولم يبق غير القليل منها، جاءت سيارت نقل المازوط "الكيّا" و"الهيونداي" وبات اقتناء بيكاب (غير الداتسون) غير مجدٍ اقتصاديًّا.
كانت بيكابات الداتسون غير محظوظة تمامًا، ولم ينل أصحابها وجاهة أصحاب البيكابات الكبيرة المطهمة، لأنها صارت أداة النقل البديلة للطريزيلات. وبات من الطرفة أن تسمع "لا تشتر داتسون لأنك إذا رحت العزا ما حدا يگوم بوجهك".
.
أعادني إلى "التطويل للدابة" أفلام الغرب الأميركي التقليديّة، والممثل لي فان كليف حين يغشى المدينة فيترجّل عن حصانه تاركًا حبل قياده على مربط خاص. وكنت أستعيد في "الرسن" و"الحبل" و"المردّ" مجموعة من الأمثال عن "رخيوة الرسن" أو "الحبل على الغارب" وأنا أتصوّر طرفة قبل ألفي عام يمسك بحبل ناقته ويرخيه لها كي تستغرق في الرعي قبل أن يخطف الحبل بقوة، وكان خيط العمر قد انقطع بطرفة باكرًا. ولكنّ الطول ذاته امتدّ بالسوريين في مرعى الحياة، كان الموت ذاته يخطف مجاميع الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين في الجوار، فلمّا آنسوا أنّه سيظلّ مرخى، جاء أمر الله، واستنفدت العشرية الأخيرة نحو مليون سوري.
.
طوّلت للحصان الذي درست عليه قبل أربعين، وامتطيته حينًا فهنجل (حنجل) بي، وهذب، وأسلمني بعدها إلى دوابّ تسير بحوافر مستديرة، ويطوّل لها في كاراجات 3*5 m، ولكن ما زال في البال صورة ذلك الجدّ الذي غشينا مساء يعاتبنا في الدابّة التي لم أطوّل لها جيّدًا فشلعت سكّتها وهدّت في زرعه.
.
مصباحكم وممساكم
___
الصورة من صفحة الصديق الكاميرائي محمود الحمران