أرشيف الفوتوغرافي العراقي مراد الداغستاني في كتاب جديد يوثق لزمن آفل.
تاريخ الاضافة:السبت 22 آب / أغسطس 2020 - عرب فوتو
مراد الداغستاني وأسرار عدسته
(أعاد كتاب “مراد الداغستاني بين الفن البصري والتشكيل الفوتوغرافي” الذي صدر هذا الأسبوع، فتح نافذة النقد عن رائد فوتوغرافي عراقي بهرت صوره الأنظار مع مرور عشرات السنين من التقاطها، من دون أن يحظى بقراءة نقدية تليق بنتاجه.)
لا يكتفي تأثير أرشيف مراد الداغستاني (رحل 1982) بكونه رائد التصوير الفوتوغرافي في العراق، بل يستمر هذا التأثير إلى مصوري اليوم، بعد أن أثر على مجمل الأجيال من المصورين الذين ظهروا بعده.
لقد ترك أثرا فنيّا باهر الألوان في كل لقطاته بالأسود والأبيض! وتلك مفارقة مثيرة، وإذا كان جزء من أرشيفه الفني متاحا اليوم، إلا أن الأرشيف الشخصي وما التقطه من صور لعامة الناس في أستوديو مراد في الموصل لا يزال موزّعا بين المنازل العتيقة وفي ألبومات ذكريات الراحلين وأحفادهم.
فلسفة العدسة
توثيق فلسفة تصوير مراد الداغستاني، مهمّة أناط بها نفسه الفوتوغرافي العراقي هيثم فتح الله عزيزة في كتاب “مراد الداغستاني بين الفن البصري والتشكيل الفوتوغرافي”، عندما جمع ما هو متاح من أرشيفه الصوري في دراسة فنية استثمر فيها خبرته العلمية والفنية بقراءة تلك الصور التي لم تفقد دهشتها أمام العيون وبعد عشرات السنين من التقاطها.
وحلّل عزيزة صورا باتت توثق ليوميات الفلاحين والصيادين والبدو الرحل وكاتبي العرائض والمتصوّفين وجميلات العراق وشواطئ الأنهار وأفران الفخار والأسواق العتيقة.. تركها الداغستاني كوثيقة تنبض بالحيوية عن تاريخ عراقي مثير للحنين والتساؤل معا.
واكتفى عزيزة بتعليقات عن طبيعة الصورة وطريقة التقاطها وطباعتها، تمثل رؤيته الفوتوغرافية بنتاج الداغستاني، بينما بدت الحاجة النقدية والفنية عاجلة وملحّة إلى إعادة قراءة هذا النتاج الباهر وعدم الاكتفاء بالقراءة الانطباعية، فالداغستاني أكثر بكثير من مصوّر فوتوغرافي، بل إنه فنان سبق عصره بعدسات بدائية نسبيّا، عندما قرأ فلسفة الظل والضوء برؤيا فيزيائي ملمّ.
فمراد الداغستاني لا يكتفي بدراسته الإعدادية وعدم إكمال دراسته الجامعية، إنه على درجة متقدمة من الرؤية والعمق الحسي وثقافة تحليل المحيط وتداعياته، يكشف لنا ذلك ما تركه من إشارة بلغة إنجليزية عميقة على بعض صوره، فثقافته جعلته يتقن إضافة إلى العربية اللغات الأرمينية والتركية والإنجليزية، وهذا قدر كاف جعله يطّلع على ما يجري في فن التصوير في العالم.
كل صور الكتاب بالأسود والأبيض، وذلك من حسن حظ الفوتوغراف! لأنه لم تكن أمام الداغستاني قبل رحيله فرصة للحاق بالتصوير الملون الذي دخل العراق في فترات متأخرة، مع أنه شارك في عدة دورات للتصوير بالألوان لدى شركة أكفا كيفرت الألمانية.
الأهم من ذلك وفق تعبير المؤلف أن التصوير الملون لم يستهو الداغستاني كثيرا، ويرى فتح الله أن الداغستاني عزف عن التصوير الملون ولم يرق له، لأن فكرة التصوير آنذاك كانت تقتصر على ما يسجّله المصور بعدسته فقط ويترك الباقي من غسيل للصور للمختبرات التي كانت تتحكّم بألوان الصور وأحجامها، وبذلك يضع المصور نتاجه تحت رحمة غيره! ومن هنا أصبح التصوير الملون بالنسبة إلى مراد مجرد تسجيل واقع على سطح الفيلم الحساس دون أن يكون له دور في معالجة الصور بيديه، فاختفى الإبداع بالصور وأصبحت اللقطة هي التي تتكلم بنفسها عن الواقع دون أن يكون هناك تأثير فني على منطوق الصورة، وهذا ما يجعلها لقطة جامدة لا تروق لذائقة مراد الفنية.
عندما يقرأ فتح الله بوصفه فوتوغرافيا محترفا وقبل ذلك دارسا لعلوم الفيزياء، كيف صنع الداغستاني صوره بما كان يمتلكه من عدسات بسيطة، يرى من الصعب تقبل ذلك من دون دراية علمية في فن الفوتوغراف وعلم الضوء، في إشارة إلى أنه مبدع سبق عصره.
ويعبّر عن توقعه بالقول “لو توفّر للداغستاني ما توفر اليوم من برامج رقمية للتصحيح والإضافة الصورية وكاميرات رقمية وفلترات وأجهزة الإنارة بمختلف أشكالها التي تستخدم اليوم بالتصوير الحديث، لأنتج لوحات بصرية تفوق مستوى الخيال لما يمتلكه من حسّ فني وثقافة بصرية تسمح له أن يتفوق على الكثير من مبدعي التصوير في عصرنا هذا”.
الداغستاني وكارش
يحاول مراد الداغستاني في كل صوره الشخصية التي التقطها لأصحاب الحرف والمجانين والعامة من الناس، أن يعرّي الوجه البشري من الداخل، الأمر الذي دفع فتح الله إلى البحث عن الرابطة التي تجمع تأثر الداغستاني بالمصور العالمي يوسف كارش الذي التقط صورا لكبار الساسة في العالم، إذ أن صورة ونستون تشرشل يتكئ على قدمه الرابعة! من دون أن يكون السيجار في فمه تعدّ علامة فوتوغرافية تاريخية في البورتريه، تركها لنا
إرث يوسف كارش، ثم صورة الممثل الأميركي همفري دي فورست بوكارت التي التقطها كارش عام 1947. وهناك العديد من نتاج الداغستاني ما يمثل ذلك خصوصا ما يتعلق بتوزيع الإنارة، كما في صورة الأفغاني في داخل أستوديو مراد في مدينة الموصل، كما التقط أكثر من صورة لشخصية تستهويه كما في وجه الرجل الذي أظهر قساوة نظرته وصلابة شخصيته، وصور أخرى للرجل نفسه عندما عمل أمام وجهه هالة ضبابية ليظهره بملامح حادة، إذ كان الداغستاني شخصية مزاجية في اختيار من يصوره، فإذا ما وجد بالشخص المقابل إمكانية إخراج ما بداخل هذه الشخصية قام بتصويره وإذا ما شعر بعدم ارتياحه للشخص الذي أمامه اعتذر منه بشتى الوسائل ومنتهى الأدب، وهذا يفسّر لنا لماذا تتوفر في أرشيفه عدة لقطات لوجه واحد.
الداغستاني كما يبدو من صوره الملتقطة للطبيعة، رجل هادئ مرهف الحس، فكل صوره للطبيعة ساكنة بالرغم من وجود كائنات متحرّكة فيها، لكنها لا تبدو مثيرة للضجيج، ذلك ما تظهر لنا صوره للجسور والنواعير وشواطئ الأنهار وحركة الصيّادين والقوارب.
يجري مؤلف كتاب “مراد الداغستاني بين الفن البصري والتشكيل الفوتوغرافي” مقارنة تكشف لنا تأثر الجيل الذي ظهر بعد الداغستاني بكل لقطات هذا الفنان العراقي الرائد.
فناظم رمزي مثلا التقط صورة للدراجة في باريس عام 1965 هي نسخة طبق الأصل من صورة الدراجة التي التقطها الداغستاني في الموصل، في الفكرة والرؤية التسجيلية، كما في صورة اللقطة على نهر دجلة التي ماثلها رمزي في صورة من ساحل بيروت التقطها عام 1975، والصورة المثيرة للجدل التي وثقها ناظم رمزي خلال زيارته للإسكندرية عام 1958 المأخوذة من الأعلى للعربات والخيول، هي نفس اللقطة التي وثقها الداغستاني من الأعلى لعربات الخيول في الموصل.
مراد الداغستاني يحاول في كل صوره الشخصية التي التقطها لأصحاب الحرف والمجانين والعامة من الناس، أن يعري الوجه البشري من الداخل
مراد الداغستاني يحاول في كل صوره الشخصية التي التقطها لأصحاب الحرف والمجانين والعامة من الناس، أن يعري الوجه البشري من الداخل
كذلك الحال مع لقطات الفنان الرائد لطيف العاني، كما يظهر لنا هيثم فتح الله مقارنة دقيقة في النص والصورة المنشورة للقطة الغروب عند الداغستاني والعاني التي التقطها عام 1965. على الرغم من اختلاف روحية المكان إلا أن التأثر واضح في تأمل الصورتين معا.
يجمع لنا فتح الله بجهد تأملي موثق لعدد من الصورة لجيل من الفوتوغرافيين العراقيين المتأثرين بشكل لا لبس فيه بأسلوب الداغستاني مثل لطيف العاني وأواديس ماركاريان الذي عرف باسم كوفاديس لاحقا، الذي استخدم نفس تكنيك الداغستاني خصوصا ما يتعلق بدمج الفيلم السالب مع الفيلم الموجب للحصول على صورة مغايرة فيها لمسة تشكيلية، كذلك نور الدين حسين الذي لازم الداغستاني في جولاته الفوتوغرافية وأنتج لاحقا العديد من الصور متأثرا بأفكار أستاذه مراد.
يمتد تأثر الفوتوغرافيين العراقيين بالداغستاني إلى عقدي السبعينات والثمانينات، ففؤاد شاكر كان يحتفي بالأسود والأبيض ولا يطيق الصورة الملونة وأنتج صورا في غاية التعبيرية تحتفي بالظل والضوء اللذين كانا الشاغل الأساسي للداغستاني، كذلك استلهم هادي النجار أعماله من الدروس الفنية التي تركها الداغستاني منذ أول وهلة شاهد فيها أعماله.
سامي النصراوي مؤسس جمعية التصوير العراقية في سبعينات القرن الماضي كان لا يخفي تأثّره بأعمال الداغستاني عندما كان يلازمه في كل زياراته إلى بغداد قادما من الموصل، ويظهر لنا كتاب فتح الله صورة السوق عند الداغستاني والنصراوي والرؤية البصرية المتطابقة بين الصورتين.
في هذا الكتاب متعة تأمل لا تضاهى للقطات من الحياة برمتها في العراق وبعض مدن العالم عرفت في وثائق الداغستاني، تكفي الإشارة إلى صورة كاتب العرائض “العرضحالجي” التي وثقت مشهدا باهرا عن بدائية الحياة في العراق آنذاك، وهي درس باهر في التقاط اللحظة الهاربة، صورة البدوية على هودج الجمل، المصور الشمسي المنحي الظهر وهو يحمل الكرسي المطوي، الصيادون، الجسور.. لكن ذلك لا يكفي بالنسبة للمطالبين بإعادة قراءة هذا النتاج المهمّ في تاريخ التصوير العراقي والعربي، فهيثم فتح الله اكتفى بملاحظاته على الصور، بينما ما نحتاجه أكثر من ذلك في دراسة نقدية ومعلوماتية شاملة عن سيرة وطبيعة حياة مراد الداغستاني، الذي لم يحظ بغير دراسات محدودة وحوارات نادرة في الصحافة العراقية حتى رحيله عام 1982.