عباسيه (عماره)
Abbasid architecture - Abbassides (Architecture -)
العباسية (العمارة ـ)
امتد تاريخ العمارة العباسية من عام 132هـ/750م حتى سقوط بغداد بيد المغول عام 656هـ/1258م، وقد تميزت هذه العمارة بما يأتي:
ـ الاهتمام بالعمران وتأسيس المدن الجديدة (الهاشمية، بغداد، سامرا، الرافقة…)
ـ الاهتمام بعمارة المساجد والقصور والمدارس وغيرها.
ـ التأثر بالعمارة الساسانية.
ـ ظهور أهمية الإيوان.
ـ استخدام الطوب والآجر بأنواعه في المباني العباسية وزخرفتها.
ـ ظاهرة الامتداد الأفقي للمدن العباسية ومبانيها.
ـ تبني العقود المدببة والاهتمام بعمارة القباب الجميلة المختلفة.
ـ ظهور المئذنة المنعزلة عن كتلة مبنى الجامع في سامرا والقطائع.
ـ غنى مباني العمارة العباسية بالزخارف الجصية والرسوم الجدارية.
ـ جمالية المباني العباسية من طابق واحد بوجه عام.
ـ وصول تأثير العمارة العباسية إلى أقطار شمالي إفريقيا بوساطة أحمد بن طولون والأغالبة.
بناء المدن العباسية
بعد انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين عام 750م، كان لابد للنظام العباسي الجديد من تأسيس عاصمة جديدة للدولة. وبعد ما اتخذ العباسيون الكوفة أول عاصمة لهم، قرروا تأسيس عاصمة جديدة أسموها الهاشمية. ثم اختار الخليفة العباسي المنصور 754ـ775م الموقع المناسب لعاصمته الجديدة بغداد مكان قريةٍ (أو ضيعة أو سوق بغداد) كانت تقوم على الضفة الغربية السفلى من نهر دجلة. بنيت هذه المدينة الجديدة ودعيت باسم: مدينة السلام أو دار السلام عام762م، وأقيم حولها سور خارجي من الطوب وآخر داخلي وحولها خندق.
وفي العصر الحاضر لم يبق شيء من تلك العاصمة العباسية بغداد التي أسسها المنصور باستثناء المدرسة المستنصرية. ولكن النصوص تفيد أن سور هذه العاصمة دائري الشكل قطره/3/كم، ويشغل مركزها القصر المشهور باسم قصر الذهب وجامع الخليفة المنصور. وجعل لها أربعة مداخل طويلة وضيقة مرتبطة بشارع دائري، وقسمت العاصمة إلى أربعة أرباع دوائر، يشتمل كل منها على أزقة شعبية متشعبة.
الرافقة: كرر المنصور تبني شكل هذا التخطيط العمراني عندما قام بتأسيس مدينة الرافقة قرب مدينة الرقة القديمة في حوض الفرات الأعلى عام 155هـ/771م، وأحاطها بسور مستدير ٍكسور بغداد، ولكن مرور نهر الفرات في الجهة الجنوبية جعل هذا السور على شكل نعل الفرس. وكان أطول قطر لهذه المدينة الجديدة 1500م، وأُقيم لها سوران: أحدهما داخلي سمكه5.8م، وآخر خارجي سمكه 4.5م، بينهما فصيل عرضه 20.80م. وأحيط السور الخارجي بخندق عرضه 15.9م. بني أساس هذا السور من الحجر الكلسي، وأكمل بناؤه باللبن والطوب، وجُعل لهذا السور باب شرقي اشتهر باسم باب بغداد، وباب غربي اسمه باب الجنان. وشُيِّد ضمن السور جامع المنصور الذي مازالت بقاياه قائمة مع واجهة أبواب ذات عقود ومئذنة أسطوانية الشكل مبنية من الآجر، إضافة إلى الأحياء والقصور، وقد اتخذها الخليفة الرشيد،170ـ 193هـ/786ـ 808 م، مقرّاً لـه بين عامي 796ـ808م، فتوسعت الرافقة حتى إنها اتصلت بالرقة وضواحيها، وشكلت مدينة كبيرة بلغ قطرها نحو/10/كم. وعندما ازدهرت أصابها الخراب كالعاصمة بغداد بسبب الغزو المغولي، ومازال قائماً حتى اليوم سور الرقة وأبراجه وباب بغداد وجامع المنصور وقصر الرشيد وقصر البنات … وقد امتازت هذه المباني بزخارفها الآجرية البديعة.
سامرا: أسس الخليفة المعتصم، 218ـ228هـ/833ـ842م، عاصمته الجديدة سامرا على ضفة نهر دجلة شمالي بغداد عام 224هـ/838 م، وتميزت بامتدادها العمراني على ضفة النهر مسافة/33/كم، وكانت مقر سبعة خلفاء عباسيين تعاقبوا على الحكم من عام 224هـ/838م حتى عام 276هـ/889م، وفضلوها على بغداد، ولكنهم هجروها بعد نحو نصف قرن. وتعد مبانيها المؤرخة بدقة وثيقة لا مثيل لها. وقد دلت آثارها على فعالياتها الفنية ومدى الاهتمام ببناء الجوامع والقصور والدور وغيرها. وزينت المباني بالزخارف الجصية والرسوم الجدارية التي منها لوحة راقصتين كانت تزين جناح النساء في أول قصر بناه المعتصم عرف باسم: الجوسق الخرقاني تاريخه 221هـ/836م. والجدير بالذكر أن بعضهم وجد شبهاً بين هذه الرسوم الفنية وما يماثلها على أقمشة حريرية فاخرة.
القطائع في مصر: عندما دخل العباسيون مصر عام 132هـ، أسسوا عاصمة جديدة لإقليم مصر في شمال شرقي الفسطاط عام 133هـ/750م وسموها العسكر، ثم أسس أحمد بن طولون عاصمته الجديدة القطائع في سفح جبل «يشكر» شرقي مدينة العسكر وشمال شرقي الفسطاط، حيث يوجد حاليّاً قره الميدان والمنشية وميدان صلاح الدين، وكان أحمد بن طولون حكيماً في إنشاء عاصمته القطائع لإبعاد جيشه عن الأحياء، فتجنب بذلك ما كان ممكناً حدوثه من الشغب والفتن، كما حدث لجند المعتصم في بغداد مما كان سبب تأسيس مدينة سامرا.
كان تخطيط القطائع يشبه تخطيط سامرا، وازدهرت القطائع وأنشئت فيها المساجد والجوامع والحمامات والأفران والطواحين والحوانيت والمنازل حتى اتصلت بمدينة الفسطاط، وكان سقوط الأسرة الطولونية ينبئ بسقوط هذه الحاضرة. ولكن ذكراها استمر بفضل جامع ابن طولون الذي بني فيها.
المساجد العباسية
بنى الخليفة المنصور مسجد الجامع الكبير في وسط عاصمته بغداد ملاصقاً لقصره: «قصر الذهب»، وامتاز مبناه بجدرانه من اللبن وأعمدته من الخشب. له شكل مربع طول ضلعه200ذراع. وفي عهد الرشيد أعيد بناؤه بالآجر والجص وزيدت مساحته عام 192هـ. وبقي مبنى هذا الجامع قائماً حتى القرن الثامن الهجري.
مسجد الرصافة: بعدما أنشأ المنصور قصر الرصافة في الجانب الشرقي، أُلحق به مسجد جامعٌ أُقيمت فيه الجُمَع.
وهناك مسجد دار الخلافة الذي سمح الخليفة المعتضد بإقامة الجُمَع في داخل القصر الحسني (قصر الخلافة)، ومسجد براثا الذي كان الناس يتبركون به لأنه أقيم على المكان الذي صلى فيه الإمام علي بن أبى طالب … ومسجد قطيفة أم جعفر، ومسجد الحربية … وغيرها.
جامع سامرا الكبير: يُعد جامع سامرا الكبير، الذي شيده الخليفة المتوكل، 232ـ238هـ/846ـ852م، من أجمل المنشآت المعمارية العباسية. شيد فوق أرض مستطيلة الشكل تبلغ أبعاده 260م ×180م. يرتكز مبناه على دعائم مثمنة الأضلاع، ويحيط به من الخارج سور تدعمه أبراج مستديرة، وذلك كما في جوامع المعسكرات. وتقوم المئذنة الملوية خارج السور بشكل برج حلزوني يصعدون عليه من الخارج كالأبراج البابلية المعروفة باسم زيقورات. ويكفي لبيان أهمية هذا الجامع التذكير برأي بعض الباحثين أنه «يمثل العمارة الدينية في العصر العباسي مسجد سامرا الكبير ومسجد أبي دلف».
مسجد أبي دلف: بعد ما بنى الخليفة المتوكل مسجد سامرا الكبير قرر أن ينقل موقع عاصمته بضعة أميال إلى الشمال الشرقي، فبنى قصر الجعفرية ومسجد أبي دلف عام 860م، وكان مخطط هذا المسجد مماثلاً لمخطط جامع سامرا الكبير، وله مئذنة مشابهة لها منحدر لولبي ولكنها أصغر قليلاً، ويرتكز سقفه على عقود مدببة تمتد حتى جدار القبلة.
جامع أحمد بن طولون في مدينة القطائع في مصر: شيد أحمد بن طولون جامعه في مدينة القطائع في مصر عام 264ـ266هـ/877ـ879م على طراز جامع سامرا الكبير، وحرص أن يكون مبناه مرآة لرخاء البلاد في عهده، فاختار موقعه على جبل يشكر وسط عاصمته القطائع، وعهد بمهمة عمارته إلى مهندس من العراق. يتألف هذا الجامع من صحن مربع مكشوف طول ضلعه 92م، وتبلغ مساحته 8487 م2، وتحيط به أروقة من جهاته الأربع، وتقع القبلة في أكبر هذه الأروقة. وقد شيد بالآجر الأحمر الداكن، وتقوم أقواس الأروقة فيه على دعائم ضخمة من الآجر المغطى بطبقة سميكة من الجص. ويتميز هذا الجامع بمئذنته في الرواق الخارجي الغربي المبنية من الحجر، وتتكون من قاعدة مربعة عليها طبقة أسطوانية فوقها طبقة مثمنة، ودرجها من الخارج على شكل مدرج حلزوني، كما في المسجد الكبير في سامرا ومسجد أبي دلف في سامرا، وفيه منبر خشبي جميل.
العمارة المدنية العباسية:
تأثر المعماريون العباسيون بجمالية عمارة القصر الساساني: «طاق كسرى» الباقية آثاره في موقع المدائن على نهر دجلة، فاقتبسوا منه الإيوان البهو الضخم المقبب، وظهر أثر تأثرهم بهذه الجمالية المعمارية في منشآت العباسيين المعمارية، ولاسيما في القصور، كما تأثروا بعمارة قصر العرب اللخميين في الحيرة، ومن أهم القصور العباسية:
ـ قصر أخيبر: قصر صيد قرب كر بلاء على مسافة 120ميلاً في الجنوب الشرقي من بغداد، يعود تاريخه 164هـ/780م، له شكل مستطيل، وسور خارجي مرتفع تدعمه أبراج بارزة نصف دائرية، وله مدخل في منتصف كل جانب من جوانبه. وتطورت العمارة الدفاعية، فهناك طريق دائرية في أعلى السور للتصدي للمهاجمين، وتتألف كل من البوابات الأربع من حجرة يحيط بها باب داخلي وحاجز خارجي يمكن إنزاله وحصار المهاجمين في الحجرة وإبادتهم. بني هذا المبنى من الحجر، واستخدم الآجر في منشآت القبوات التي لها عقود مزخرفة مستديرة ومدببة.
ـ قصر بلكوارة: بناه المتوكل لابنه المعتز قرب سامرا بطراز قصر الحيرة. فيه باحات وقاعات عدة ممتدة على طوله، لها واجهات مؤلفة من ثلاثة عقود، وعن يمين وسطه ويساره تمتد أروقة فيها عشرات المساكن لكل منها فناء خاص، وينتهي ذلك كله بحديقة متجهة نحو نهر دجلة.
ـ قصر العاشق: أقيم نحو عام 267هـ/880م على الضفة الغربية لنهر دجلة، في داخله قصر أصغر مماثل له في التخطيط المعماري.
ـ قصر الذهب: بناه المنصور وسط عاصمته بغداد، وأقام في صدره القبة الخضراء الشهيرة. وبنى بعض مواليه قصوراً خارج السور.
ـ قصر الخلد: وبنى المنصور قصر الخلد وراء باب خراسان، على ضفة نهر دجلة اليمنى عند النهاية الغربية للجسر الكبير.
ـ قصر الرصافة: أمر المأمون ببنائه في شرقي نهر دجلة عام 151هـ، وهو أول مبنى أنشئ في هذا الجانب، وبنى له المنصور سوراً وخندقاً، فاتخذه الخليفة المهدي مقاماً له عام 151هـ وجعل ما حوله معسكراً لجنده، وبنى كبار القواد منازل لهم حول القصر. ثم تكاثرت المباني وتألفت من مجموعها محلة الرصافة جوار مشهد الإمام أبي حنيفة.
ـ وهناك قصر عيسى بن علي عم الخليفة المنصور، وقصر الوضاح، وقصر السلام الذي بناه محمد المهدي عام 164هـ، والقصر الحسني الذي بناه جعفر بن يحيى البرمكي، وكان يعرف باسم القصر الجعفري، وقصر الفردوس الذي شيده المعتضد في جوار القصر الحسني.
قصر الميدان الطولوني: شيد أحمد ابن طولون قصر الميدان متأثراً بجمالية المنشآت المعمارية العباسية، مما يؤكد وصول تأثير العمارة العباسية إلى أقطار إفريقيا الشمالية وذلك بوساطة ابن طولون والأغالبة. ويدل قصر العباسية الذي شيد عام 806هـ قرب القيروان على موالاة الأغالبة للعباسيين.
المدارس:
بعد ما كان التدريس يتم في مباني المساجد والجوامع، بنى الخليفة المعتضد المتوفى عام 289هـ، في قصره في الشماسية مدرسة.
ثم بنى نظام الملك، ملكشاه، المدرسة النظامية عام 459هـ، وكان من أساتذتها أبو إسحاق الشيرازي (ت:476هـ)، والإمام الغزالي (ت:505هـ)، وأبو بكر الشاشي (ت:507هـ).
المدرسة المستنصرية: هذه هي المدرسة العباسية الوحيدة الباقية. فتحت للتدريس عام631هـ وعندما استولى المغول على بغداد لم تسلم هذه المدرسة من العدوان. وقد أنشد فيها الشاعر جميل صدقي الزهاوي قائلاً:
وقفتُ على المستنصرية باكياً
ربوعاً بها للعلم أمست خَوَاليا
وقفتُ بها أبكي قديمَ حياتِها
وأبكي بها الحُسَنَى وأبكي المعاليا
وقفت بها أبكي بشعري بُنَاتها
وأنعي سجاياهم وأنعي المساعيا
بكيتُ بها المدفونَ في حجراتها
من العلِم حتى بَلَّ دمعي ردائيا
قناطر أحمد بن طولون: بنى أحمد ابن طولون في الجهة الجنوبية الشرقية من عاصمته القطائع قناطرَ للمياه لاتزال بعض عقودها قائمة. وهي تشبه القناطر الرومانية.
بيمارستان أحمد بن طولون: في عام 259هـ، بنى أحمد بن طولون البيمارستان للمرضى وجعل له نظاماً مفيداً.
الحمامات: تدل مباني الحمامات العديدة على الاهتمام بالنظافة كأحد شروط الصحة.
بشير زهدي
Abbasid architecture - Abbassides (Architecture -)
العباسية (العمارة ـ)
امتد تاريخ العمارة العباسية من عام 132هـ/750م حتى سقوط بغداد بيد المغول عام 656هـ/1258م، وقد تميزت هذه العمارة بما يأتي:
ـ الاهتمام بالعمران وتأسيس المدن الجديدة (الهاشمية، بغداد، سامرا، الرافقة…)
ـ الاهتمام بعمارة المساجد والقصور والمدارس وغيرها.
ـ التأثر بالعمارة الساسانية.
ـ ظهور أهمية الإيوان.
ـ استخدام الطوب والآجر بأنواعه في المباني العباسية وزخرفتها.
ـ ظاهرة الامتداد الأفقي للمدن العباسية ومبانيها.
ـ تبني العقود المدببة والاهتمام بعمارة القباب الجميلة المختلفة.
ـ ظهور المئذنة المنعزلة عن كتلة مبنى الجامع في سامرا والقطائع.
ـ غنى مباني العمارة العباسية بالزخارف الجصية والرسوم الجدارية.
ـ جمالية المباني العباسية من طابق واحد بوجه عام.
ـ وصول تأثير العمارة العباسية إلى أقطار شمالي إفريقيا بوساطة أحمد بن طولون والأغالبة.
بناء المدن العباسية
بعد انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين عام 750م، كان لابد للنظام العباسي الجديد من تأسيس عاصمة جديدة للدولة. وبعد ما اتخذ العباسيون الكوفة أول عاصمة لهم، قرروا تأسيس عاصمة جديدة أسموها الهاشمية. ثم اختار الخليفة العباسي المنصور 754ـ775م الموقع المناسب لعاصمته الجديدة بغداد مكان قريةٍ (أو ضيعة أو سوق بغداد) كانت تقوم على الضفة الغربية السفلى من نهر دجلة. بنيت هذه المدينة الجديدة ودعيت باسم: مدينة السلام أو دار السلام عام762م، وأقيم حولها سور خارجي من الطوب وآخر داخلي وحولها خندق.
وفي العصر الحاضر لم يبق شيء من تلك العاصمة العباسية بغداد التي أسسها المنصور باستثناء المدرسة المستنصرية. ولكن النصوص تفيد أن سور هذه العاصمة دائري الشكل قطره/3/كم، ويشغل مركزها القصر المشهور باسم قصر الذهب وجامع الخليفة المنصور. وجعل لها أربعة مداخل طويلة وضيقة مرتبطة بشارع دائري، وقسمت العاصمة إلى أربعة أرباع دوائر، يشتمل كل منها على أزقة شعبية متشعبة.
الباب الشرقي لسور الرقة الذي اشتهر باسم «باب بغداد» |
سامرا: أسس الخليفة المعتصم، 218ـ228هـ/833ـ842م، عاصمته الجديدة سامرا على ضفة نهر دجلة شمالي بغداد عام 224هـ/838 م، وتميزت بامتدادها العمراني على ضفة النهر مسافة/33/كم، وكانت مقر سبعة خلفاء عباسيين تعاقبوا على الحكم من عام 224هـ/838م حتى عام 276هـ/889م، وفضلوها على بغداد، ولكنهم هجروها بعد نحو نصف قرن. وتعد مبانيها المؤرخة بدقة وثيقة لا مثيل لها. وقد دلت آثارها على فعالياتها الفنية ومدى الاهتمام ببناء الجوامع والقصور والدور وغيرها. وزينت المباني بالزخارف الجصية والرسوم الجدارية التي منها لوحة راقصتين كانت تزين جناح النساء في أول قصر بناه المعتصم عرف باسم: الجوسق الخرقاني تاريخه 221هـ/836م. والجدير بالذكر أن بعضهم وجد شبهاً بين هذه الرسوم الفنية وما يماثلها على أقمشة حريرية فاخرة.
القطائع في مصر: عندما دخل العباسيون مصر عام 132هـ، أسسوا عاصمة جديدة لإقليم مصر في شمال شرقي الفسطاط عام 133هـ/750م وسموها العسكر، ثم أسس أحمد بن طولون عاصمته الجديدة القطائع في سفح جبل «يشكر» شرقي مدينة العسكر وشمال شرقي الفسطاط، حيث يوجد حاليّاً قره الميدان والمنشية وميدان صلاح الدين، وكان أحمد بن طولون حكيماً في إنشاء عاصمته القطائع لإبعاد جيشه عن الأحياء، فتجنب بذلك ما كان ممكناً حدوثه من الشغب والفتن، كما حدث لجند المعتصم في بغداد مما كان سبب تأسيس مدينة سامرا.
كان تخطيط القطائع يشبه تخطيط سامرا، وازدهرت القطائع وأنشئت فيها المساجد والجوامع والحمامات والأفران والطواحين والحوانيت والمنازل حتى اتصلت بمدينة الفسطاط، وكان سقوط الأسرة الطولونية ينبئ بسقوط هذه الحاضرة. ولكن ذكراها استمر بفضل جامع ابن طولون الذي بني فيها.
المساجد العباسية
بنى الخليفة المنصور مسجد الجامع الكبير في وسط عاصمته بغداد ملاصقاً لقصره: «قصر الذهب»، وامتاز مبناه بجدرانه من اللبن وأعمدته من الخشب. له شكل مربع طول ضلعه200ذراع. وفي عهد الرشيد أعيد بناؤه بالآجر والجص وزيدت مساحته عام 192هـ. وبقي مبنى هذا الجامع قائماً حتى القرن الثامن الهجري.
مسجد الرصافة: بعدما أنشأ المنصور قصر الرصافة في الجانب الشرقي، أُلحق به مسجد جامعٌ أُقيمت فيه الجُمَع.
وهناك مسجد دار الخلافة الذي سمح الخليفة المعتضد بإقامة الجُمَع في داخل القصر الحسني (قصر الخلافة)، ومسجد براثا الذي كان الناس يتبركون به لأنه أقيم على المكان الذي صلى فيه الإمام علي بن أبى طالب … ومسجد قطيفة أم جعفر، ومسجد الحربية … وغيرها.
جامع سامرا الكبير: يُعد جامع سامرا الكبير، الذي شيده الخليفة المتوكل، 232ـ238هـ/846ـ852م، من أجمل المنشآت المعمارية العباسية. شيد فوق أرض مستطيلة الشكل تبلغ أبعاده 260م ×180م. يرتكز مبناه على دعائم مثمنة الأضلاع، ويحيط به من الخارج سور تدعمه أبراج مستديرة، وذلك كما في جوامع المعسكرات. وتقوم المئذنة الملوية خارج السور بشكل برج حلزوني يصعدون عليه من الخارج كالأبراج البابلية المعروفة باسم زيقورات. ويكفي لبيان أهمية هذا الجامع التذكير برأي بعض الباحثين أنه «يمثل العمارة الدينية في العصر العباسي مسجد سامرا الكبير ومسجد أبي دلف».
مسجد أبي دلف: بعد ما بنى الخليفة المتوكل مسجد سامرا الكبير قرر أن ينقل موقع عاصمته بضعة أميال إلى الشمال الشرقي، فبنى قصر الجعفرية ومسجد أبي دلف عام 860م، وكان مخطط هذا المسجد مماثلاً لمخطط جامع سامرا الكبير، وله مئذنة مشابهة لها منحدر لولبي ولكنها أصغر قليلاً، ويرتكز سقفه على عقود مدببة تمتد حتى جدار القبلة.
جامع بن طولون |
العمارة المدنية العباسية:
تأثر المعماريون العباسيون بجمالية عمارة القصر الساساني: «طاق كسرى» الباقية آثاره في موقع المدائن على نهر دجلة، فاقتبسوا منه الإيوان البهو الضخم المقبب، وظهر أثر تأثرهم بهذه الجمالية المعمارية في منشآت العباسيين المعمارية، ولاسيما في القصور، كما تأثروا بعمارة قصر العرب اللخميين في الحيرة، ومن أهم القصور العباسية:
ـ قصر أخيبر: قصر صيد قرب كر بلاء على مسافة 120ميلاً في الجنوب الشرقي من بغداد، يعود تاريخه 164هـ/780م، له شكل مستطيل، وسور خارجي مرتفع تدعمه أبراج بارزة نصف دائرية، وله مدخل في منتصف كل جانب من جوانبه. وتطورت العمارة الدفاعية، فهناك طريق دائرية في أعلى السور للتصدي للمهاجمين، وتتألف كل من البوابات الأربع من حجرة يحيط بها باب داخلي وحاجز خارجي يمكن إنزاله وحصار المهاجمين في الحجرة وإبادتهم. بني هذا المبنى من الحجر، واستخدم الآجر في منشآت القبوات التي لها عقود مزخرفة مستديرة ومدببة.
ـ قصر بلكوارة: بناه المتوكل لابنه المعتز قرب سامرا بطراز قصر الحيرة. فيه باحات وقاعات عدة ممتدة على طوله، لها واجهات مؤلفة من ثلاثة عقود، وعن يمين وسطه ويساره تمتد أروقة فيها عشرات المساكن لكل منها فناء خاص، وينتهي ذلك كله بحديقة متجهة نحو نهر دجلة.
ـ قصر العاشق: أقيم نحو عام 267هـ/880م على الضفة الغربية لنهر دجلة، في داخله قصر أصغر مماثل له في التخطيط المعماري.
ـ قصر الذهب: بناه المنصور وسط عاصمته بغداد، وأقام في صدره القبة الخضراء الشهيرة. وبنى بعض مواليه قصوراً خارج السور.
ـ قصر الخلد: وبنى المنصور قصر الخلد وراء باب خراسان، على ضفة نهر دجلة اليمنى عند النهاية الغربية للجسر الكبير.
ـ قصر الرصافة: أمر المأمون ببنائه في شرقي نهر دجلة عام 151هـ، وهو أول مبنى أنشئ في هذا الجانب، وبنى له المنصور سوراً وخندقاً، فاتخذه الخليفة المهدي مقاماً له عام 151هـ وجعل ما حوله معسكراً لجنده، وبنى كبار القواد منازل لهم حول القصر. ثم تكاثرت المباني وتألفت من مجموعها محلة الرصافة جوار مشهد الإمام أبي حنيفة.
ـ وهناك قصر عيسى بن علي عم الخليفة المنصور، وقصر الوضاح، وقصر السلام الذي بناه محمد المهدي عام 164هـ، والقصر الحسني الذي بناه جعفر بن يحيى البرمكي، وكان يعرف باسم القصر الجعفري، وقصر الفردوس الذي شيده المعتضد في جوار القصر الحسني.
قصر الميدان الطولوني: شيد أحمد ابن طولون قصر الميدان متأثراً بجمالية المنشآت المعمارية العباسية، مما يؤكد وصول تأثير العمارة العباسية إلى أقطار إفريقيا الشمالية وذلك بوساطة ابن طولون والأغالبة. ويدل قصر العباسية الذي شيد عام 806هـ قرب القيروان على موالاة الأغالبة للعباسيين.
المدارس:
بعد ما كان التدريس يتم في مباني المساجد والجوامع، بنى الخليفة المعتضد المتوفى عام 289هـ، في قصره في الشماسية مدرسة.
المدرسة المستنصريةفي بغداد |
المدرسة المستنصرية: هذه هي المدرسة العباسية الوحيدة الباقية. فتحت للتدريس عام631هـ وعندما استولى المغول على بغداد لم تسلم هذه المدرسة من العدوان. وقد أنشد فيها الشاعر جميل صدقي الزهاوي قائلاً:
وقفتُ على المستنصرية باكياً
ربوعاً بها للعلم أمست خَوَاليا
وقفتُ بها أبكي قديمَ حياتِها
وأبكي بها الحُسَنَى وأبكي المعاليا
وقفت بها أبكي بشعري بُنَاتها
وأنعي سجاياهم وأنعي المساعيا
بكيتُ بها المدفونَ في حجراتها
من العلِم حتى بَلَّ دمعي ردائيا
قناطر أحمد بن طولون: بنى أحمد ابن طولون في الجهة الجنوبية الشرقية من عاصمته القطائع قناطرَ للمياه لاتزال بعض عقودها قائمة. وهي تشبه القناطر الرومانية.
بيمارستان أحمد بن طولون: في عام 259هـ، بنى أحمد بن طولون البيمارستان للمرضى وجعل له نظاماً مفيداً.
الحمامات: تدل مباني الحمامات العديدة على الاهتمام بالنظافة كأحد شروط الصحة.
بشير زهدي