عبده (محمد)
’Abdou (Mohammad-) - ’Abdou (Mohammad-)
عبده (محمد ـ)
(1265ـ 1323هـ/1849ـ 1905م)
الشيخ محمد عبده من رجال النهضة والإصلاح، وُلِدَ في قرية (مَحَلَّة نَصْر) في إقليم البحيرة بمصر، لأسرة متوسطة حسنة السمعة والمكانة، كانت تعمل كأمثالها في الزراعة. تعلم القراءة والكتابة في منزله، ثم ألحقه والده بدار لتحفيظ القرآن، وأرسله بعد ذلك إلى طنطا ليتابع دراسة التجويد والفقه والنحو والصرف، دون أن يفيد عهدئذ كثيراً من شيوخه لطرائقهم التعليمية العقيمة ومصطلحاتهم الغامضة، فهرب واختفى عند إخوته مـدة، ثم أعاده والده إلى المسجد الأحمدي، وزوجه في أثناء ذلك من إحدى بنات القرية.
ترك طنطا ورحل إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر، فلم يجد أيضاً لدى شيوخه ما يغاير أمثالهم في المسجد الأحمدي بطنطا. ثم تخرَّج وحمل شهادة العالمية، وفي نفسه نقمة على فساد التعليم وتخلف مناهجه عن العصر، وعزمٌ شديدٌ على محاولة إصلاح ما رآه وما عاناه. بعد ذلك تولى التدريس في الأزهر نحواً من سنتين، انتقل بعدهما إلى التدريس في دار العلوم. ولكنه سرعان ما أُبْعِدَ عن عمله لأسباب غير معلنة لعدم رضا بعض رجال السلطة عن أفكاره. وفي هذه الفترة التقى جمال الدين الأفغاني، فأُعْجِبَ به وبمواهبه، ولازمه وأصبح تلميذاً لـه ومريداً وصديقاً، وتلقَّى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمة والفلسفة، وبدأ يتشرَّب كثيراً من ثمار فكره المستنير. وقد تزايد طلاب الشيخين الرائدين ووجدوا لديهما من المفاهيم الجديدة ومن الأفكار الحرة ما لم يعهدوه لدى أحد من قبل، فضلاً عن بلاغة القول وسداد الرأي،.وهذا المنحى أقلق الرسميين والمتزمتين معاً، فانبروا لتسفيه أقوال الرجلين واتهموهما بالزيغ في العقيدة، والمروق من الدين، وتضليل الناشئة.
مضى الشيخ الشاب يكتب مقالاته مؤمناً بجدوى منحاه في الإصلاح، فتكاثر قراؤه واتسع جمهوره. ثم أخذ يتواصل والزعيم أحمد عرابي ورفاقه من دون أن يتفق معهم في جميع وسائل نضالهم وخطط عملهم، ومع ذلك التحم بالثورة حين قامت، ثم كان أن أخفقت ثورة عرابي، وبادر الإنكليز إلى احتلال مصر سنة 1882، وتقرر نفي محمد عبده من مصر، فنزح إلى بيروت، حيث عاش في جو اجتماعي سمح، وعمل في مهنة التدريس التي يحبها. ولم يكتف بعمله التعليمي في المدرسة السلطانية، بل وسع دروسه في عدد من المساجد وغدا منزلـه مقصداً لعارفي فضله. وكان أن لفت الأفكار في لبنان ببلاغته وفطنته وشخصيته المحببة المهيبة وفي ذلك الحين تزوج من السيدة رضا حمادة، وهي من أسرة لبنانية معروفة، ومالبث محمد عبده طويلاً حتى رحل سنة 1884 إلى فرنسا، ليلتقي من جديد بأستاذه الأفغاني، بعد أن شتتهما الأحوال في مصر. وفي باريس حيث كان مناخ الحرية مواتياً لأمثالهما أصدرا جريدة «العروة الوثقى» فكان لها تأثير بالغ يقارب الدوي بفضل مقالاتها الجريئة في شؤون المجتمع وقضايا السياسة والتصدي للمستبدين والمفسدين، وكانت أعداد الجريدة تصل سراً مع بعض المسافرين بحراً إلى الإسكندرية، وهناك كان يتلقفها كثير ويتداولونها بمتعة غامرة، وكانت غالباً ما تصادر أعدادها في مصر، ولم تزد أعدادها على ثمانية عشر عدداً، إذ اضطر صاحباها إلى التوقف عن إصدارها بعد ثمانية أشهر،لأنها لقيت كل مضايقة ومكافحة من سلطة الخديوي ومن المحتل الإنكليزي معاً.
عاد الشيخ إلى وطنه مصر سنة 1889، وفيها تولى القضاء الشرعي، ثم أصبح قاضياً بمحكمة الاستئناف. وكان يفضل التعليم، ولكن الحكام لم يتيحوا لـه ذلك، وقد قال آنئذ لأحد أصفيائه إنه خُلِقَ ليعلّم ولم يخلق ليقول حكمت على هذا وحكمت لذاك، وفي هذه المرحلة استكمل تعلم اللغة الفرنسية وتمكن منها حديثاً وكتابة في وقت قصير.
وقد نبه شأنه، وازدادت شهرته فأصبح عضواً في مجلس إدارة الأزهر. وفي عام 1899 أصبح مفتي الديار المصرية، ومكَّنه ذلك من تحقيق إنجازات كبرى على الصعد الإدارية والعلمية والتعليمية، ولاسيما في جامعة الأزهر ووزارة الأوقاف ووزارة المعارف وبعض دوائر الدولة والجمعيات الخيرية.
وفي هذه السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر ذاع صيته، وتجاوزت شهرته وادي النيل وربوع العالم العربي حتى بلغت أقصى ديار الإسلام، مثل الهند وإندونيسيا والملايو… وكان كثير من المسلمين يكتبون إليه ويستفتونه في أمور دينهم، وكانوا يتابعون فتواه التي كانت تنشرها لـه جريدة «المنار» لصاحبها صديقه ومريده الشيخ محمد رشيد رضا، وكان من تأثير ذلك أن بعض نبهاء المسلمين أصدروا في إندونيسيا جريدة على هذا الغرار سموها «المنير».
يعد الشيخ محمد عبده رجل الإصلاح الأكبر في تاريخ العرب والمسلمين في العصور الحديثة، وأحد أهم بناة النهضة الفكرية في الشرق، ويقوم مذهبه الفكري ومنهجه الإصلاحي على مجموعة من الأسس والمنطلقات ارتضاها وآمن بجدواها، وراح يبشر بها ويدعو إليها من دون هوادة، وذلك في أحاديثه ودروسه ومحاضراته وخطبه ومقالاته، فضلاً عن مواقفه ومبادراته، وردوده ودراساته. من ذلك اعتقاده الراسخ أن السبيل الأمثل لإنهاض الأمة هو تربية الجيل وتعليمه وتوعيته، ومن ثم تنقية عقيدته من الجهالات والبدع والتخلص من الخرافات والنزعات الغيبية والروح الاتكالية، ليتم الاعتماد على العقل والمنطق والبرهان، وترك اللجاج والمماحكة والإغراق في التفصيلات والجزئيات والمسائل الخلافية وغير ذلك، مما يبعد الأمة عن جوهر الأمور ويعطلها عن العمل والتقدم. ومن أقواله في هذا الصدد «بارك الله في العلم والتعليم، وفي عَلَّمَ وتَعَلَّمَ، وفي عالمٍ ومعلومٍ وعليمٍ، وفي كل حرف من حروف العين واللام والميم».
ومن هذا المنطلق العقلي القائم على العلم والفهم الصحيح تصدى الشيخ الإمام لظاهرة الجهل الفاشي وللقائمين على شؤون التعليم من مستوياته المختلفة، ولجوء بعضهم إلى تكفير من يقول بدوران الأرض وكرويتها، وذهابِ آخرين إلى أن تدريس الجغرافيا والفيزياء كفر وخروج عن الإسلام. ودعا الشيخ بقوة إلى تدريس العلوم الحديثة ونبذ الطرق العقيمة والتخلي عن اجترار المفاهيم المكرورة، والأخذ بالمناهج العصرية التي تبنتها الأمم المتحضرة.
رفـع الشيخ رايـة البحث، وحض على الاجتهاد، ولاسيما في شؤون الدين وأمور الفقه، وكان في منحاه هـذا قريباً من الإمام الغزالي من حيث تحكيمه العقل وأخذه بالقياس، ووضع نُصُبَ عينيه على الدوام التوفيق بين الدين والعقل، واستتبع ذلك لدى الشيخ الإمام دعوته الحارة إلى الحوار والإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن، ولابد من القول إنه في ردوده على بعض المغرضين من المستشرقين ومَنْ نحا نحوهم عمد إلى تفنيد آرائهم الجائرة تجاه الإسلام، ودأب على دحض دعاواهم بالحجة والدليل، ولم ينتقص قـط من العقيدة المسيحية وتعاليمها. وكان بذلك في طليعة دعاة التسامح والتعايش في حياة العرب والمسلمين.
ومع رصانة الإمام وأناته واعتداله في مواقفه وآرائه، فقد انطوى في الوقت نفسه على جرأة بالغة في عصر غلب عليه التخلف والأمية والجهل، وكان متوقعاً ممن كان هذا شأنه أن يؤلِّبَ عليه كثيراًً من الجهلة وأدعياء التقى والصلاح، وأيضاً من بعض أولي الأمر والساسة والصحفيين وذوي المصالح والمآرب وأهل النفاق والمنتفعين …، فرشقوه بسهام حادة وتهم ظالمة وطعنوه في خلقه ودينه، حتى نعته بعضهم بأنه «عدو الله، وعدو الدين، وعدو الأمير وعدو العلماء، وعدو المسلمين، وعدو أهله، بل وعدو نفسه».
توفي الإمام في الإسكندرية عن ثمانية وخمسين عاماً، وهذا عمر ليس بمديد ولكنه كان حافلاً بالعطاء، بالغاً في التأثير. وأحدثت وفاته موجة عارمة من الحزن في أرجاء العالمين العربي والإسلامي ودفن في القاهرة. وكان تشييع جنازته حدثاً شعبياً وقومياً مشهوداً. وقد أنطق رحيله الخطباء والكتاب والشعراء بأبلغ الكلام وأحر المشاعر.
ترك الشيخ الإمام بصمات واضحة على مجمل الحياة الفكرية والدينية والاجتماعية في وطنه إبان حياته، واستمر تأثيره في الأجيال بفضل تلاميذه وسائر المستنيرين من أتباعه وحملة الراية من بعده، مثل رشيد رضا ومصطفى المراغي وإبراهيم حمروش ومحمود شلتوت ومحمد شاكر والشنقيطي وإمام العبد وعبد القادر المغربي ومصطفى عبد الرازق وسعد زغلول وحافظ إبراهيم وعبد المحسن الكاظمي وأديب إسحاق.
ومن كتبه: «تفسير أجزاء من القرآن الكريم»، كتاب «الإسلام والنصرانية»، «رسالة التوحيد»، «الرد على المستشرق هانوتو»، ومجمل مقالاته وفتاواه في «العروة الوثقى» وفي «الوقائع المصرية»، و«المنار» و«الأهرام».
عمر الدقاق
’Abdou (Mohammad-) - ’Abdou (Mohammad-)
عبده (محمد ـ)
(1265ـ 1323هـ/1849ـ 1905م)
|
ترك طنطا ورحل إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر، فلم يجد أيضاً لدى شيوخه ما يغاير أمثالهم في المسجد الأحمدي بطنطا. ثم تخرَّج وحمل شهادة العالمية، وفي نفسه نقمة على فساد التعليم وتخلف مناهجه عن العصر، وعزمٌ شديدٌ على محاولة إصلاح ما رآه وما عاناه. بعد ذلك تولى التدريس في الأزهر نحواً من سنتين، انتقل بعدهما إلى التدريس في دار العلوم. ولكنه سرعان ما أُبْعِدَ عن عمله لأسباب غير معلنة لعدم رضا بعض رجال السلطة عن أفكاره. وفي هذه الفترة التقى جمال الدين الأفغاني، فأُعْجِبَ به وبمواهبه، ولازمه وأصبح تلميذاً لـه ومريداً وصديقاً، وتلقَّى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمة والفلسفة، وبدأ يتشرَّب كثيراً من ثمار فكره المستنير. وقد تزايد طلاب الشيخين الرائدين ووجدوا لديهما من المفاهيم الجديدة ومن الأفكار الحرة ما لم يعهدوه لدى أحد من قبل، فضلاً عن بلاغة القول وسداد الرأي،.وهذا المنحى أقلق الرسميين والمتزمتين معاً، فانبروا لتسفيه أقوال الرجلين واتهموهما بالزيغ في العقيدة، والمروق من الدين، وتضليل الناشئة.
مضى الشيخ الشاب يكتب مقالاته مؤمناً بجدوى منحاه في الإصلاح، فتكاثر قراؤه واتسع جمهوره. ثم أخذ يتواصل والزعيم أحمد عرابي ورفاقه من دون أن يتفق معهم في جميع وسائل نضالهم وخطط عملهم، ومع ذلك التحم بالثورة حين قامت، ثم كان أن أخفقت ثورة عرابي، وبادر الإنكليز إلى احتلال مصر سنة 1882، وتقرر نفي محمد عبده من مصر، فنزح إلى بيروت، حيث عاش في جو اجتماعي سمح، وعمل في مهنة التدريس التي يحبها. ولم يكتف بعمله التعليمي في المدرسة السلطانية، بل وسع دروسه في عدد من المساجد وغدا منزلـه مقصداً لعارفي فضله. وكان أن لفت الأفكار في لبنان ببلاغته وفطنته وشخصيته المحببة المهيبة وفي ذلك الحين تزوج من السيدة رضا حمادة، وهي من أسرة لبنانية معروفة، ومالبث محمد عبده طويلاً حتى رحل سنة 1884 إلى فرنسا، ليلتقي من جديد بأستاذه الأفغاني، بعد أن شتتهما الأحوال في مصر. وفي باريس حيث كان مناخ الحرية مواتياً لأمثالهما أصدرا جريدة «العروة الوثقى» فكان لها تأثير بالغ يقارب الدوي بفضل مقالاتها الجريئة في شؤون المجتمع وقضايا السياسة والتصدي للمستبدين والمفسدين، وكانت أعداد الجريدة تصل سراً مع بعض المسافرين بحراً إلى الإسكندرية، وهناك كان يتلقفها كثير ويتداولونها بمتعة غامرة، وكانت غالباً ما تصادر أعدادها في مصر، ولم تزد أعدادها على ثمانية عشر عدداً، إذ اضطر صاحباها إلى التوقف عن إصدارها بعد ثمانية أشهر،لأنها لقيت كل مضايقة ومكافحة من سلطة الخديوي ومن المحتل الإنكليزي معاً.
عاد الشيخ إلى وطنه مصر سنة 1889، وفيها تولى القضاء الشرعي، ثم أصبح قاضياً بمحكمة الاستئناف. وكان يفضل التعليم، ولكن الحكام لم يتيحوا لـه ذلك، وقد قال آنئذ لأحد أصفيائه إنه خُلِقَ ليعلّم ولم يخلق ليقول حكمت على هذا وحكمت لذاك، وفي هذه المرحلة استكمل تعلم اللغة الفرنسية وتمكن منها حديثاً وكتابة في وقت قصير.
وقد نبه شأنه، وازدادت شهرته فأصبح عضواً في مجلس إدارة الأزهر. وفي عام 1899 أصبح مفتي الديار المصرية، ومكَّنه ذلك من تحقيق إنجازات كبرى على الصعد الإدارية والعلمية والتعليمية، ولاسيما في جامعة الأزهر ووزارة الأوقاف ووزارة المعارف وبعض دوائر الدولة والجمعيات الخيرية.
وفي هذه السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر ذاع صيته، وتجاوزت شهرته وادي النيل وربوع العالم العربي حتى بلغت أقصى ديار الإسلام، مثل الهند وإندونيسيا والملايو… وكان كثير من المسلمين يكتبون إليه ويستفتونه في أمور دينهم، وكانوا يتابعون فتواه التي كانت تنشرها لـه جريدة «المنار» لصاحبها صديقه ومريده الشيخ محمد رشيد رضا، وكان من تأثير ذلك أن بعض نبهاء المسلمين أصدروا في إندونيسيا جريدة على هذا الغرار سموها «المنير».
يعد الشيخ محمد عبده رجل الإصلاح الأكبر في تاريخ العرب والمسلمين في العصور الحديثة، وأحد أهم بناة النهضة الفكرية في الشرق، ويقوم مذهبه الفكري ومنهجه الإصلاحي على مجموعة من الأسس والمنطلقات ارتضاها وآمن بجدواها، وراح يبشر بها ويدعو إليها من دون هوادة، وذلك في أحاديثه ودروسه ومحاضراته وخطبه ومقالاته، فضلاً عن مواقفه ومبادراته، وردوده ودراساته. من ذلك اعتقاده الراسخ أن السبيل الأمثل لإنهاض الأمة هو تربية الجيل وتعليمه وتوعيته، ومن ثم تنقية عقيدته من الجهالات والبدع والتخلص من الخرافات والنزعات الغيبية والروح الاتكالية، ليتم الاعتماد على العقل والمنطق والبرهان، وترك اللجاج والمماحكة والإغراق في التفصيلات والجزئيات والمسائل الخلافية وغير ذلك، مما يبعد الأمة عن جوهر الأمور ويعطلها عن العمل والتقدم. ومن أقواله في هذا الصدد «بارك الله في العلم والتعليم، وفي عَلَّمَ وتَعَلَّمَ، وفي عالمٍ ومعلومٍ وعليمٍ، وفي كل حرف من حروف العين واللام والميم».
ومن هذا المنطلق العقلي القائم على العلم والفهم الصحيح تصدى الشيخ الإمام لظاهرة الجهل الفاشي وللقائمين على شؤون التعليم من مستوياته المختلفة، ولجوء بعضهم إلى تكفير من يقول بدوران الأرض وكرويتها، وذهابِ آخرين إلى أن تدريس الجغرافيا والفيزياء كفر وخروج عن الإسلام. ودعا الشيخ بقوة إلى تدريس العلوم الحديثة ونبذ الطرق العقيمة والتخلي عن اجترار المفاهيم المكرورة، والأخذ بالمناهج العصرية التي تبنتها الأمم المتحضرة.
رفـع الشيخ رايـة البحث، وحض على الاجتهاد، ولاسيما في شؤون الدين وأمور الفقه، وكان في منحاه هـذا قريباً من الإمام الغزالي من حيث تحكيمه العقل وأخذه بالقياس، ووضع نُصُبَ عينيه على الدوام التوفيق بين الدين والعقل، واستتبع ذلك لدى الشيخ الإمام دعوته الحارة إلى الحوار والإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن، ولابد من القول إنه في ردوده على بعض المغرضين من المستشرقين ومَنْ نحا نحوهم عمد إلى تفنيد آرائهم الجائرة تجاه الإسلام، ودأب على دحض دعاواهم بالحجة والدليل، ولم ينتقص قـط من العقيدة المسيحية وتعاليمها. وكان بذلك في طليعة دعاة التسامح والتعايش في حياة العرب والمسلمين.
ومع رصانة الإمام وأناته واعتداله في مواقفه وآرائه، فقد انطوى في الوقت نفسه على جرأة بالغة في عصر غلب عليه التخلف والأمية والجهل، وكان متوقعاً ممن كان هذا شأنه أن يؤلِّبَ عليه كثيراًً من الجهلة وأدعياء التقى والصلاح، وأيضاً من بعض أولي الأمر والساسة والصحفيين وذوي المصالح والمآرب وأهل النفاق والمنتفعين …، فرشقوه بسهام حادة وتهم ظالمة وطعنوه في خلقه ودينه، حتى نعته بعضهم بأنه «عدو الله، وعدو الدين، وعدو الأمير وعدو العلماء، وعدو المسلمين، وعدو أهله، بل وعدو نفسه».
توفي الإمام في الإسكندرية عن ثمانية وخمسين عاماً، وهذا عمر ليس بمديد ولكنه كان حافلاً بالعطاء، بالغاً في التأثير. وأحدثت وفاته موجة عارمة من الحزن في أرجاء العالمين العربي والإسلامي ودفن في القاهرة. وكان تشييع جنازته حدثاً شعبياً وقومياً مشهوداً. وقد أنطق رحيله الخطباء والكتاب والشعراء بأبلغ الكلام وأحر المشاعر.
ترك الشيخ الإمام بصمات واضحة على مجمل الحياة الفكرية والدينية والاجتماعية في وطنه إبان حياته، واستمر تأثيره في الأجيال بفضل تلاميذه وسائر المستنيرين من أتباعه وحملة الراية من بعده، مثل رشيد رضا ومصطفى المراغي وإبراهيم حمروش ومحمود شلتوت ومحمد شاكر والشنقيطي وإمام العبد وعبد القادر المغربي ومصطفى عبد الرازق وسعد زغلول وحافظ إبراهيم وعبد المحسن الكاظمي وأديب إسحاق.
ومن كتبه: «تفسير أجزاء من القرآن الكريم»، كتاب «الإسلام والنصرانية»، «رسالة التوحيد»، «الرد على المستشرق هانوتو»، ومجمل مقالاته وفتاواه في «العروة الوثقى» وفي «الوقائع المصرية»، و«المنار» و«الأهرام».
عمر الدقاق