لغه (تدوين) -
اللغة (تدوين ـ)
اتجه كثير من اللغويين العرب إلى أنّ اللغة توقيف، وحجتهم قوله جلّ وعزّ: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة 31).
وهناك فريق آخر رأى أن اللغة اصطلاح من صنع البشر.
وقد أحسن عدد من اللغويين في الجمع بين الرأيين فقالوا: إن اللغة هي من عند الله، والله قد جعل قدرة في الإنسان على أن يصطلح من اللغة حسب حاجته.
وذهب بعضهم إلى أن أصلها محاكاة للأصوات المسموعة كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، ثم ولدت اللغات فيما بعد.
أما عن تدوين اللغة فإنّ المصادر اللغوية والأدبية عند العرب لم تظهر فجأة، بل مرت بمراحل الرواية والجمع والتدوين، متأثرة بمراحل تطور وسائل التدوين، فغياب الورق، أو قلّة انتشاره كان يحدّ من حجم التدوين، وكذا قلّة الذين يعرفون الكتابة كان له دور في ذلك، وهذا ما جعل العربي يستعين بقوة الحافظة في اختزان المعلومات واسترجاعها، فإذا توافرت وسائل التدوين ومعرفة الكتابة كان التدوين، ثم التأليف.
وتكاد الدراسات الحديثة تجمع أن العرب قد عرفوا الكتابة منذ العصر الجاهلي، ويقال: كان في مكة المكرمة عند مجيء الإسلام سبعة عشر كاتباً، وفي المدينة أحد عشر.
ويفهم من القرآن الكريم أن العرب عرفت الكتابة، وذلك من خلال قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ…﴾ (البقرة 282) فالقرآن خاطبهم بما يعرفونه. لكن كان هناك خلاف حول حجم معرفتهم وكمية ما دوّنوه، فمن الباحثين من ينفي تدوين العرب قبل الإسلام شيئاً من معارفهم، ومنهم من قلل من شأن التدوين قبل الإسلام، ومن حجم ما دوّن، مرجّحاً دور الرواية الشفوية في سيرورة الشعر الجاهلي وانتشاره، وقد رأى بعضهم أنّ حجم التدوين لديهم لم يكن هيناً.
ومهما يكن فالعرب قد عرفوا الكتابة، غير أن المشكلة التي تواجه المرء تتعلق بالوسيلة الأساسية للكتابة وهي الخط، فالخط العربي له مشكلة خاصة تتعلق بنشأته وتطوره، فقد اختلفت آراء الباحثين حول نشأته وأصوله ومصادره اختلافاً كبيراً، فتراوحت الآراء بين الغيبية التي تجعل الخط توقيفاً من الله، علّمه لآدم، والآراء التي تستقرىء النقوش الحجرية التي عثر عليها في أماكن متعددة من شبه الجزيرة العربية. ومن هذا الاستقراء انتهى العلماء إلى ترجيح أن الخط العربي قد أُخذ في البداية عن الخط النبطي، ثم أخذ قبيل الإسلام يتطور في اتجاهه الخاص، ومن ثم كان التشابه كبيراً بين الخط العربي قبيل مجيء الإسلام وبين المراحل الأولى من الكتابة في صدر الإسلام، وإذا كانت هناك بعض الفروق الطفيفة فمرجعها إلى التطور الذي حدث في تجويد هذا الخط نتيجة تزايد عدد الكتَّاب واتساع نطاق التدوين.
ومن أهم القضايا التي تتصل بتاريخ الخط العربي قضية رقش الحروف (التنقيط) للتمييز بين حروفها المتطابقة في الشكل؛ ففي الأبجدية العربية مجموعات من الحروف ترسم بطريقة واحدة هي: الباء والتاء والثاء والياء والنون، ثم الجيم والحاء والخاء، ثم الدال والذال، ثم الراء والزاي، ثم السين والشين، ثم الصاد والضاد، ثم الطاء والظاء، ثم العين والغين، ثم الفاء والقاف، وبغير نظام التنقيط يصعب قراءة الكلمة الصحيحة، ويصبح التصحيف أمراً كثير الوقوع.
ويرى آخرون أنّ الرقش كان معروفاً في عهد الرسول الكريمr، معتمداً في هذا على ما ترويه بعض المصادر القديمة من أنّ عبيد بن أوس الغساني كاتب معاوية قال: «كتبت بين يدي معاوية كتاباً، فقال لي: يا عبيد! ارقش كتابك؛ فإني كتبت بين يدي رسول اللهr رقشته، قال عبيد: قلت وما رقشته يا أمير المؤمنين؟ قال: أعط كل حرف ما يناسبه من النقط».
وهذا يدل على أن الرقش كان معروفاً في أواخر العصر النبوي، فمعاوية صار كاتباً له بعد فتح مكة المكرمة.
وكانت النقوش والبرديات التي عثر عليها حديثاً من أوثق المصادر في قضية الرقش، فقد نُشرت مقالة مصورة عن كتابة وجدت على سد قريب من الطائف، فقُرأ عليه في ستة أسطر ما يأتي:
«هذا السد لعبد الله معوية/أمير المؤمنين بنيه عبد الله بن صخر/بإذن الله لسنة ثمن وخمسين أ/للهم اغفر الله معوية أ/مير المؤمنين وثبته وانصره ومتع ا/لمؤمنين به كتب عمرو ابن حباب».
ويقول صاحب المقال إنه يوجد رقش على إحدى عشرة كلمة في النص السابق.
وإذا كان هذا النقش قد كتب سنة 58هـ فإن هناك (بردية) مؤرخة في سنة22هـ في أيام خلافة عمر، وفيها نص عربي مع ترجمة يونانية، وقد ظهر فيها الرقش على حروف الخاء والذال والزاي والشين والنون، ومعنى هذا أن هذه الكشوف تؤكد الرأي القائل بمعرفة العرب للرقش منذ وقت مبكر، أو منذ عهد عمر على أقل تقدير، وإن لم يكونوا يستخدمونه دائماً وإذا استخدموه لم يستخدموه بصورته الكاملة.
أما حروف القرآن الكريم فلم تكن منقوطة في بادىء الأمر، فعدم ظهور النقط في القرآن الكريم لا يمكن أن يستدل منه على عدم معرفة العرب آنذاك به؛ بل لتحرجهم في استخدامه، على أن الحاجة إلى نقط القرآن الكريم نقطاً كاملاً صارت ماسة عندما ظهر التصحيف واللحن على ألسنة الناس.
ومع تزايد اللحن قام أبوالأسود الدؤلي - على الأشهر- بوضع ضوابط للكتابة تعصم من اللحن، فاهتدى إلى الفتحة، وكان يكتبها نقطة فوق الحرف بمداد يختلف لونه عن لون مداد الكتابة نفسها، وإلى الكسرة فجعلها نقطة تحت الحرف، وإلى الضمة فجعلها نقطة بين يدي الحرف، وأما التنوين فجعله نقطتين أمام يدي الحرف، على حين أنه أهمل السكون، وبهذه الطريقة شكّل المصحف.
ومع ذلك فإن التصحيف في الكتابة استمر لغياب النقط من الحروف المتشابهة؛ الأمر الذي دعا نصر بن عاصم إلى وضع النقط على الحروف المتشابهة؛ وذلك بلون الحبر نفسه الذي كتبت به الحروف؛ كي تتميّز النقاط الدالة على الشكل- التي وضعها أستاذه أبو الأسود- عن نقاطه المعجمة للحروف، لكن هذا أحدث إرباكاً وخلطاً جعل الخليل بن أحمد يخترع شكلاً آخر للضبط؛ فكانت الحركات التي تعرف اليوم، وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري، ومنذ ذلك الوقت شاع النقط والشكل بطريقة المحدثين.
هذا ما يتعلق بمشكلة الكتابة والرقش، وأما ما يتصل بوسائل الكتابة فقد كانوا يحصلون عليها من مصدرين: خارجي، وداخلي.
فالخارجي منها هو ما استوردوه من الصين كالورق، والمهارق من بلاد فارس، وهو قماش من الحرير كان يطلى أو يسقى بالصمغ ثم يصقل، والقرطاس وهو ورق البردي الذي كان يؤتى به من صعيد مصر.
وأما الداخلي فهو الأديم، وهو الجلد الأحمر المدبوغ، وكذلك عُسُب النخل، وعظام الكتف العريضة، والأضلاع، واللخاف، وهي حجارة بيضاء رقيقة.
وقد ظلت هذه الوسائل تستخدم إلى نهاية القرن الثاني؛ إذ انتشر الورق بعدئذ، وبانتشار الورق نمت حركة التدوين.
على أن القرن الأول الهجري، وبداية القرن الثاني شهدا تدويناً دعت الحاجة إليه، ففي العصر الإسلامي دعت الحاجة إلى تدوين القرآن الكريم؛ إذ دوّن في أول الأمر على نحو متفرق من قبل كتّاب الوحي، وكان منهم : علي- كرّم الله وجهه- ومعاوية.
وبعد وفاة الرسولr وارتداد بعضهم في عهد أبي بكر أصبحت الحاجة إلى التدوين ماسة، ولاسيما بعد استشهاد عدد كبير من الصحابة من حفظة الكتاب الكريم، ففي غزوة اليمامة وحدها استشهد سبعمئة منهم، فتنبه عمر بن الخطاب إلى خطر ذلك فأشار على أبي بكر بضرورة تدوين القرآن، غير أن أبا بكر تردد في فعل أمر لم يفعله النبيr، لكن عمر أقنعه؛ فكلف أبو بكر زيدَ بن ثابت جمعه، وحين فرغ من جمعه في مصحف واحد قدمه إلى أبي بكر، فظل عنده إلى وفاته، ثم انتقل إلى عمر، فبقي لديه عشر سنين، واحتفظت به ابنته حفصة بعد وفاة أبيها.
وفي عهد عثمان بن عفان، أدرك حذيفة بن اليمان الخطر من الاختلاف في القراءات القرآنية فنبه عثمان إلى ذلك، فأرسل إلى حفصة يطلب منها المصحف لكي ينسخه، ثم دعا زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأمرهم أن ينسخوه، وأن يستعينوا في ضبط القراءة بما حفظه القراء، وعلى أيديهم تمت عملية تدوين المصحف في صورته النهائية، ومنذ ذلك الوقت صارت هذه هي النسخة الأم، وقد أمر عثمان بكتابة ست نسخ منها احتفظ لنفسه بواحدة منها، وجعل لأهل المدينة واحدة، ووزع الأربع الباقية على مكة والبصرة والكوفة والشام.
ولم يقتصر الأمر في صدر الإسلام الأول على تدوين القرآن الكريم؛ بل دونت بعض المعاهدات والرسائل التي بعث بها عليه السلام إلى القبائل، وإلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، ناهيك عن كتب الأمان وكتب تقسيم الغنائم وكتب الإقطاعات.
وعن الحديث الشريف فعلى الرغم من تناقله رواية فقد دوّن في وقت مبكر، فعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك كانوا ممن يدونون الأحاديث التي سمعوها، غير أن اكتمال تدوينه كان فيما بعد، ويتجلى ذلك في مدونات الحديث الكبيرة الجامعة مثل صحيح الإمام البخاري وصحيح مسلم وسواهما.
وتحسن الإشارة أيضاً إلى تدوين تفاسير القرآن وغريبه، وأسباب النزول، ومن أوائل ما دوّن في هذا الباب التفسير المنسوب إلى ابن عباس.
وتفسير القرآن الكريم استتبع لوناً آخر من التأليف، وهو كتابة المغازي والسير، وأهم من صنّف في ذلك عروة ابن الزبير، ووهب بن منبه، وابن شهاب الزهري.
واستمر التدوين بعد انتهاء عهد الراشدين، ففي خلافة معاوية بن أبي سفيان دوّنت كتب كثيرة، منها كتب الصحابي عبد الله بن عباس (ت 68هـ)، ولمّا كان معاوية مولعاً بمعرفة أخبار الملوك وسيرهم وسياساتهم فقد كانت لديه دفاتر فيها سير الملوك وأخبارها، وأخبار الحروب والمكايد، وقد ألّفت في عهده كتب في الأمثال لكلٍّ من عبيد ابن شرية، وصحار بن عياش العبدي.
وفي أوائل النصف الثاني من القرن الأول الهجري، أقام عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي نادياً في بيته جعل فيه دفاتر فيها من كل علم، فمن جاء جرّ دفتراً فقرأه، وهذا يدل على تزايد المؤلفات والمدونات في ذلك العهد.
وقد استمرت حركة التدوين في العهد الأموي الثاني، ونشط المؤلفون والمصنفون. فبرع خالد بن يزيد بن معاوية الذي اشتغل بالعلم والتأليف، وبترجمة الكتب إلى العربية، فكان أول ما ترجمه كتب النجوم والطب والكيمياء، وبرع ابن شهاب الزهري في مجال التدوين، فملأ الدنيا بمصنفاته وتآليفه، حتى قيل: إنه كان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله، فاشتغل بها عن كل شيء حتى عن أهل بيته، وكانت زوجه تقول له: «والله لهذه الكتب أشدّ عليّ من ثلاث ضرائر».
وقام الوليد بن يزيد بسبب ولعه بالشعر بجمع ديوان العرب وأخبارها وأنسابها، فاستعار من حماد الراوية ومن جُناد بن واصل الكوفي ما عندهما من الكتب والدواوين فدونها عنده، ثم أعادها إليهما، ولم تضم خزانته ما استنسخه من كتب حماد وجُناد فحسب؛ بل كانت تضم مصنفات ابن شهاب الزهري وغيرها من الكتب.
وفي العهد العباسي الأول، كان أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ) ممن أكثر من التدوين- مع أنه كان حريصاً على الحفظ- وقد ملأت كتبه بيتاً له إلى قريب من السقف.
وما سلف يشير إلى أن التدوين بدأ في حياة العرب منذ وقت مبكر، ثم أخذ ينمو ويتطور إلى أن اكتمل تدوين المعارف العربية في النصف الأول من القرن الثالث الهجري.
وبعد أن تمّ جمع اللغة العربية واستقرارها فيما دوّن من مؤلفات غلبت على العلماء النزعة إلى التصنيف والتنظيم، فأخذ كل عالم يجمع مادته من هذا التدوين الهائل في الموضوع الذي يودّ التصنيف فيه.
ومما له صلة بالتدوين أن جامعي الشعر لم يكتفوا بجمعه؛ بل كانوا يأتون بشرح مجمل لكل قصيدة في نهايتها، حتى جاء الأخفش الأكبر فاتبع طريقة جديدة في شرح الشعر، فقام بشرح كل بيت على حدة شرحاً لغوياً ونحوياً، وهذا المنهج أفاد منه مؤلفو المعاجم فيما بعد، وكانت هذه المادة الهائلة التي جمعها علماء اللغة في كتبهم بداية للتأليف المعجمي، وكان كتاب «العين» للخليل بن أحمد أول معجم جمع فيه مفردات العربية، رتّبه على مخارج الحروف، وقد سار على منهجه في ترتيب الحروف حسب مخارجها القالي في «البارع»، والأزهري في «التهذيب»، والصاحب بن عباد في معجم «المحيط»، وابن سيده في «المحكم».
ثم جاء بعد ذلك مجموعة من المعاجم تراعي الترتيب الألفبائي، كـ«الجمهرة» لابن دريد، و«مقاييس اللغة» و«المجمل» لابن فارس.
ثم ظهرت المعاجم التي رتبت الحروف على وفق أواخر الكلمات، كـ«الصحاح» للجوهري، و«لسان العرب» لابن منظور، و«القاموس المحيط» للفيروزآبادي.
وكان هناك معاجم المعاني التي ألفت حول موضوع بعينه، مستقصية الألفاظ التي تتصل بهذا الموضوع، مثل الكتب التي صنفت في خلق الإنسان والمطر، ويأتي في مقدمة معاجم المعاني «المخصص» لابن سيده.
سكينة موعد
اللغة (تدوين ـ)
اتجه كثير من اللغويين العرب إلى أنّ اللغة توقيف، وحجتهم قوله جلّ وعزّ: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة 31).
وهناك فريق آخر رأى أن اللغة اصطلاح من صنع البشر.
وقد أحسن عدد من اللغويين في الجمع بين الرأيين فقالوا: إن اللغة هي من عند الله، والله قد جعل قدرة في الإنسان على أن يصطلح من اللغة حسب حاجته.
وذهب بعضهم إلى أن أصلها محاكاة للأصوات المسموعة كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، ثم ولدت اللغات فيما بعد.
أما عن تدوين اللغة فإنّ المصادر اللغوية والأدبية عند العرب لم تظهر فجأة، بل مرت بمراحل الرواية والجمع والتدوين، متأثرة بمراحل تطور وسائل التدوين، فغياب الورق، أو قلّة انتشاره كان يحدّ من حجم التدوين، وكذا قلّة الذين يعرفون الكتابة كان له دور في ذلك، وهذا ما جعل العربي يستعين بقوة الحافظة في اختزان المعلومات واسترجاعها، فإذا توافرت وسائل التدوين ومعرفة الكتابة كان التدوين، ثم التأليف.
وتكاد الدراسات الحديثة تجمع أن العرب قد عرفوا الكتابة منذ العصر الجاهلي، ويقال: كان في مكة المكرمة عند مجيء الإسلام سبعة عشر كاتباً، وفي المدينة أحد عشر.
ويفهم من القرآن الكريم أن العرب عرفت الكتابة، وذلك من خلال قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ…﴾ (البقرة 282) فالقرآن خاطبهم بما يعرفونه. لكن كان هناك خلاف حول حجم معرفتهم وكمية ما دوّنوه، فمن الباحثين من ينفي تدوين العرب قبل الإسلام شيئاً من معارفهم، ومنهم من قلل من شأن التدوين قبل الإسلام، ومن حجم ما دوّن، مرجّحاً دور الرواية الشفوية في سيرورة الشعر الجاهلي وانتشاره، وقد رأى بعضهم أنّ حجم التدوين لديهم لم يكن هيناً.
ومهما يكن فالعرب قد عرفوا الكتابة، غير أن المشكلة التي تواجه المرء تتعلق بالوسيلة الأساسية للكتابة وهي الخط، فالخط العربي له مشكلة خاصة تتعلق بنشأته وتطوره، فقد اختلفت آراء الباحثين حول نشأته وأصوله ومصادره اختلافاً كبيراً، فتراوحت الآراء بين الغيبية التي تجعل الخط توقيفاً من الله، علّمه لآدم، والآراء التي تستقرىء النقوش الحجرية التي عثر عليها في أماكن متعددة من شبه الجزيرة العربية. ومن هذا الاستقراء انتهى العلماء إلى ترجيح أن الخط العربي قد أُخذ في البداية عن الخط النبطي، ثم أخذ قبيل الإسلام يتطور في اتجاهه الخاص، ومن ثم كان التشابه كبيراً بين الخط العربي قبيل مجيء الإسلام وبين المراحل الأولى من الكتابة في صدر الإسلام، وإذا كانت هناك بعض الفروق الطفيفة فمرجعها إلى التطور الذي حدث في تجويد هذا الخط نتيجة تزايد عدد الكتَّاب واتساع نطاق التدوين.
ومن أهم القضايا التي تتصل بتاريخ الخط العربي قضية رقش الحروف (التنقيط) للتمييز بين حروفها المتطابقة في الشكل؛ ففي الأبجدية العربية مجموعات من الحروف ترسم بطريقة واحدة هي: الباء والتاء والثاء والياء والنون، ثم الجيم والحاء والخاء، ثم الدال والذال، ثم الراء والزاي، ثم السين والشين، ثم الصاد والضاد، ثم الطاء والظاء، ثم العين والغين، ثم الفاء والقاف، وبغير نظام التنقيط يصعب قراءة الكلمة الصحيحة، ويصبح التصحيف أمراً كثير الوقوع.
ويرى آخرون أنّ الرقش كان معروفاً في عهد الرسول الكريمr، معتمداً في هذا على ما ترويه بعض المصادر القديمة من أنّ عبيد بن أوس الغساني كاتب معاوية قال: «كتبت بين يدي معاوية كتاباً، فقال لي: يا عبيد! ارقش كتابك؛ فإني كتبت بين يدي رسول اللهr رقشته، قال عبيد: قلت وما رقشته يا أمير المؤمنين؟ قال: أعط كل حرف ما يناسبه من النقط».
وهذا يدل على أن الرقش كان معروفاً في أواخر العصر النبوي، فمعاوية صار كاتباً له بعد فتح مكة المكرمة.
وكانت النقوش والبرديات التي عثر عليها حديثاً من أوثق المصادر في قضية الرقش، فقد نُشرت مقالة مصورة عن كتابة وجدت على سد قريب من الطائف، فقُرأ عليه في ستة أسطر ما يأتي:
«هذا السد لعبد الله معوية/أمير المؤمنين بنيه عبد الله بن صخر/بإذن الله لسنة ثمن وخمسين أ/للهم اغفر الله معوية أ/مير المؤمنين وثبته وانصره ومتع ا/لمؤمنين به كتب عمرو ابن حباب».
ويقول صاحب المقال إنه يوجد رقش على إحدى عشرة كلمة في النص السابق.
وإذا كان هذا النقش قد كتب سنة 58هـ فإن هناك (بردية) مؤرخة في سنة22هـ في أيام خلافة عمر، وفيها نص عربي مع ترجمة يونانية، وقد ظهر فيها الرقش على حروف الخاء والذال والزاي والشين والنون، ومعنى هذا أن هذه الكشوف تؤكد الرأي القائل بمعرفة العرب للرقش منذ وقت مبكر، أو منذ عهد عمر على أقل تقدير، وإن لم يكونوا يستخدمونه دائماً وإذا استخدموه لم يستخدموه بصورته الكاملة.
أما حروف القرآن الكريم فلم تكن منقوطة في بادىء الأمر، فعدم ظهور النقط في القرآن الكريم لا يمكن أن يستدل منه على عدم معرفة العرب آنذاك به؛ بل لتحرجهم في استخدامه، على أن الحاجة إلى نقط القرآن الكريم نقطاً كاملاً صارت ماسة عندما ظهر التصحيف واللحن على ألسنة الناس.
ومع تزايد اللحن قام أبوالأسود الدؤلي - على الأشهر- بوضع ضوابط للكتابة تعصم من اللحن، فاهتدى إلى الفتحة، وكان يكتبها نقطة فوق الحرف بمداد يختلف لونه عن لون مداد الكتابة نفسها، وإلى الكسرة فجعلها نقطة تحت الحرف، وإلى الضمة فجعلها نقطة بين يدي الحرف، وأما التنوين فجعله نقطتين أمام يدي الحرف، على حين أنه أهمل السكون، وبهذه الطريقة شكّل المصحف.
ومع ذلك فإن التصحيف في الكتابة استمر لغياب النقط من الحروف المتشابهة؛ الأمر الذي دعا نصر بن عاصم إلى وضع النقط على الحروف المتشابهة؛ وذلك بلون الحبر نفسه الذي كتبت به الحروف؛ كي تتميّز النقاط الدالة على الشكل- التي وضعها أستاذه أبو الأسود- عن نقاطه المعجمة للحروف، لكن هذا أحدث إرباكاً وخلطاً جعل الخليل بن أحمد يخترع شكلاً آخر للضبط؛ فكانت الحركات التي تعرف اليوم، وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري، ومنذ ذلك الوقت شاع النقط والشكل بطريقة المحدثين.
هذا ما يتعلق بمشكلة الكتابة والرقش، وأما ما يتصل بوسائل الكتابة فقد كانوا يحصلون عليها من مصدرين: خارجي، وداخلي.
فالخارجي منها هو ما استوردوه من الصين كالورق، والمهارق من بلاد فارس، وهو قماش من الحرير كان يطلى أو يسقى بالصمغ ثم يصقل، والقرطاس وهو ورق البردي الذي كان يؤتى به من صعيد مصر.
وأما الداخلي فهو الأديم، وهو الجلد الأحمر المدبوغ، وكذلك عُسُب النخل، وعظام الكتف العريضة، والأضلاع، واللخاف، وهي حجارة بيضاء رقيقة.
وقد ظلت هذه الوسائل تستخدم إلى نهاية القرن الثاني؛ إذ انتشر الورق بعدئذ، وبانتشار الورق نمت حركة التدوين.
على أن القرن الأول الهجري، وبداية القرن الثاني شهدا تدويناً دعت الحاجة إليه، ففي العصر الإسلامي دعت الحاجة إلى تدوين القرآن الكريم؛ إذ دوّن في أول الأمر على نحو متفرق من قبل كتّاب الوحي، وكان منهم : علي- كرّم الله وجهه- ومعاوية.
وبعد وفاة الرسولr وارتداد بعضهم في عهد أبي بكر أصبحت الحاجة إلى التدوين ماسة، ولاسيما بعد استشهاد عدد كبير من الصحابة من حفظة الكتاب الكريم، ففي غزوة اليمامة وحدها استشهد سبعمئة منهم، فتنبه عمر بن الخطاب إلى خطر ذلك فأشار على أبي بكر بضرورة تدوين القرآن، غير أن أبا بكر تردد في فعل أمر لم يفعله النبيr، لكن عمر أقنعه؛ فكلف أبو بكر زيدَ بن ثابت جمعه، وحين فرغ من جمعه في مصحف واحد قدمه إلى أبي بكر، فظل عنده إلى وفاته، ثم انتقل إلى عمر، فبقي لديه عشر سنين، واحتفظت به ابنته حفصة بعد وفاة أبيها.
وفي عهد عثمان بن عفان، أدرك حذيفة بن اليمان الخطر من الاختلاف في القراءات القرآنية فنبه عثمان إلى ذلك، فأرسل إلى حفصة يطلب منها المصحف لكي ينسخه، ثم دعا زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأمرهم أن ينسخوه، وأن يستعينوا في ضبط القراءة بما حفظه القراء، وعلى أيديهم تمت عملية تدوين المصحف في صورته النهائية، ومنذ ذلك الوقت صارت هذه هي النسخة الأم، وقد أمر عثمان بكتابة ست نسخ منها احتفظ لنفسه بواحدة منها، وجعل لأهل المدينة واحدة، ووزع الأربع الباقية على مكة والبصرة والكوفة والشام.
ولم يقتصر الأمر في صدر الإسلام الأول على تدوين القرآن الكريم؛ بل دونت بعض المعاهدات والرسائل التي بعث بها عليه السلام إلى القبائل، وإلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، ناهيك عن كتب الأمان وكتب تقسيم الغنائم وكتب الإقطاعات.
وعن الحديث الشريف فعلى الرغم من تناقله رواية فقد دوّن في وقت مبكر، فعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك كانوا ممن يدونون الأحاديث التي سمعوها، غير أن اكتمال تدوينه كان فيما بعد، ويتجلى ذلك في مدونات الحديث الكبيرة الجامعة مثل صحيح الإمام البخاري وصحيح مسلم وسواهما.
وتحسن الإشارة أيضاً إلى تدوين تفاسير القرآن وغريبه، وأسباب النزول، ومن أوائل ما دوّن في هذا الباب التفسير المنسوب إلى ابن عباس.
وتفسير القرآن الكريم استتبع لوناً آخر من التأليف، وهو كتابة المغازي والسير، وأهم من صنّف في ذلك عروة ابن الزبير، ووهب بن منبه، وابن شهاب الزهري.
واستمر التدوين بعد انتهاء عهد الراشدين، ففي خلافة معاوية بن أبي سفيان دوّنت كتب كثيرة، منها كتب الصحابي عبد الله بن عباس (ت 68هـ)، ولمّا كان معاوية مولعاً بمعرفة أخبار الملوك وسيرهم وسياساتهم فقد كانت لديه دفاتر فيها سير الملوك وأخبارها، وأخبار الحروب والمكايد، وقد ألّفت في عهده كتب في الأمثال لكلٍّ من عبيد ابن شرية، وصحار بن عياش العبدي.
وفي أوائل النصف الثاني من القرن الأول الهجري، أقام عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي نادياً في بيته جعل فيه دفاتر فيها من كل علم، فمن جاء جرّ دفتراً فقرأه، وهذا يدل على تزايد المؤلفات والمدونات في ذلك العهد.
وقد استمرت حركة التدوين في العهد الأموي الثاني، ونشط المؤلفون والمصنفون. فبرع خالد بن يزيد بن معاوية الذي اشتغل بالعلم والتأليف، وبترجمة الكتب إلى العربية، فكان أول ما ترجمه كتب النجوم والطب والكيمياء، وبرع ابن شهاب الزهري في مجال التدوين، فملأ الدنيا بمصنفاته وتآليفه، حتى قيل: إنه كان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله، فاشتغل بها عن كل شيء حتى عن أهل بيته، وكانت زوجه تقول له: «والله لهذه الكتب أشدّ عليّ من ثلاث ضرائر».
وقام الوليد بن يزيد بسبب ولعه بالشعر بجمع ديوان العرب وأخبارها وأنسابها، فاستعار من حماد الراوية ومن جُناد بن واصل الكوفي ما عندهما من الكتب والدواوين فدونها عنده، ثم أعادها إليهما، ولم تضم خزانته ما استنسخه من كتب حماد وجُناد فحسب؛ بل كانت تضم مصنفات ابن شهاب الزهري وغيرها من الكتب.
وفي العهد العباسي الأول، كان أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ) ممن أكثر من التدوين- مع أنه كان حريصاً على الحفظ- وقد ملأت كتبه بيتاً له إلى قريب من السقف.
وما سلف يشير إلى أن التدوين بدأ في حياة العرب منذ وقت مبكر، ثم أخذ ينمو ويتطور إلى أن اكتمل تدوين المعارف العربية في النصف الأول من القرن الثالث الهجري.
وبعد أن تمّ جمع اللغة العربية واستقرارها فيما دوّن من مؤلفات غلبت على العلماء النزعة إلى التصنيف والتنظيم، فأخذ كل عالم يجمع مادته من هذا التدوين الهائل في الموضوع الذي يودّ التصنيف فيه.
ومما له صلة بالتدوين أن جامعي الشعر لم يكتفوا بجمعه؛ بل كانوا يأتون بشرح مجمل لكل قصيدة في نهايتها، حتى جاء الأخفش الأكبر فاتبع طريقة جديدة في شرح الشعر، فقام بشرح كل بيت على حدة شرحاً لغوياً ونحوياً، وهذا المنهج أفاد منه مؤلفو المعاجم فيما بعد، وكانت هذه المادة الهائلة التي جمعها علماء اللغة في كتبهم بداية للتأليف المعجمي، وكان كتاب «العين» للخليل بن أحمد أول معجم جمع فيه مفردات العربية، رتّبه على مخارج الحروف، وقد سار على منهجه في ترتيب الحروف حسب مخارجها القالي في «البارع»، والأزهري في «التهذيب»، والصاحب بن عباد في معجم «المحيط»، وابن سيده في «المحكم».
ثم جاء بعد ذلك مجموعة من المعاجم تراعي الترتيب الألفبائي، كـ«الجمهرة» لابن دريد، و«مقاييس اللغة» و«المجمل» لابن فارس.
ثم ظهرت المعاجم التي رتبت الحروف على وفق أواخر الكلمات، كـ«الصحاح» للجوهري، و«لسان العرب» لابن منظور، و«القاموس المحيط» للفيروزآبادي.
وكان هناك معاجم المعاني التي ألفت حول موضوع بعينه، مستقصية الألفاظ التي تتصل بهذا الموضوع، مثل الكتب التي صنفت في خلق الإنسان والمطر، ويأتي في مقدمة معاجم المعاني «المخصص» لابن سيده.
سكينة موعد