السبكي (تاج الدين ـ)
(727 ـ 771 هـ/ 1327 ـ 1370م)
عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، نسبة إلى سُبُك، وهي قرية من أعمال محافظة المنوفية بمصر.قاضي القضاة، مؤرخ،باحث، ولد بالقاهرة في بيت عريق في العلم والتقوى، والرياسة والنباهة، والشرف والشهرة، فأبوه قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (683ـ756هـ) الفقيه الشافعي، المحدث المفسر، الأصولي المناظر، النحوي اللغوي، تفقه على والده عبد الكافي، ورحل إلى القاهرة، وحصّل العلوم المختلفة، وصار بارعاً فيها، ورحل إلى الإسكندرية والحجاز والشام في طلب الحديث، وتولى التدريس بالقاهرة وغيرها، ثم ولي القضاء بالشام سنة 739هـ، وأضيف إليه الخطابة بالجامع الأموي والتدريس بدار الحديث، ثم مرض فنزل عن منصب القضاء لولده تاج الدين، وتوجه إلى القاهرة فأقام فيها عشرين يوماً ثم مات، وله مصنفات عدة منها: «السيف المسلول على من سبَّ الرسول» و«الابتهاج في شرح المنهاج للنووي» في الفقه، و«الإبهاج في شرح المنهاج للبيضاوي» في أصول الفقه، وكان قاضياً عادلاً، صارماً، واعتنى بولده كثيراً.
نشأ تاج الدين السبكي بالقاهرة، ووجهه أبوه توجيهاً علمياً صادقاً، فحفظ القرآن في صغره، ونشأ على الجد والدرس، وتلقى العلم عن أبيه، وتبحر في أصول الدين، وأصول العربية، والتشريع، وأخذ عن علماء مصر كأبي حيان النحوي الكبير، والمقدسي.
ولما عين أبوه بالشام قاضياً للقضاة رحل معه، واستقر بدمشق، واتخذها وطناً، وأخذ عن شيوخها ومحدثيها كالحافظ الذهبي، والحافظ المِزي، وابن أبي اليسر تمام، وزينب بنت الكمال، وتقي الدين بن رافع، وتفقه في المذهب الشافعي على ابن النقيب محمـد بن أبي بكر (ت745هـ) حتى صار فقيهاً شافعياً، وأصولياً، ومؤرخاً، وعالماً بالعقيدة، وماهراً في الحديث والأدب، وشارك في العربية والنظم والنثر.
بلغ تاج الدين السبكي منزلة علمية رفيعة، ومكانة عالية، حتى وصل إلى درجة الاجتهاد في الفقه، وأعلن ذلك، ولم يرد عليه أحد في ذلك، وصار من أركان المذهب الشافعي الذابيّن عنه، والمؤيدين له، لكنه كان يمقت التعصب المذهبي، ويدعو للوفاق والاجتماع، وجواز الأخذ من بقية المذاهب للمصلحة والحاجة.
تولى المناصب العلمية الرفيعة في سن صغيرة، منها منصب توقيع الدَسْت عن نائب دمشق أمير علي المارديني، وهي وظيفة جليلة في دار العدل بجوار كاتب السر للأمير.
ثم تولى نيابة الحكم عن أبيه الذي عين قاضياً للقضاة بمصر لمدة ثم عاد، فجمع تاج الدين بين الوظيفتين، ثم ولي التدريس في مدارس دمشق، واشتغل بالإفتاء، واعتلى خطابة الجامع الأموي، ثم تولى القضاء سنة 756هـ بعد والده، وانتهت إليه رياسة القضاء والمناصب المتعددة بالشام، وكان صارماً في قضائه لا يلين في الحق، ولا يرهبه حاكم أو سلطان، وجرت عليه أثناء توليه القضاء محن شديدة بسبب الحسد ومخالفة الرأي، وعزل عن القضاء، وسجن في قلعة دمشق ثمانين يوماً، فصبر، وخرج من السجن بريئاً، سليماً، لم تنل منه، ولم تغض من شأنه، وأعيد إلى عمله مكرماً معززاً، وعفا عن خصومه وحساده، وكان يخالف آراء الشيخ تقي الدين بن تيمية وأتباعه، فكادوا له حتى حكم عليه قاضيهم بالسجن.
ترك السبكي آثاراً علمية نافعة وكثيرة، اشتهرت في حياته وبعد مماته منها:
«جمع الجوامع في أصول الفقه» الذي انتقاه من مائة كتاب في الأصول، وفرغ منه سنة 760هـ، وهو عمدة عند الأصوليين، وعليه شرح المحلي، وحاشيتا العطار والبناني، وكلها مطبوعة، تكملة شرح «منهاج الوصول للبيضاوي» أكمل ما بدأه والده لهذا المختصر العجيب المعتمد المشهور في أصول الفقه، وطبع بمصر بعنوان «ترشيح الترشيح في أصول الفقه». شرح مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، وسماه «رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب»، «معيد النعم ومُبيد النقم»، وفيه بيان نعم الله على الإنسان وأسباب بقائها، ودواعي النقم والابتلاء، وفيه تحليل اجتماعي، وبيان لطبقات المجتمع، واهتم به المستشرقون وطبعوه، ثم طبع بمصر، «أوضح المسالك في المناسك»، أي مناسك الحج والعمرة وأعمالهما، التوشيح على « التنبيه للشيرازي» وهو من أهم مختصرات المذهب الشافعي، «الأشباه والنظائر» في القواعد الفقهية، على المذهب الشافعي، وطبع حديثاً، «طبقات الشافعية الكبرى» التي فرغ منها سنة 766هـ، وطبعت في ست مجلدات، ثم في عشر مجلدات محققة، وعرض فيها تراجم علماء الشافعية ابتداء من الشافعي وتلاميذه، ثم طبقـات الشافعية في كل قرن، حتى منتصف القـرن الثامن الهجـري قبيل وفـاة المصنف، وتدل على علم غزير، وأدب رفيع، وجهد كبير، ثم اختصرها في الطبقات الوسطى، ثم في الطبقات الصغرى، ليسهل تناولها، ولتتناسب مع مختلف المستويات.
وله مصنفات أخرى في علم الألغاز، والفتاوى، وكلها تدل على غزارة علمه، وسعة اطلاعه، ورسوخه في العلوم، وكانت حياته القصيرة (44سنة) حافلة بالإنتاج العلمي.
بقي التاج السبكي في منصب قاضي القضاة بالشام وعدة وظائف حتى أصيب بالطاعون في منزله بالدهشة بظاهر دمشق بالمزة، فمات ودفن في مقبرة السبكية، بسفح قاسيون، وهو الجبل المشرف على مدينة دمشق، وفيه مقبرة أهل الصلاح.
محمد الزحيلي
(727 ـ 771 هـ/ 1327 ـ 1370م)
عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، نسبة إلى سُبُك، وهي قرية من أعمال محافظة المنوفية بمصر.قاضي القضاة، مؤرخ،باحث، ولد بالقاهرة في بيت عريق في العلم والتقوى، والرياسة والنباهة، والشرف والشهرة، فأبوه قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (683ـ756هـ) الفقيه الشافعي، المحدث المفسر، الأصولي المناظر، النحوي اللغوي، تفقه على والده عبد الكافي، ورحل إلى القاهرة، وحصّل العلوم المختلفة، وصار بارعاً فيها، ورحل إلى الإسكندرية والحجاز والشام في طلب الحديث، وتولى التدريس بالقاهرة وغيرها، ثم ولي القضاء بالشام سنة 739هـ، وأضيف إليه الخطابة بالجامع الأموي والتدريس بدار الحديث، ثم مرض فنزل عن منصب القضاء لولده تاج الدين، وتوجه إلى القاهرة فأقام فيها عشرين يوماً ثم مات، وله مصنفات عدة منها: «السيف المسلول على من سبَّ الرسول» و«الابتهاج في شرح المنهاج للنووي» في الفقه، و«الإبهاج في شرح المنهاج للبيضاوي» في أصول الفقه، وكان قاضياً عادلاً، صارماً، واعتنى بولده كثيراً.
نشأ تاج الدين السبكي بالقاهرة، ووجهه أبوه توجيهاً علمياً صادقاً، فحفظ القرآن في صغره، ونشأ على الجد والدرس، وتلقى العلم عن أبيه، وتبحر في أصول الدين، وأصول العربية، والتشريع، وأخذ عن علماء مصر كأبي حيان النحوي الكبير، والمقدسي.
ولما عين أبوه بالشام قاضياً للقضاة رحل معه، واستقر بدمشق، واتخذها وطناً، وأخذ عن شيوخها ومحدثيها كالحافظ الذهبي، والحافظ المِزي، وابن أبي اليسر تمام، وزينب بنت الكمال، وتقي الدين بن رافع، وتفقه في المذهب الشافعي على ابن النقيب محمـد بن أبي بكر (ت745هـ) حتى صار فقيهاً شافعياً، وأصولياً، ومؤرخاً، وعالماً بالعقيدة، وماهراً في الحديث والأدب، وشارك في العربية والنظم والنثر.
بلغ تاج الدين السبكي منزلة علمية رفيعة، ومكانة عالية، حتى وصل إلى درجة الاجتهاد في الفقه، وأعلن ذلك، ولم يرد عليه أحد في ذلك، وصار من أركان المذهب الشافعي الذابيّن عنه، والمؤيدين له، لكنه كان يمقت التعصب المذهبي، ويدعو للوفاق والاجتماع، وجواز الأخذ من بقية المذاهب للمصلحة والحاجة.
تولى المناصب العلمية الرفيعة في سن صغيرة، منها منصب توقيع الدَسْت عن نائب دمشق أمير علي المارديني، وهي وظيفة جليلة في دار العدل بجوار كاتب السر للأمير.
ثم تولى نيابة الحكم عن أبيه الذي عين قاضياً للقضاة بمصر لمدة ثم عاد، فجمع تاج الدين بين الوظيفتين، ثم ولي التدريس في مدارس دمشق، واشتغل بالإفتاء، واعتلى خطابة الجامع الأموي، ثم تولى القضاء سنة 756هـ بعد والده، وانتهت إليه رياسة القضاء والمناصب المتعددة بالشام، وكان صارماً في قضائه لا يلين في الحق، ولا يرهبه حاكم أو سلطان، وجرت عليه أثناء توليه القضاء محن شديدة بسبب الحسد ومخالفة الرأي، وعزل عن القضاء، وسجن في قلعة دمشق ثمانين يوماً، فصبر، وخرج من السجن بريئاً، سليماً، لم تنل منه، ولم تغض من شأنه، وأعيد إلى عمله مكرماً معززاً، وعفا عن خصومه وحساده، وكان يخالف آراء الشيخ تقي الدين بن تيمية وأتباعه، فكادوا له حتى حكم عليه قاضيهم بالسجن.
ترك السبكي آثاراً علمية نافعة وكثيرة، اشتهرت في حياته وبعد مماته منها:
«جمع الجوامع في أصول الفقه» الذي انتقاه من مائة كتاب في الأصول، وفرغ منه سنة 760هـ، وهو عمدة عند الأصوليين، وعليه شرح المحلي، وحاشيتا العطار والبناني، وكلها مطبوعة، تكملة شرح «منهاج الوصول للبيضاوي» أكمل ما بدأه والده لهذا المختصر العجيب المعتمد المشهور في أصول الفقه، وطبع بمصر بعنوان «ترشيح الترشيح في أصول الفقه». شرح مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، وسماه «رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب»، «معيد النعم ومُبيد النقم»، وفيه بيان نعم الله على الإنسان وأسباب بقائها، ودواعي النقم والابتلاء، وفيه تحليل اجتماعي، وبيان لطبقات المجتمع، واهتم به المستشرقون وطبعوه، ثم طبع بمصر، «أوضح المسالك في المناسك»، أي مناسك الحج والعمرة وأعمالهما، التوشيح على « التنبيه للشيرازي» وهو من أهم مختصرات المذهب الشافعي، «الأشباه والنظائر» في القواعد الفقهية، على المذهب الشافعي، وطبع حديثاً، «طبقات الشافعية الكبرى» التي فرغ منها سنة 766هـ، وطبعت في ست مجلدات، ثم في عشر مجلدات محققة، وعرض فيها تراجم علماء الشافعية ابتداء من الشافعي وتلاميذه، ثم طبقـات الشافعية في كل قرن، حتى منتصف القـرن الثامن الهجـري قبيل وفـاة المصنف، وتدل على علم غزير، وأدب رفيع، وجهد كبير، ثم اختصرها في الطبقات الوسطى، ثم في الطبقات الصغرى، ليسهل تناولها، ولتتناسب مع مختلف المستويات.
وله مصنفات أخرى في علم الألغاز، والفتاوى، وكلها تدل على غزارة علمه، وسعة اطلاعه، ورسوخه في العلوم، وكانت حياته القصيرة (44سنة) حافلة بالإنتاج العلمي.
بقي التاج السبكي في منصب قاضي القضاة بالشام وعدة وظائف حتى أصيب بالطاعون في منزله بالدهشة بظاهر دمشق بالمزة، فمات ودفن في مقبرة السبكية، بسفح قاسيون، وهو الجبل المشرف على مدينة دمشق، وفيه مقبرة أهل الصلاح.
محمد الزحيلي