مونيه .. عمودُ الضوء الإنطباعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
فصلٌ من كتابي ( سيرةُ الجَمال ) ــ دمشق
هادي ياسين
2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
ربما كان عددٌ من الفنانين الانطباعيين مأخوذًا بحكمة مُعاصرهم الشاعر ستيفان مالارميه (1842 ـ 1898) بخصوص ( المصادفة ) في العمل الفني – استنادًا إلى قوله: ( رمية النرد لن تلقى المصادفة أبداً ) – خصوصًا و أن الشاعر قد أثبت في ذلك الوقت تصميمَه على هَدْم كاتدرائيات الشعر التي أُسِّسَتْ وبُنِيَتْ عبر قرون التاريخ الماضي للشعر؛ وهو ما يتوافق تمامًا مع ما ذهب إليه الرسامون الانطباعيون بشأن الرسم.
في هذا الشأن ، كان كلود مونيه (1840-1926) ، إلى جانب بول سيزان (1839-1906) ، أكثر الفنانين الانطباعيين ابتعادًا عن الانصياع إلى أمر ( المصادفة ) . و هو ، على الرغم من تمرده على جحفل كبير من أسلافه الرسامين ، حتى الذين تتلمذ على فنِّهم مثل : كورو ، دولاكروا ، كوربيه .. و غيرهم ، إلا أنه كان نبيلاً مع نفسه في التعامل مع حقائق الرسم ، بعيداً عن الانفعالات أو الانقياد وراء (المقولات) أو الإنصات إلى صدى الصَّرْعات . كان مونيه عنيدًا في الإخلاص لتجربة جديدة في تاريخ الرسم ، هو عارف أنه غير قادر على تحقيق مُنجَزِها وحده ، ولكنه – بالقَدْر ذاته – يُدرك أنه من الخطأ الانقياد وراء ( الجماعة ) بحجة ( التضامن الفني ).
كان مونيه يُدرك أنه ينضوي تحت لواء جماعة مغايرة ، مؤسِّسة لفنٍّ جديد . ولكنه كان حساساً تجاه ملاحظـَةِ دورِِه في مُنجَزِها ، لا بهدف الهيمنة ، بل بهدف أن يكون له ( لونٌ ) خاصٌ به في لوحة هذه الجماعة ، ضمن التأسيس الجماعي . على خلفية ذلك ، عُرِفَ عن مونيه عنادُه و صعوبةُ مراسه ، و حتى عدم رغبته في الانضواء تحت ظلِّ ما هو ( رسمي ) في الحياة الفنية في باريس . بل إنه ابتعد – أصلا ً – عن كل المناخ الفنـي في العاصمة الفرنسية ، حتى ليبدو أنه قد قرَّر ، في دخيلة نفسه ، الابتعادَ عن ( مختبَ ر) الفنِّ الجديد الذي أسهم هو في تأسيسه ، من أجل أن يراقب نتائجه عن بُعد . بهذا فأن مونيه بدا كما لو عفَّ حتى عن الاعتراف بمُنجزَه الذي أسهم ، مع منجزات زملائ ه، في إبهار باريس ، و بالتالي عواصمَ أوروبا كلِّها . كان يريد ما هو أبعد من ذلك : يبحث عن بصمته الخاصة في الفن ، و يريد أن يضع ( أثره ) بعيدًا عن أيِّ تأثير خارجي عليه .
كان إدوارد مانيه (1932-1883) – رائد الانطباعية الأول و رفيق مونيه – قريبًا من خُطى الشاعر شارل بودلير (1821-1867) في اعتبار ( الأناقة ) مَذهَباً في كلِّ شيء . لكن مونيه ذهب إلى غير هذا : ذهب إلى البحث عن الأناقة ( الداخلية ) للموضوع في الرسم ، و بهذا فقد انحاز إلى تأثير ( الزمن ) على هذه الأناقة ، سواء من جانب الأشخاص أو الأماكن ، التي كانت الموضوع الأثير لديه . و إذا كان الانطباعيون – و أوَّلهم مانيه – قد جعلوا ( المكان ) في الطبيعة مركزَ اهتمامِهم ، فإن مونيه قد أضاف إلى الانطباعية بُعداً آخر ، ربما كان جديداً في الرسم ، هو بُعد ( الزمن ) و تأثيره على ( موضوع ) اللوحة . يتضح ذلك جليًّا في أعماله التي اتخذت من أماكن مختارة مواضيع لها ( كاتدرائية روان ، بحر المانش ، نهر التايمز ، مبنى البرلمان في لندن ، مدينة البندقية ، محطة سان لازار بباريس ، نهر ( السين ) الذي رسمه لمدة ثلاثة عشر عاماً ... ) و هي أعمالٌ أولت اهتمامَها الأولَ لتأثير ( الزمن ) على الموضوع – يومياً ، أو في مختلف ساعات النهار – فيما يتعلق باختلاف درجات الحرارة ، و الضوء ، و الغيوم ، و الضباب ، و الأمطار ، و الصحو ، و الأعاصير ... فـمونيه كان من أكثر رسامي الانطباعية انفعالاً تجاه الطبيعة ، أو أكثرهم معاناةً في التعبير عن تحولاتها – و هو الأمر الذي يفسِّر انشغاله في رسم أماكن محددة مراتٍ كثيرة ً ، عبر أوقات زمنية مختلفة ، في الفجر أو الصباح أو الظهيرة أو المساء ، أو عبر فصولٍ مختلفة ، بما تحمله من متغيرات مناخية . و عليه ، فقد كان مونيه ( غير المتأثِّر باللوفر ) من أشد الفنانين تحريضاً لجماعته على الاندماج مباشرة ً مع الطبيعة ، و الخروج علناً على تقاليد فنِّ الرسم المترسِّخة عبر قرون ، و إحداث نوع ٍ من تأجيل العلاقة مع الأستوديو ، إن لم يكن نوعاً من القطيعة . ولكن هذا الأمر قد حدث لدى مونيه بفعل تأثير صديقه الفنان أوجين بودان (1824-1898) . لقد كان ذلكأمراً مهمـّـاً ، لم يدرك أحدٌ تأثيرَه أولَ الأمر ، إلى أن باتت واضحة ً – فيما بعد – نتائجُ هذا ( الخروج ) و الأثر غير العادي الذي يُحدِثه ضوءُ الطبيعة على الموضوع ، و الذي صار الفنانُ الانطباعيث – في ذلك الوقت – في مواجهته ، و هو يشعر بالغثيان من ( التخمة ) التي أحدثتْها في مخيِّلته أعمالُ الفنانين الكلاسيكيين في المتاحف .
مونيه ما كان مأخوذاً أبداً ، بمقتنيات متحف اللوفر ، بل كان مَعنياً بما يُفيده في تنقيح رؤيته للطبيعة ، و هو ما يُفسِّر لنا خروجَه على التقاليد التي اتَّبعها زملاؤه في تقليد تلك المقتنيات ، و خروجه إلى حديقة اللوفر ذاته و رَسْمها . ولكن علينا ألا ننسى أن الفنان العظيم مانيه هو أول من رَفَسَ الباب ، لينفتح على ( الانطباعية ) الحق ، غير أن أولَ من أقْدَمَ على الولوج عبر ذلك الباب ، في ثبات ، هو مونيه بكلِّ ألوانه و ( أضوائه ) .
لقد نظَّم مونيه أعمالَهُ وَفق جدوَلَيْن أساسيّين يتعلقان بالمكان و الزمن ، من خلال سلسلة لوحات منظمة و مدروسة لأماكن محددة ، حتى إنه راح ـ في بعض الأحيان ـ يرسمُها عن ظهر قلب ( كما هي الحال مع بعض لوحاته عن مدينة البندقية ) . و فيما يتعلق بهذا الأمر فإن كشوف مونيه و محاولاته طالت ( منطقة ) غريبة ، يتداخل فيها الزمن و المكان معاً ، سواء في الواقع أو على سطح اللوحة ، و هو ما يحمل في طياته دلالاتٍ رمزية ً لم تكن معروفة ً بعدُ في فنِّ الرسم ، و حتى قبل الاتجاه الرمزي الذي ظهر لاحقاً و الذي كان بول غوغان ( 1848-1903 ) أحدَ أهم أعمدته . لقد انتقل مونيه في أعماله من المكان الثابت إلى ( شبه المكان ) المتغير بين لحظة و أخرى . فبعيداً عن الغابات أو المدن أو البنايات ، التقط مونيه صفحة الماء ، غير الثابتة ، و تأثيرات الضوء و متغيراته عليه ا، تبعاً للحركة الباطنية التي تحدث فيه ، بفعل الأشياء أو الرياح أو الأمواج أو الجريان ، و من بعدُ انتقل في رسومه ( خاصة ً عندما رسم محطة سان لازار ) إلى التقاط ثيمة ( الدخان ) الذي تنفثه مكائن القطارات ، و شكله الذي يمور بحركات داخلية و خارجية ، و سطوحه المنحنية ، و انعكاسات الضوء عليه ، و بالتالي الأشكال التي تنتج عن حركته . هاتان اللقطتان ( الماء و الدخان) لا تمثِّلان المكانَ تحديداً ، و لا الزمن تحديداً : إنهما شيءٌ من هذا و شيء من ذاك ، أو إنهما كلاهما معاً .. متداخلان بفعل ٍ عبقري .
مونيه ، عندما رسم سلسلة لوحاته عن الأماكن ، إذ وثَّقَ جمالياتها عبر أوقات مختلفة ، لم ينقل فقط المتغيرات الفيزيائية التي تحدث عليها ، نتيجة تغيُّر زاوية النظر أو تأثيرات المناخ أو الضوء ، بل نقلَ ( الإحساسَ ) المتغير لدى الفنان في كلِّ مرة إزاء موضوعه ( الأمر الذي يقرّبه من سيزان ) . لذلك نجد أن بعض الأماكن المعروفة ، واضحة المعالم ، التي رَسَمَها ضمن هذه السلسلة ( مثل كاتدرائية روان ، أو مبنى البرلمان في لندن ) ، إنما تلاشت ملامحُها في اللوحات المتعاقبة ، لوحةً بعد أخرى ، حتى لم تعد هذه الملامح ـ في النهاية ـ سوى أشكال ضبابية أو بقايا معالم أو شبه ذكرىً بعيدة . و هو ما دَرَجَ عليه بوضوح عندما راح يرسم الزنابقَ المائية و أشجار الصفصاف و النرجس و النباتات الأخرى المحيطة ببُركة حديقته ، بطريقةٍ انتقالية على المنوال ذاته ، حتى لم تعد تلك النباتات غير نقاط متشابكة الألوان و متداخلة الأشكال من خلال خطوط لونية .
هذه الخلاصات التي توصل إليها مونيه في أعماله كانت موضعَ استغرابِ مجايليه الرسامين و هجوم ِنقاد الفنِّ في ذلك الوقت . لكن مونيه كان سعيداً بنتائجه . ولعل هذه النتائج هي الأرضية التي أسَّس عليها الفنانون التجريديون ، فيما بعد ، فنَّهم في القرن العشرين . فتحولاتُ الأشكال ، هذه ، هي التي قادت بيت موندريان ( 1872-1944 ) إلى التجريد الهندسي ، و قادت فاسيلي كاندينسكي ( 1866-1944 ) إلى التجريد الروحي ، و كلاهما عمودا ( التجريدية ) البارزان في القرن العشرين .
إن تكريس مونيه جهوده في إشباع موضوعاته ، إلى حدِّ المرحلة التي يجد فيها كفايته ، قد ولَّد لدى متابعي أعماله إحساساً بأن أياً من هذه الأعمال سيكون ناقصاً من دون مشاهدة الأعمال السابقة عليه أو اللاحقة . و هو أمر شكَّل معضلة حقيقية لدى مونيه في إقناع الآخرين بحقيقة ( معنى) فنّه ، على الرغم من اعترافهم بحقيقة موهبته و أهمية مكانته . و أعتقد أن مونيه كان مأخوذاً بأنه سيعيش زمناً كافياً (ستة و ثمانين عاماً ) حتى يُفرِغ آخر شحناته في أعمال كافية ، لتدل على ( المنعطف ) الذي كان مسكوناً بهاجس الإشارة إليه طـَوال حياته الفنية . كان مونيه يردِّد ، دائمًا ، عبارة أثيرة لديه : ( نحن نرسم كما يغني الطير . الرسوم لا تصنعها الشرائع ) . هذه العبارة - على بساطتها - كانت تدل على أمرين ملازمين لـمونيه نفسه : الأول ، هو أن فنَّ الرسم لديه أمرٌ غريزي ، يسكن كيانه و يحرِّك حياته و يُعَنْوِنُ وجودَه في العالم . و الثاني ، هو الخروج على القواعد و الثوابت و التعاليم في فنِّ الرسم، بمعنى : امتلاك الحرية في اختيار الكيفية التي ينجز بها الفنان أعماله . ولكن ، في كلا الحالين ، لا يعني ذلك أن حياة مونيه و وجوده الفني تقودهما غريزةٌ عمياء . فغريزته الفنية حقيقة ٌ قائمة ٌ في وجوده الشخصي ككيانٍ إنساني متفرِّد في مساحة الوجود الكلِّي للعالم ، و خروجه على القواعد هو ضربٌ من الحرية التي تدعم وجودَه كفنان . و هذانِ أمرانِ يعيهما مونيه تماماً ، و يُدرك أبعادهما ، و هُما بقَدْر ما يشحنان طاقته الإبداعية بكلِّ ما من شأنه أن يأتي بالجديد و المغاير، فأنهما يخضعان أيضاً لسيطرته الواعية . فـمونيه لم يكن مأخوذاً باللوفر الذي كان قِبلَةَ جيله . كان يكتفي منه بما تولِّده لديه مقتنياتُه من دفء ، و هو يرى المنجَز البشريَ في الفنِّ عبر التاريخ . ولكن ه، بواسطة هذا الدفء ، ما كان يبحث عمَّا يحافظ على ذاكرت ه، بل عمَّا يخلق ذاكرة ً جديدة ً لدى الأجيال القادمة ، دون أن يقدم مقترحاً بترشيح نفسه لهذه الذاكرة ( كان يرسم " كما يغني الطير" فقط ) . لقد كان يراقب صدى الماضي في آفاق المستقبل ، الذي أسهم هو ، فعلاً ، في صنع فنِّه .
علينا ألا ننسى أن مونيه هو أول من غيَّر منظور المشاهد ( وليس منظور الرسام ، كما فعل سيزان ) تجاه اللوحة . فالمنحنيات في الإطار هي من مبتكراته ، و سِعة مساحة اللوحة ، بمقياس عشرين قدماً عرضاً ، و عشرة أقدام ارتفاعاً ( كما هو شأن لوحاته التي عَرَضَها في متحف الـOrangerie بباريس ) هي من ابتكار مونيه أيصاً ، و هو ما لم يسبقه إليه أحد . و حتى الرسوم التي تركها رسامو الكهوف قبل آلاف السنين على جدران كهوفهم (لاسكو ، مثلاً ) ، أو رسوم جدران الكنائس و سقوفها التي نفَّذها رسامو عصر النهضة في إيطاليا ، من أمثال مايكِل أنجلو و رافائيلو و دافنشي و غيرهم ، إنما كانت رسوماً محكومة بمقاييس الجدران أو السقوف التي رُسِمَتْ عليها ، في حين أن ما فعله مونيه هو أنه أخضع الجدران لرسومه ، و ليس العكس ، كما كان الأمر لدى الأسلاف . و ما ابتكره مونيه ، في هذا الخصوص ، راح رسَّامو نيويورك يحتذون به في أواسط القرن العشرين ، فحصدوا نتائج جيدة ، ربما كانت تتوافق مع طبيعة الصرْعات ، ولكنها – في النتيجة – واحدة ٌمن مبتكرات مونيه ، الفرنسي ، إبن القرن التاسع عشر ، و عمود الضوء الانطباعي .. الشاخص في منعطف الفنِّ المعاصر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
فصلٌ من كتابي ( سيرةُ الجَمال ) ــ دمشق
هادي ياسين
2011
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
ربما كان عددٌ من الفنانين الانطباعيين مأخوذًا بحكمة مُعاصرهم الشاعر ستيفان مالارميه (1842 ـ 1898) بخصوص ( المصادفة ) في العمل الفني – استنادًا إلى قوله: ( رمية النرد لن تلقى المصادفة أبداً ) – خصوصًا و أن الشاعر قد أثبت في ذلك الوقت تصميمَه على هَدْم كاتدرائيات الشعر التي أُسِّسَتْ وبُنِيَتْ عبر قرون التاريخ الماضي للشعر؛ وهو ما يتوافق تمامًا مع ما ذهب إليه الرسامون الانطباعيون بشأن الرسم.
في هذا الشأن ، كان كلود مونيه (1840-1926) ، إلى جانب بول سيزان (1839-1906) ، أكثر الفنانين الانطباعيين ابتعادًا عن الانصياع إلى أمر ( المصادفة ) . و هو ، على الرغم من تمرده على جحفل كبير من أسلافه الرسامين ، حتى الذين تتلمذ على فنِّهم مثل : كورو ، دولاكروا ، كوربيه .. و غيرهم ، إلا أنه كان نبيلاً مع نفسه في التعامل مع حقائق الرسم ، بعيداً عن الانفعالات أو الانقياد وراء (المقولات) أو الإنصات إلى صدى الصَّرْعات . كان مونيه عنيدًا في الإخلاص لتجربة جديدة في تاريخ الرسم ، هو عارف أنه غير قادر على تحقيق مُنجَزِها وحده ، ولكنه – بالقَدْر ذاته – يُدرك أنه من الخطأ الانقياد وراء ( الجماعة ) بحجة ( التضامن الفني ).
كان مونيه يُدرك أنه ينضوي تحت لواء جماعة مغايرة ، مؤسِّسة لفنٍّ جديد . ولكنه كان حساساً تجاه ملاحظـَةِ دورِِه في مُنجَزِها ، لا بهدف الهيمنة ، بل بهدف أن يكون له ( لونٌ ) خاصٌ به في لوحة هذه الجماعة ، ضمن التأسيس الجماعي . على خلفية ذلك ، عُرِفَ عن مونيه عنادُه و صعوبةُ مراسه ، و حتى عدم رغبته في الانضواء تحت ظلِّ ما هو ( رسمي ) في الحياة الفنية في باريس . بل إنه ابتعد – أصلا ً – عن كل المناخ الفنـي في العاصمة الفرنسية ، حتى ليبدو أنه قد قرَّر ، في دخيلة نفسه ، الابتعادَ عن ( مختبَ ر) الفنِّ الجديد الذي أسهم هو في تأسيسه ، من أجل أن يراقب نتائجه عن بُعد . بهذا فأن مونيه بدا كما لو عفَّ حتى عن الاعتراف بمُنجزَه الذي أسهم ، مع منجزات زملائ ه، في إبهار باريس ، و بالتالي عواصمَ أوروبا كلِّها . كان يريد ما هو أبعد من ذلك : يبحث عن بصمته الخاصة في الفن ، و يريد أن يضع ( أثره ) بعيدًا عن أيِّ تأثير خارجي عليه .
كان إدوارد مانيه (1932-1883) – رائد الانطباعية الأول و رفيق مونيه – قريبًا من خُطى الشاعر شارل بودلير (1821-1867) في اعتبار ( الأناقة ) مَذهَباً في كلِّ شيء . لكن مونيه ذهب إلى غير هذا : ذهب إلى البحث عن الأناقة ( الداخلية ) للموضوع في الرسم ، و بهذا فقد انحاز إلى تأثير ( الزمن ) على هذه الأناقة ، سواء من جانب الأشخاص أو الأماكن ، التي كانت الموضوع الأثير لديه . و إذا كان الانطباعيون – و أوَّلهم مانيه – قد جعلوا ( المكان ) في الطبيعة مركزَ اهتمامِهم ، فإن مونيه قد أضاف إلى الانطباعية بُعداً آخر ، ربما كان جديداً في الرسم ، هو بُعد ( الزمن ) و تأثيره على ( موضوع ) اللوحة . يتضح ذلك جليًّا في أعماله التي اتخذت من أماكن مختارة مواضيع لها ( كاتدرائية روان ، بحر المانش ، نهر التايمز ، مبنى البرلمان في لندن ، مدينة البندقية ، محطة سان لازار بباريس ، نهر ( السين ) الذي رسمه لمدة ثلاثة عشر عاماً ... ) و هي أعمالٌ أولت اهتمامَها الأولَ لتأثير ( الزمن ) على الموضوع – يومياً ، أو في مختلف ساعات النهار – فيما يتعلق باختلاف درجات الحرارة ، و الضوء ، و الغيوم ، و الضباب ، و الأمطار ، و الصحو ، و الأعاصير ... فـمونيه كان من أكثر رسامي الانطباعية انفعالاً تجاه الطبيعة ، أو أكثرهم معاناةً في التعبير عن تحولاتها – و هو الأمر الذي يفسِّر انشغاله في رسم أماكن محددة مراتٍ كثيرة ً ، عبر أوقات زمنية مختلفة ، في الفجر أو الصباح أو الظهيرة أو المساء ، أو عبر فصولٍ مختلفة ، بما تحمله من متغيرات مناخية . و عليه ، فقد كان مونيه ( غير المتأثِّر باللوفر ) من أشد الفنانين تحريضاً لجماعته على الاندماج مباشرة ً مع الطبيعة ، و الخروج علناً على تقاليد فنِّ الرسم المترسِّخة عبر قرون ، و إحداث نوع ٍ من تأجيل العلاقة مع الأستوديو ، إن لم يكن نوعاً من القطيعة . ولكن هذا الأمر قد حدث لدى مونيه بفعل تأثير صديقه الفنان أوجين بودان (1824-1898) . لقد كان ذلكأمراً مهمـّـاً ، لم يدرك أحدٌ تأثيرَه أولَ الأمر ، إلى أن باتت واضحة ً – فيما بعد – نتائجُ هذا ( الخروج ) و الأثر غير العادي الذي يُحدِثه ضوءُ الطبيعة على الموضوع ، و الذي صار الفنانُ الانطباعيث – في ذلك الوقت – في مواجهته ، و هو يشعر بالغثيان من ( التخمة ) التي أحدثتْها في مخيِّلته أعمالُ الفنانين الكلاسيكيين في المتاحف .
مونيه ما كان مأخوذاً أبداً ، بمقتنيات متحف اللوفر ، بل كان مَعنياً بما يُفيده في تنقيح رؤيته للطبيعة ، و هو ما يُفسِّر لنا خروجَه على التقاليد التي اتَّبعها زملاؤه في تقليد تلك المقتنيات ، و خروجه إلى حديقة اللوفر ذاته و رَسْمها . ولكن علينا ألا ننسى أن الفنان العظيم مانيه هو أول من رَفَسَ الباب ، لينفتح على ( الانطباعية ) الحق ، غير أن أولَ من أقْدَمَ على الولوج عبر ذلك الباب ، في ثبات ، هو مونيه بكلِّ ألوانه و ( أضوائه ) .
لقد نظَّم مونيه أعمالَهُ وَفق جدوَلَيْن أساسيّين يتعلقان بالمكان و الزمن ، من خلال سلسلة لوحات منظمة و مدروسة لأماكن محددة ، حتى إنه راح ـ في بعض الأحيان ـ يرسمُها عن ظهر قلب ( كما هي الحال مع بعض لوحاته عن مدينة البندقية ) . و فيما يتعلق بهذا الأمر فإن كشوف مونيه و محاولاته طالت ( منطقة ) غريبة ، يتداخل فيها الزمن و المكان معاً ، سواء في الواقع أو على سطح اللوحة ، و هو ما يحمل في طياته دلالاتٍ رمزية ً لم تكن معروفة ً بعدُ في فنِّ الرسم ، و حتى قبل الاتجاه الرمزي الذي ظهر لاحقاً و الذي كان بول غوغان ( 1848-1903 ) أحدَ أهم أعمدته . لقد انتقل مونيه في أعماله من المكان الثابت إلى ( شبه المكان ) المتغير بين لحظة و أخرى . فبعيداً عن الغابات أو المدن أو البنايات ، التقط مونيه صفحة الماء ، غير الثابتة ، و تأثيرات الضوء و متغيراته عليه ا، تبعاً للحركة الباطنية التي تحدث فيه ، بفعل الأشياء أو الرياح أو الأمواج أو الجريان ، و من بعدُ انتقل في رسومه ( خاصة ً عندما رسم محطة سان لازار ) إلى التقاط ثيمة ( الدخان ) الذي تنفثه مكائن القطارات ، و شكله الذي يمور بحركات داخلية و خارجية ، و سطوحه المنحنية ، و انعكاسات الضوء عليه ، و بالتالي الأشكال التي تنتج عن حركته . هاتان اللقطتان ( الماء و الدخان) لا تمثِّلان المكانَ تحديداً ، و لا الزمن تحديداً : إنهما شيءٌ من هذا و شيء من ذاك ، أو إنهما كلاهما معاً .. متداخلان بفعل ٍ عبقري .
مونيه ، عندما رسم سلسلة لوحاته عن الأماكن ، إذ وثَّقَ جمالياتها عبر أوقات مختلفة ، لم ينقل فقط المتغيرات الفيزيائية التي تحدث عليها ، نتيجة تغيُّر زاوية النظر أو تأثيرات المناخ أو الضوء ، بل نقلَ ( الإحساسَ ) المتغير لدى الفنان في كلِّ مرة إزاء موضوعه ( الأمر الذي يقرّبه من سيزان ) . لذلك نجد أن بعض الأماكن المعروفة ، واضحة المعالم ، التي رَسَمَها ضمن هذه السلسلة ( مثل كاتدرائية روان ، أو مبنى البرلمان في لندن ) ، إنما تلاشت ملامحُها في اللوحات المتعاقبة ، لوحةً بعد أخرى ، حتى لم تعد هذه الملامح ـ في النهاية ـ سوى أشكال ضبابية أو بقايا معالم أو شبه ذكرىً بعيدة . و هو ما دَرَجَ عليه بوضوح عندما راح يرسم الزنابقَ المائية و أشجار الصفصاف و النرجس و النباتات الأخرى المحيطة ببُركة حديقته ، بطريقةٍ انتقالية على المنوال ذاته ، حتى لم تعد تلك النباتات غير نقاط متشابكة الألوان و متداخلة الأشكال من خلال خطوط لونية .
هذه الخلاصات التي توصل إليها مونيه في أعماله كانت موضعَ استغرابِ مجايليه الرسامين و هجوم ِنقاد الفنِّ في ذلك الوقت . لكن مونيه كان سعيداً بنتائجه . ولعل هذه النتائج هي الأرضية التي أسَّس عليها الفنانون التجريديون ، فيما بعد ، فنَّهم في القرن العشرين . فتحولاتُ الأشكال ، هذه ، هي التي قادت بيت موندريان ( 1872-1944 ) إلى التجريد الهندسي ، و قادت فاسيلي كاندينسكي ( 1866-1944 ) إلى التجريد الروحي ، و كلاهما عمودا ( التجريدية ) البارزان في القرن العشرين .
إن تكريس مونيه جهوده في إشباع موضوعاته ، إلى حدِّ المرحلة التي يجد فيها كفايته ، قد ولَّد لدى متابعي أعماله إحساساً بأن أياً من هذه الأعمال سيكون ناقصاً من دون مشاهدة الأعمال السابقة عليه أو اللاحقة . و هو أمر شكَّل معضلة حقيقية لدى مونيه في إقناع الآخرين بحقيقة ( معنى) فنّه ، على الرغم من اعترافهم بحقيقة موهبته و أهمية مكانته . و أعتقد أن مونيه كان مأخوذاً بأنه سيعيش زمناً كافياً (ستة و ثمانين عاماً ) حتى يُفرِغ آخر شحناته في أعمال كافية ، لتدل على ( المنعطف ) الذي كان مسكوناً بهاجس الإشارة إليه طـَوال حياته الفنية . كان مونيه يردِّد ، دائمًا ، عبارة أثيرة لديه : ( نحن نرسم كما يغني الطير . الرسوم لا تصنعها الشرائع ) . هذه العبارة - على بساطتها - كانت تدل على أمرين ملازمين لـمونيه نفسه : الأول ، هو أن فنَّ الرسم لديه أمرٌ غريزي ، يسكن كيانه و يحرِّك حياته و يُعَنْوِنُ وجودَه في العالم . و الثاني ، هو الخروج على القواعد و الثوابت و التعاليم في فنِّ الرسم، بمعنى : امتلاك الحرية في اختيار الكيفية التي ينجز بها الفنان أعماله . ولكن ، في كلا الحالين ، لا يعني ذلك أن حياة مونيه و وجوده الفني تقودهما غريزةٌ عمياء . فغريزته الفنية حقيقة ٌ قائمة ٌ في وجوده الشخصي ككيانٍ إنساني متفرِّد في مساحة الوجود الكلِّي للعالم ، و خروجه على القواعد هو ضربٌ من الحرية التي تدعم وجودَه كفنان . و هذانِ أمرانِ يعيهما مونيه تماماً ، و يُدرك أبعادهما ، و هُما بقَدْر ما يشحنان طاقته الإبداعية بكلِّ ما من شأنه أن يأتي بالجديد و المغاير، فأنهما يخضعان أيضاً لسيطرته الواعية . فـمونيه لم يكن مأخوذاً باللوفر الذي كان قِبلَةَ جيله . كان يكتفي منه بما تولِّده لديه مقتنياتُه من دفء ، و هو يرى المنجَز البشريَ في الفنِّ عبر التاريخ . ولكن ه، بواسطة هذا الدفء ، ما كان يبحث عمَّا يحافظ على ذاكرت ه، بل عمَّا يخلق ذاكرة ً جديدة ً لدى الأجيال القادمة ، دون أن يقدم مقترحاً بترشيح نفسه لهذه الذاكرة ( كان يرسم " كما يغني الطير" فقط ) . لقد كان يراقب صدى الماضي في آفاق المستقبل ، الذي أسهم هو ، فعلاً ، في صنع فنِّه .
علينا ألا ننسى أن مونيه هو أول من غيَّر منظور المشاهد ( وليس منظور الرسام ، كما فعل سيزان ) تجاه اللوحة . فالمنحنيات في الإطار هي من مبتكراته ، و سِعة مساحة اللوحة ، بمقياس عشرين قدماً عرضاً ، و عشرة أقدام ارتفاعاً ( كما هو شأن لوحاته التي عَرَضَها في متحف الـOrangerie بباريس ) هي من ابتكار مونيه أيصاً ، و هو ما لم يسبقه إليه أحد . و حتى الرسوم التي تركها رسامو الكهوف قبل آلاف السنين على جدران كهوفهم (لاسكو ، مثلاً ) ، أو رسوم جدران الكنائس و سقوفها التي نفَّذها رسامو عصر النهضة في إيطاليا ، من أمثال مايكِل أنجلو و رافائيلو و دافنشي و غيرهم ، إنما كانت رسوماً محكومة بمقاييس الجدران أو السقوف التي رُسِمَتْ عليها ، في حين أن ما فعله مونيه هو أنه أخضع الجدران لرسومه ، و ليس العكس ، كما كان الأمر لدى الأسلاف . و ما ابتكره مونيه ، في هذا الخصوص ، راح رسَّامو نيويورك يحتذون به في أواسط القرن العشرين ، فحصدوا نتائج جيدة ، ربما كانت تتوافق مع طبيعة الصرْعات ، ولكنها – في النتيجة – واحدة ٌمن مبتكرات مونيه ، الفرنسي ، إبن القرن التاسع عشر ، و عمود الضوء الانطباعي .. الشاخص في منعطف الفنِّ المعاصر .