ذاكرة 2019
**
د. حسان الجودي
يوجد في المدينة شارع طويل جميل، تتناثر الحدائق والبيوت فيه والتماثيل والنوافير والأعشاب والطيور الصداحة.
في البيت الأول ، يسكن مصلّح الدراجات. في جواره يسكن مصلّح البوابير. في جواره يسكن مصلّح الموبايلات. في البيت التالي ، يسكن مصلّح الغسالات. في البيت التالي ، يسكن مصلّح الأحذية. في الفيلا الراقية، يسكن مصلّح الستالايت. في فيلا أخرى ، يقيم مصلّح غشاء العيون. في فيلا أخرى، يقطن مصلّح الساعات. وفِي أجمل البيوت ، يسكن مصلّح الأجهزة الصوتية التي تغرق المدينة بالضجيج منذ الصباح وحتى المساء.
يذهب المصلّحون جميعاً إلى أعمالهم سعداء، ويعودون وقد شبعوا من تحصيل الكنوز.
في شارع قريب قبيح ، يسكن أحد الشعراء.
كان يعشق مدينته ويكتب فيها قصائد خالدة عن الحب والجمال، عن شوارعها المباركة، وأناسها الأطهار. بل كتب ديواناً شعرياً عنها سماه مدينتي الفاضلة. وهكذا ذاع صيته في المدينة، وأقاموا له المهرجانات ، وقلدوه الأوسمة. وتجرأ الشيوخ ، وبه تغزلوا وقالوا إنه ملاك بشوارب لطيفة، يعلق عليها دائماً أيس كريم اللطف الزائد.
لاحظ الشاعر يوماً أن ساعة المدينة الكبيرة لا تعمل، وأن أحذية الناس مثقوبة، وثيابهم قذرة، وبوابيرهم لا تصدر غير الشحّار. ولاحظ أن مكبرات الصوت تصدر النشاز، وأن الموبايلات تصدر نغمة رنين واحدة ، وأن الغشاء البصري لا يُنفذ الضياء، وأن الساعات الصغيرة الشخصية ترجع بالزمن دائماً.
تجرأ الشاعر وكتب قصيدة هجاء لطيف، نشرها في الجريدة المحلية.
وفِي ذات الليلة، طوق منزله المصلّحون الرائعون وهم يحملون البلطات.
خرج إليهم بثقة، ورحب بهم، وأخبرهم أن قصائده الجديدة في كشف العيوب ستدر عليهم المزيد من الإصلاحات .
وجدت الشرطة جثته صباحاً.لقد كان شاعراً ساذجاً ، لم يعرف أن قصائد الهجاء ستعطل عمل جميع المصلحين ، الذين يعيشون بفضل بروباغاندا المثالية والتنظير والضحك على رؤوس العباد الطيبين، الخالين من الأخطاء الإلهية!
نعم هي مدينة مباركة فعلاً ، لا شك بذلك،
ولا يقين....
**
د. حسان الجودي
يوجد في المدينة شارع طويل جميل، تتناثر الحدائق والبيوت فيه والتماثيل والنوافير والأعشاب والطيور الصداحة.
في البيت الأول ، يسكن مصلّح الدراجات. في جواره يسكن مصلّح البوابير. في جواره يسكن مصلّح الموبايلات. في البيت التالي ، يسكن مصلّح الغسالات. في البيت التالي ، يسكن مصلّح الأحذية. في الفيلا الراقية، يسكن مصلّح الستالايت. في فيلا أخرى ، يقيم مصلّح غشاء العيون. في فيلا أخرى، يقطن مصلّح الساعات. وفِي أجمل البيوت ، يسكن مصلّح الأجهزة الصوتية التي تغرق المدينة بالضجيج منذ الصباح وحتى المساء.
يذهب المصلّحون جميعاً إلى أعمالهم سعداء، ويعودون وقد شبعوا من تحصيل الكنوز.
في شارع قريب قبيح ، يسكن أحد الشعراء.
كان يعشق مدينته ويكتب فيها قصائد خالدة عن الحب والجمال، عن شوارعها المباركة، وأناسها الأطهار. بل كتب ديواناً شعرياً عنها سماه مدينتي الفاضلة. وهكذا ذاع صيته في المدينة، وأقاموا له المهرجانات ، وقلدوه الأوسمة. وتجرأ الشيوخ ، وبه تغزلوا وقالوا إنه ملاك بشوارب لطيفة، يعلق عليها دائماً أيس كريم اللطف الزائد.
لاحظ الشاعر يوماً أن ساعة المدينة الكبيرة لا تعمل، وأن أحذية الناس مثقوبة، وثيابهم قذرة، وبوابيرهم لا تصدر غير الشحّار. ولاحظ أن مكبرات الصوت تصدر النشاز، وأن الموبايلات تصدر نغمة رنين واحدة ، وأن الغشاء البصري لا يُنفذ الضياء، وأن الساعات الصغيرة الشخصية ترجع بالزمن دائماً.
تجرأ الشاعر وكتب قصيدة هجاء لطيف، نشرها في الجريدة المحلية.
وفِي ذات الليلة، طوق منزله المصلّحون الرائعون وهم يحملون البلطات.
خرج إليهم بثقة، ورحب بهم، وأخبرهم أن قصائده الجديدة في كشف العيوب ستدر عليهم المزيد من الإصلاحات .
وجدت الشرطة جثته صباحاً.لقد كان شاعراً ساذجاً ، لم يعرف أن قصائد الهجاء ستعطل عمل جميع المصلحين ، الذين يعيشون بفضل بروباغاندا المثالية والتنظير والضحك على رؤوس العباد الطيبين، الخالين من الأخطاء الإلهية!
نعم هي مدينة مباركة فعلاً ، لا شك بذلك،
ولا يقين....