«ذا فابلمانز» .. قصيدة في حب السينما وهجائها
«سينماتوغراف» ـ لمياء رأفت
رحلة كل مخرج عاشق للسينما تستحق التوثيق وتحمل في داخلها سحرًا يصلح لفيلم سينمائي. ولكن من يجرؤ على كشف أسراره على الشاشة؟ بعضهم فعلها بنفسه وصنع علامات في تاريخه السينمائي، أشهرهم المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني في فيلمه “ثمانية ونصف” (1963)، والمخرج المصري يوسف شاهين في رباعيته: “إسكندرية ليه؟” (1979)، “حدوتة مصرية” (1982)، “إسكندرية كمان وكمان” (1990)، “إسكندرية – نيويورك” (2004).
وهذا العام، قدم الأميركي ستيفن سبيلبرغ فيلمه “ذا فابلمانز” (The Fabelmans) الذي يسرد فيه سيرته، صغيراً ثم شابا، وذكرياته الحانية تجاه تلك الفترة التي شغف فيها بالسينما وقرر أنه يريد أن يصبح مخرجا.
عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي سبتمبر 2022، قبل عرضه في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يوم 13 نوفمبر الجاري.
يفتتح فيلم “ذا فابلمانز” بالطفل سامي وهو يختبر أول تجاربه السينمائية، عندما أخذه والداه لمشاهدة الفيلم الشهير “أعظم العروض على وجه الأرض” (The Greatest Show on Earth) ليربط المشاهد منذ البداية بأهم جانبين في حياة البطل الذي يمثل طفولة المخرج سبيلبرغ نفسه: العائلة والسينما.
يتطور شغف الطفل بالسينما سريعًا، تشجعه والدته التي ورث منها شعلة الفن التي تحرق حاملها لو لم يحسن الاعتناء بها، بينما يتذبذب موقف والده، إذ يدعمه شرط أن تظل السينما لابنه هواية، إذ إنها لا تصلح لأن تكون أساسًا لمستقبله. وفي زيارة لخال الأم، يخبره الأخير أن الفن سيجبره يومًا ما على الاختيار بينه وبين عائلته، بل قد يمزّقه إربًا، كنبوءة عرّاف.
تمر الأيام وتتحقق تلك النبوءة، فخلال عمله على مونتاج فيلم وثائقي صوّره خلال رحلة عائلية، يكتشف العاطفة التي تجمع بين أمه وصديق العائلة (بيني)، يحرقه هذا السر ببطء، فلا يستطيع مواجهة والدته، أو التعامل معها بصورة عادية. ويفهم ما قاله الخال البعيد إن السينما كاشفة مخيفة، هي سحر لا يستطيع الفكاك منه، ولكنها قادرة على تدمير سعادته.
بالوتيرة ذاتها تسير الأحداث، مع كل فيلم يصنعه -وهو هاوٍ- يكشف قوة هذا السلاح الفني، الذي يستطيع أن يُظهر شخصًا عديم الموهبة بطلا مغوارا، في حين يمرّغ أنف آخر في الوحل، ويجعله أضحوكة الجميع. يكشف عن أسرار لغة الجسد التي لا تلاحظها العين العادية، وكلما فهم فن السينما، اضطربت حياته أكثر، يحاول الهرب من هذا الأسر ولكن لا يملك الشجاعة حتى للقيام بذلك.
احتفظ سبيلبرغ لعقود بقصة عائلته وتشتتها، بسبب فيلم صنعه لنفسه بشكل عشوائي، ربما في رهان أخير مع نفسه على أنه لن يستخدم السينما مرة أخرى لتعرية أسرار العائلة. لكن غواية القصة السينمائية غلبته وهو في الـ75 من عمره، ليقدم سيرته شبه الذاتية في هذا الفيلم، تاركًا للمشاهد استنتاج مقدار الحقيقة ومقدار الخيال في هذه الحكاية الملتبسة المليئة بالضحكات والبكاء.
بدأت مسيرة سبيلبرغ الإخراجية في سبعينيات القرن الماضي، وسريعًا ما بلغ الشهرة بفيلمه “الفك المفترس” (Jaws) عام 1975، وهو ثالث أفلامه. ومنه انطلقت مسيرته التي امتدت إلى 33 فيلمًا سينمائيًا حتى الآن، تنقل خلالها بين أنواع سينمائية مفضلة لديه، مثل الرعب والخيال العلمي والفانتازيا. ولكن تلك الأنواع حصرته في عيون المشاهدين والنقاد في دور المخرج صاحب الأفلام المسلية والخفيفة، وهي الصورة النمطية التي حاول كسرها بأفلام أخرى، أهمها “قائمة تشاندلر” (Schindler’s List) الذي رُشّح لـ12 جائزة أوسكار، فاز منها بـ7، منها أفضل فيلم وأفضل مخرج.
وفي السنوات الأخيرة، كانت مسيرته تنقسم إلى نصفين: الأول الأفلام الفانتازية مثل “جاهز لاعب واحد” (Ready Player One) عام 2018، والثاني أفلام تقدم نبذات عن تاريخ الولايات المتحدة أو مقتبسة عن قصص حقيقية، مثل “ذا بوست” (The Post) عام 2017.
والعام الماضي، بدأ فصلاً جديداً من مسيرته، وهو تقديم أفلام في حب السينما فقط، كما لو أنه يشعر بدنو نهاية مسيرته السينمائية، وربما أدرك أنه الوقت المناسب لصناعة أفلام تؤصل عشقه المحموم لهذا الفن الذي أمضى فيه كل حياته.
عام 2021، عُرض لسبيلبرغ فيلم “قصة الحي الغربي” (West Side Story)، وهو إعادة إنتاج لفيلم موسيقي شهير يحمل الاسم ذاته. بدا هذا المشروع شخصيًا لسبيلبرغ الذي لم يقدم ملحمة موسيقية من قبل في مسيرته، كما لو أنه يملأ فراغًا في مسيرته أو حلمًا أمل في تقديمه منذ طفولته السينمائية.
فيلم “ذا فابلمانز” يمكن وضعه أيضًا في القائمة ذاتها، كما لو أن مسيرة سبيلبرغ لا يمكن أن تنتهي من دون فيلم ذاتي؛ إنه قصيدة في حب السينما وهجائها في آن واحد، إذ يشرح فيه كم أعطته وكيف أحبها.
فيلم “ذا فابلمانز” من بطولة ميشيل ويليامز وبول دانو، وكليهما يُتوقع ترشّحه لأوسكار أفضل ممثل في دور مساعد عن دوره هذا. وقد حاز العمل إعجاب النقاد بتقييم 95% على موقع “روتن توميتوز” ( Rotten Tomatoes).
«سينماتوغراف» ـ لمياء رأفت
رحلة كل مخرج عاشق للسينما تستحق التوثيق وتحمل في داخلها سحرًا يصلح لفيلم سينمائي. ولكن من يجرؤ على كشف أسراره على الشاشة؟ بعضهم فعلها بنفسه وصنع علامات في تاريخه السينمائي، أشهرهم المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني في فيلمه “ثمانية ونصف” (1963)، والمخرج المصري يوسف شاهين في رباعيته: “إسكندرية ليه؟” (1979)، “حدوتة مصرية” (1982)، “إسكندرية كمان وكمان” (1990)، “إسكندرية – نيويورك” (2004).
وهذا العام، قدم الأميركي ستيفن سبيلبرغ فيلمه “ذا فابلمانز” (The Fabelmans) الذي يسرد فيه سيرته، صغيراً ثم شابا، وذكرياته الحانية تجاه تلك الفترة التي شغف فيها بالسينما وقرر أنه يريد أن يصبح مخرجا.
عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي سبتمبر 2022، قبل عرضه في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يوم 13 نوفمبر الجاري.
يفتتح فيلم “ذا فابلمانز” بالطفل سامي وهو يختبر أول تجاربه السينمائية، عندما أخذه والداه لمشاهدة الفيلم الشهير “أعظم العروض على وجه الأرض” (The Greatest Show on Earth) ليربط المشاهد منذ البداية بأهم جانبين في حياة البطل الذي يمثل طفولة المخرج سبيلبرغ نفسه: العائلة والسينما.
يتطور شغف الطفل بالسينما سريعًا، تشجعه والدته التي ورث منها شعلة الفن التي تحرق حاملها لو لم يحسن الاعتناء بها، بينما يتذبذب موقف والده، إذ يدعمه شرط أن تظل السينما لابنه هواية، إذ إنها لا تصلح لأن تكون أساسًا لمستقبله. وفي زيارة لخال الأم، يخبره الأخير أن الفن سيجبره يومًا ما على الاختيار بينه وبين عائلته، بل قد يمزّقه إربًا، كنبوءة عرّاف.
تمر الأيام وتتحقق تلك النبوءة، فخلال عمله على مونتاج فيلم وثائقي صوّره خلال رحلة عائلية، يكتشف العاطفة التي تجمع بين أمه وصديق العائلة (بيني)، يحرقه هذا السر ببطء، فلا يستطيع مواجهة والدته، أو التعامل معها بصورة عادية. ويفهم ما قاله الخال البعيد إن السينما كاشفة مخيفة، هي سحر لا يستطيع الفكاك منه، ولكنها قادرة على تدمير سعادته.
بالوتيرة ذاتها تسير الأحداث، مع كل فيلم يصنعه -وهو هاوٍ- يكشف قوة هذا السلاح الفني، الذي يستطيع أن يُظهر شخصًا عديم الموهبة بطلا مغوارا، في حين يمرّغ أنف آخر في الوحل، ويجعله أضحوكة الجميع. يكشف عن أسرار لغة الجسد التي لا تلاحظها العين العادية، وكلما فهم فن السينما، اضطربت حياته أكثر، يحاول الهرب من هذا الأسر ولكن لا يملك الشجاعة حتى للقيام بذلك.
احتفظ سبيلبرغ لعقود بقصة عائلته وتشتتها، بسبب فيلم صنعه لنفسه بشكل عشوائي، ربما في رهان أخير مع نفسه على أنه لن يستخدم السينما مرة أخرى لتعرية أسرار العائلة. لكن غواية القصة السينمائية غلبته وهو في الـ75 من عمره، ليقدم سيرته شبه الذاتية في هذا الفيلم، تاركًا للمشاهد استنتاج مقدار الحقيقة ومقدار الخيال في هذه الحكاية الملتبسة المليئة بالضحكات والبكاء.
بدأت مسيرة سبيلبرغ الإخراجية في سبعينيات القرن الماضي، وسريعًا ما بلغ الشهرة بفيلمه “الفك المفترس” (Jaws) عام 1975، وهو ثالث أفلامه. ومنه انطلقت مسيرته التي امتدت إلى 33 فيلمًا سينمائيًا حتى الآن، تنقل خلالها بين أنواع سينمائية مفضلة لديه، مثل الرعب والخيال العلمي والفانتازيا. ولكن تلك الأنواع حصرته في عيون المشاهدين والنقاد في دور المخرج صاحب الأفلام المسلية والخفيفة، وهي الصورة النمطية التي حاول كسرها بأفلام أخرى، أهمها “قائمة تشاندلر” (Schindler’s List) الذي رُشّح لـ12 جائزة أوسكار، فاز منها بـ7، منها أفضل فيلم وأفضل مخرج.
وفي السنوات الأخيرة، كانت مسيرته تنقسم إلى نصفين: الأول الأفلام الفانتازية مثل “جاهز لاعب واحد” (Ready Player One) عام 2018، والثاني أفلام تقدم نبذات عن تاريخ الولايات المتحدة أو مقتبسة عن قصص حقيقية، مثل “ذا بوست” (The Post) عام 2017.
والعام الماضي، بدأ فصلاً جديداً من مسيرته، وهو تقديم أفلام في حب السينما فقط، كما لو أنه يشعر بدنو نهاية مسيرته السينمائية، وربما أدرك أنه الوقت المناسب لصناعة أفلام تؤصل عشقه المحموم لهذا الفن الذي أمضى فيه كل حياته.
عام 2021، عُرض لسبيلبرغ فيلم “قصة الحي الغربي” (West Side Story)، وهو إعادة إنتاج لفيلم موسيقي شهير يحمل الاسم ذاته. بدا هذا المشروع شخصيًا لسبيلبرغ الذي لم يقدم ملحمة موسيقية من قبل في مسيرته، كما لو أنه يملأ فراغًا في مسيرته أو حلمًا أمل في تقديمه منذ طفولته السينمائية.
فيلم “ذا فابلمانز” يمكن وضعه أيضًا في القائمة ذاتها، كما لو أن مسيرة سبيلبرغ لا يمكن أن تنتهي من دون فيلم ذاتي؛ إنه قصيدة في حب السينما وهجائها في آن واحد، إذ يشرح فيه كم أعطته وكيف أحبها.
فيلم “ذا فابلمانز” من بطولة ميشيل ويليامز وبول دانو، وكليهما يُتوقع ترشّحه لأوسكار أفضل ممثل في دور مساعد عن دوره هذا. وقد حاز العمل إعجاب النقاد بتقييم 95% على موقع “روتن توميتوز” ( Rotten Tomatoes).