وفاة الأديبة والمترجمة الفلسطينيّة المبدعة الدُّكتورة سلمى الخضراء الجيوسي عن عمر يناهر الخامسة والتسعين.
وقد كتبت عنها مقالاً أدبيّاً موسّعاً عن فضاءات إبداعها الخلّاق ونشرته ضمن كتابي الموسوم تجلّيات الخيال - الجزء الثاني !
صبري يوسف ستوكهولم،
سلمى الجيوسي قامة إبداعيّة طافحة بعطاءات فكريّة ونقديّة وأدبيّة، شامخة كأشجار السّنديان وهامات الجبال!
الشّاعرة والأديبة والنّاقدة والباحثة الفلسطينيّة د. سلمى الخضراء الجيوسي مبدعة موسوعيّة الآفاق والرُّؤية، تشبه شجرة عميقة الجذور في دنيا الشَّرق وممتدّة جذورها في أعماقِ خصوبة الأرض ومتفرّعة إلى أصفى بقاعِ الدُّنيا، ترفرفُ أغصانها عالياً وتصل حتّى هلالات الآفاق. لم أجد في سائر أنحاء العالم العربي مَن يماثلها في العطاء الثَّقافي والفكري والأدبي، لما قدّمته من كتابة وترجمة وإعداد عشرات المجلّدات والأنطولوجيات من الأدب العربي إلى العالم الغربي وباللُّغة الانكيزيّة، من خلال تطلّعاتها وطموحاتها الرّاقية في انجاز مشاريع خلّاقة في مجال ترجمة الأدب العربي بكلِّ أجناسه الإبداعيّة إلى اللّغة الإنكليزيّة عبر شبكة كبيرة من ورشات التّرجمة لأمهر المترجمين في بريطانيا وأميريكا، وقدَّمت كل هذه الأعمال، لأنّها ما كانت تقبل أن يكون موقع العرب مهمّشاً على السّاحة العالميّة إبداعيّاً، ولهذا تواصلتْ مع العديد من المترجمين عن طريقها الخاص، كما تواصلت مع العديد من المبدعين والمبدعات العرب وانتقت أفضل النّصوص والكتابات وأصدرت عشرات الأنطولوجيات والمجلَّدات المختارة من الأدب العربي على مساحة الوطن العربي، وتمّ ترجمة هذه المجلّدات إلى اللّغة الإنكليزيّة عبر علاقاتها وجهودها الفرديّة، واستجاب لتطلُّعاتها ومقترحاتها وتوجُّهاتها المترجمون الغربيون وأعرق دور النَّشر العالميّة، ولكن الجهات العربيّة ظلَّت متلكّئة وبطيئة وغير متفاعلة معها ولم تتعاون مع تطلُّعاتها بما فيها وزارات الثّقافة العربيّة، فقد خذلوها بطريقةٍ غير متوقّعة، ولم يستجِبوا لمشاريعها العملاقة الّتي تعجز وزارات الثّقافة العربيّة برمَّتها القيام بها، وقد تضامن معها العراق وقطر ببعض المساعدات لإصدار قسماً من موسوعاتها المترجَمة إلى الإنكليزيّة، واشتغلت وحدها دونَ كللٍ، وقامت بكلِّ مشاريعها وهي تتواصل مع مفكِّرين بارزين ومترجمين من أعرق المترجمين في العالم ونشرت هذه الإصدارات دور نشر غربيّة عملاقة، وتفاعلت معها وتضامنت مع مشاريعها باندفاع كبير، ولم تقف معها الحكومات العربيّة ولا وزارات الثّقافة العربيّة مثلما وقف معها المترجمون الغربيّون ودور النّشر الغربيّة، وكأنّها ضدَّ العرب في مشاريعها، مع أنَّ كل همّها هو تقديم الثّقافة والأدب والفكر العربي إلى أرقى مصاف العالمية عبر اللّغة الإنكليزيّة كي تبرهن للعالم أنَّ الشَّرق العربي هو الآخر صاحب حضارات وثقافات وأدب رفيع وخلّاق، وقد كانت تعمل ما يقارب 16 ساعة يوميَّاً، دون أن تقوم بأيّة نشاطات اجتماعيّة وزيارات، لأنَّ كل وقتها كان مخصَّصاً لمتابعة مشاريعها الأدبيّة والفكريّة والتَّرجمات والدِّراسات النَّقديّة، عملت بمفردها كأنّها ورشة عمل لوحدها، لا تعرف الكلل ولا الملل، وهذه المرأة الّتي ما زالت على قيد الحياة وهي قد تجاوزت الآن التّعسين من العمر، ما تزال تحمل فوق أجنحتها روح العطاء والإبداع، وستبقى حتّى آخر رمق في حياتها، متحمّسة لمشاريع إبداعيّة شرقيّة وعربيّة وكل همّها وطموحها منذ باكورة عمرها وحتّى الآن، هو أن تقدِّم صورة ناصعة للغرب والعالم من خلال الأدب العربي الخلّاق عبر التَّرجمة وقد أنجزت مشاريع تعجز عنها ورشات ترجمة ودول ووزارات ثقافة من عالمنا العربي المهلهل، وأستغرب كيف ما كانت الأديبة والباحثة والمبدعة سلمى الخضراء الجيوسي تعمل في مجال قيادة العالم العربي ثقافيَّاً، ويدهشني أن أرى في معظم الأوقات أنَّ القادرين على العطاءات الخلَّاقة من مبدعين ومبدعات في العالم العربي غالباً ما يكونوا خارج دائرة المناصب وموقع المسؤوليّة ولا في أي منصب يخوِّلهم تنفيذ أفكارهم ومشاريعهم الخلّاقة، ولم أجد على مرِّ التّاريخ العربي وزيراً للثقافة في العالم العربي على مدى قرون حقَّق ما حقَّقته هذه المرأة والَّتي تنحدر من جذور فلسطينيّة لبنانيّة، والدها فلسطيني وأمّها لبنانيّة، وفي هذا السِّياق تقول الدّكتورة سلمى الخضراء الجيوسي: "العالم ليس عدوُّنا، نحن أعداء أنفسنا"، وتقصد أنَّ العرب لا يتضامنون مع أنفسهم ومبدعيهم ومبدعاتهم، وبهذا يكونوا ضدّ أنفسهم من خلال تجاهلهم لمبدعينهم ومفكّرينهم وفنّانينهم، وتعدُّ هذه المبدعة رائدة بارزة من روّاد الثّقافة العربيّة عالميّاً، لما قدّمت من جهود جبّارة على مدى أكثر من نصف قرن من الزّمان، انتقلت من عاصمة إلى أخرى، ولم تشعر بالغربة خلال تنقّلاتها بين العواصم الغربيّة أو الشَّرقيّة، لأنّها طوال الوقت منشغلة بكتاباتها وبحوثها وترجماتها ومشاريعها الإبداعيّة المتنوّعة، وقد انتقلت بعد الزّواج إلى روما، ومدريد، وبغداد ولندن وبون، وكانت تتابع بحوثها وترجماتها وكتاباتها واستغلَّت وقتها خير استغلال، وأقف متسائلاً: لماذا لا يستغلُّ العالم العربي إبداعات كتّابه ومفكّريه وفنانينه، ودائماً هم في حالة اهمال مرير؟ هل من المعقول أن تحتاج مبدعة خلّاقة مثل الدّكتورة سلمى الخضراء الجيوسي إلى طباعة وإصدار أنطولوجيا قضت في إعدادها سنوات وهي تعمل ليل نهار، وتبخل عليها وزارة ثقافة أو حكومة أو دولة أو مملكة ما؟ هل دُول وأنظمة العالم العربي خارج حركة التّاريخ وخارج حركة سيرورة الكون وتقدُّمه؟ إنّها عملت من أجل رفع راية العالم العربي والعرب عالياً كي تقدِّمه بأرقى ما يمكن تقديمه، ومع هذا لم تجد الدَّعم والتّضامن من العرب أنفسهم، فكيف سيصل هذا العالم إلى مصاف الدُّول الرّاقية، وهو بهذا التّوجّه الفاشل في أغلب توجّهاته الفكريّة والفنِّيّة والإبداعيّة والسِّياسيّة؟ والطَّريف بالأمر أنَّنا نجد بين حين وآخر يطرح العرب نظريّة المؤامرة، وبالحقيقة أكبر متآمر ومؤامرة على العرب هي من قبل العرب أنفسهم، فهل منعَ الغربُ العربَ من تقديم المساعدة لها لتقديم الأدب العربي إلى أرقى محافل العالم الغربي، أم أنَّ العربَ كانوا وما يزالوا حجر عثرة ضدّ أي تقدُّم لهم ولمبدعيهم ومبدعاتهم؟!
اشتغلت سلمى الخضراء الجيوسي كأستاذة جامعة في عدَّةِ عواصم من الغرب والشَّرق، كانت متلِّعقة بطلّابها وطالباتها، وزرعت في أعماقهم حبّ البحث والنّقد البنّاء والإبداع الرّاقي، وفي كل مراحل إبداعها وعطائها كان هدفها الأعمق هو رفع الثّقافة والأدب والفكر العربي إلى ما يوازي الثّقافة العالميّة عبر إبداع الشَّرق والعرب بمختلف تجلِّياتهم وأجناسهم، وتمكّنت أن تقدِّم للعالم أرقى الكتب وأصبحت مراجع للعديد من المستشرقين والطُّلَّاب والطَّالبات الّذين يدرسون الأدب العربي في جامعات الغرب، وقدّمت موسوعة الشِّعر العربي الحديث وضمَّ 93 شاعراً وشاعرة، وتقول بأنّ الشّعر وحَّد العرب على الأقل إبداعيّاً، لأنّه يحمل بين أجنحته لغة كونيّة، بينما العرب والأنظمة العربيّة شتَّتوا أنفسهم ووضعوا الحدود وزرعوا الخلافات والانشقاقات فيما بينهم، لهذا ترى الجيوسي وكل مبدع حقيقي أنَّ الإبداع يجمع العرب مع بعضهم من خلال تجلِّيات المبدعين، بينما الأنظمة تفرّق العرب من خلال صراعاتهم الممجوجة وكأنّ برنامجهم ينحو نحوَ المزيد من التّخلّف والتَّراجع والصِّراعات وقد ازداد الوضع سوءاً إلى أن وصل الحال في صراعاتهم أنّهم يحاربون أنفسهم بأنفسهم ويتصارعون بطريقة هوجاء، بحيث لم يعد لأيّة لغة تستوعب صراعاتهم وحروبهم الّتي أقل ما يمكن أن أقول عنها أنّها حروب جوفاء وخلافات عقيمة، وكل هذا لأنّ برامجهم بالأساس غير قائمة على أسس العدالة والمساواة والحرِّيّة والدّيمقراطيّة، فلا أظنُّ أن يقوم للعرب قائمة ولا يمكن أن يتقدَّمَ العالم العربي خطوة واحدة إلى الأمام، ما لم يضع في الاعتبار الاهتمام بالدّرجة الأولى بالمثقّف والمبدع والمفكّر، ويضع كل ثقله على بناء دُول علمانيّة تزرع الثّقافة الرّاقية في نفوس الأجيال، وجيلاً بعد جيل سيرفع راية التّقدُّم والتَّنوير والانفتاح عالياً، وإلّا لو بقي العرب على الحال الحالي وما قبله، سينحدرون إلى أسفل السّافلين!
سلمى الجيوسي قامة إبداعيّة طافحة بعطاءات فكريّة ونقديّة وأدبيّة، شامخة كأشجار السّنديان وهامات الجبال. تسترجع الأيام الخوالي، عندما كانت تكتب في مجلّة شعر، حيثُ شكّلوا مجموعة من الكّتاب والشّعراء والمثَّفين المبدعين والمبدعات، وكانوا يلتقون كل يوم خميس في بيت يوسف الخال، يتناقشون خلال لقاءاتهم في قضايا الشِّعر والأدب والفن والثّقافة والتّرجمة والإبداع وكيفية إيصال صوتهم إلى العالم الغربي، أمسكت صورة تذكّرها بحميميات تلك الأيام وتجمعها الصُّورة مع كلٍّ من: أدونيس، فؤاد رفقة، يوسف الخال، محمّد الماغوط، شوقي أبي شقرة، سلمى الخضراء الجيوسي، بدوي الجبل، نازك الملائكة، وجورج صيدح. تنظرُ إلى الصُّورة بفرحٍ وحنين إلى تلكّ الأيام الجميلة، وتعتبر تلك اللِّقاءات نادرة وراقية، وظلّت مخلصة للشعر والأدب والإبداع ولتلك اللّقاءات حتّى الآن. وحول رحلة إبداعها تقول الجيوسي:
"رميت كل شيء آخر وراء ظهري؛ وكانت تتوالد الأفكار في مخيّلتي، فأسجِّلها في ضميري ثمَّ أسعى إليها واحدة بعد الأخرى. وحقَّقتُ أغلبها على امتداد الزّمن، ولو عانقَ العرب المسؤولون الغاية الَّتي سعيت إليها، لحقَّقتُ أضعاف ما حقَّقتُ. كنتُ أكاد لا أنام ولا ألجأ إلى التَّسلية والرَّاحة على الإطلاق. كيف يرتاح القلب إلى مشهد الخراب وتهم التّخلف واللّاإنجاز؟ كيف يأنس في الحياة وهي مهانة؟ كيف يرضى القادر على حماية، ولو شيءٍ من السّمعة والكرامة والحق، أن يتخلّف عن ذلك لحظة واحدة؟ وما معنى كل وزارات الثّقافة العربيّة إذا هي لم تتّحدَّ أوضاع الثّقافة العربيّة المتردِّية في العالم؟ ولكنّي لم أستسلم لليأس لحظة واحدة، بل صبرت وأنجزت، وأنا أقول: سيجيء يوم يرون رؤياي، ويشدُّون أزر هذا العمل بكلِّ قواهم مع آخرين يجيئون بعدي. وأظنُّ أنّ ثمّة تحرُّكاً هنا وهناك يبشِّر بالخير".
هذا ما قالته هذه المبدعة الّتي قدّمت للعالم أجمل إبداعات الشَّرق والعرب بأرقى التَّرجمات لمترجمين عالميين، وأصبحت هذه الأنطولوجيات والمجلّدات والكتب مرجعاً مهمَّاً في المكتبات العالميّة للكثير من المهتمِّين والمتخصِّصين في الأدب العربي، وكانت عميقة الرُّؤية بأفكارها ومشاريعها وآفاق تطلُّعاتها الشّاهقة، لما قدّمته من عطاءات على مدى سنوات عمرها المديد، ستبقى هذه المغامِرة السّامقة في ذاكرة كل إنسان ومبدع شرقي وغربي يقدِّر الكلمة الرَّصينة المجنّحة نحو الإبداع الرّاقي، إلى أمدٍ طويل، لِمَ لا، إنّها الرّائدة المبدعة والشّاعرة والباحثة والنّاقدة والمفكِّرة الفلسطينيّة الدّكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، الّتي تُعدُّ مِن أهمِّ مَن عانقَ حفاوةَ الحرف وانبعاثَ الكلمة الشّامخة شموخ الرّوح في أسمى سماواتِ الإبداع!
ستوكهولم: 15. 3. 2020
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم