أنسب ما جاءَ في الجزء الخامس من حواري مع الذَّات، ألف سؤال وسؤال، لنشره في هذا اليوم من العيد المبارك، أن أنشر السُّؤال 444 مع الجواب، حيث كنت أحتفل بأعياد رمضان والفطر مع الأحبة المسلمين الكرد وغير الكرد، فتعالوا نقرأ معاً ما كنتُ أمارسه منذ أكثر من أربعة عقودٍ من الزّمان!
صبري يوسف - ستوكهولم،
444. هل كنتَ تُعيِّد في عيد رمضان وعيد الفطر مع الأكراد، حيث كنتَ المسيحي الوحيد في الحارة في الفترة الأخيرة ولهذا كنتَ تقدِّمُ الفرنكات للأطفالِ الأكرادِ المسلمينَ؛ كي يفرحوا في عيدِهم؟!
ترعرعْتُ في حارةٍ سريانيّةٍ كرديّةٍ خليطةٍ، ولديَّ عشراتُ عشراتُ الأصدقاءِ والصَّديقاتِ الكردِ حتّى تاريخِهِ، وأتذكَّرُ في مرحلةِ الطّفولةِ "في كلِّ عيدٍ من أعيادِ رمضان أو عيد الأضحى المبارك، كانَ يأتي الأطفالُ الأكرادُ الصِّغارُ لمعايدتِنا حيثُ كنّا في حارةٍ كرديّةٍ، ديريكَ العتيقةِ، فمرّةً ومرَّتينِ وثلاثَ وعشرَ مرّاتٍ، كنّا نقولُ للأطفالِ: "نَهْ عيدَاْ مَيَا"! أي ليس عيدَنا، وعندما شببْتُ عَنِ الطّوقِ، وجاءَ الأطفالُ إلى عيدِنا وكنْتُ آنذاكَ مدرِّساً، وكانَ في حوشِنا الكبيرِ أُسَرةٌ كرديّةٌ مستأجرةٌ في بيتِنا، فكانَ آباءُ العائلاتِ والجيرانِ يقولونَ للأطفالِ: لا تذهبوا هناكَ؛ لأنَّهُ ليسَ عيدَهم، فردَّ عليهم أحدُ الأطفالِ: "نَه يابو عيدا وايا"، فضحكَ جارُنا قائلاً: "جاوى عيدا وايا، نَه أڤْ فلّهنْ؟" أي كيف عيدهم، إنّهم مسيحيون، فأجابَهُ الطِّفلُ: "أري فلّهنْ بسْ مامو صبري دفرنك دا من"؟ صحيح، هم مسيحيون، لكن عمو صبري أعطاني فرنكين، وعندما دقَّقَ الجارُ جاري في الأمرِ، جاءَني فشرحْتُ لهُ الأمرَ ببساطةٍ، يا جاري يأتي طفلٌ فاتحاً يديهِ الصَّغيرتَين ويقولُ لي: "عيدَه وا بيروزبِه" أي عيدكم مبارك! فلا أستطيعُ أنْ أقولَ لهُ: ليسَ عيدَنا؛ لأنَّ الطّفلَ في السَّنواتِ الخمسِ والسّتِّ، يهمُّهُ سكّراية أو راحة أو قليلٌ من الحلوى، أو فرنك فرنيكن، لا يهمُّهُ مَنْ أنا، سرياني كردي يزيدي، مسيحي مسلم، هو يبحثُ عن هدفِهِ سكّراية، وآنذاك كانَ منتشراً في الأعيادِ سكاكر لذيذة كنّا نسمّيها: "شكريهْ قلوقلو"! فقالَ جاري: هل عملْتَ عيداً معنا؟! ضحكتُ قائلاً: نعم، عملْتُ عيداً بطريقتي، فقالَ: وكيفَ هي طريقتُكَ؟ نوّرنا، فقلتُ لهُ: حلّيتُ الموقفَ المحرجَ؛ كي أحقِّقَ أهدافَ الأطفالِ؛ حيثُ طلبْتُ مِنْ أحدِ الأطفالِ أن يذهبَ إلى دكّان بشيرو ويصرفَ لي عشرينَ ليرة سورية فرنكاً وفرنكين، ووضعتُ الفرنكات في هذا الصّحنِ، يأتي الأطفالُ، فأقدِّمُ لهم صحنَ الفرنكاتِ؛ فيفرحونَ عندما يتلقَّونَ فرنكاتي، فأتذكَّرُ أنَّ الطّفلَ كانَ يأخذُ فرنكاً لكنَّ أحدَهم كانتْ حصّتُه فرنكيَن ملتصقيَن، نظرَ إليَّ مبتسماً وكأنَّهُ يقولُ لي بعينيِهِ: جاءَني فرنكٌ إضافيٌّ، فكنْتُ أقولُ لهُ: "كرمكَهْ نَصِيْبِيْ تَيَا"، تفضَّل، إنَّهُ نصيبُكَ، فكانَ يفرحُ ويرقصُ ويركضُ قائلاً: "نصيبي مِنْ دفرنكا"، نصيبي كانَ فرنكَين، وكنتُ أشعرُ بفرحٍ مِنْ خلالِ فرحِ الأطفالِ، وما كانَ يهمُّني في حينِها أنّني أعيّدُ معَ الأكرادِ المسلمينَ بقدرِ ما كانَ يهمُّني أنّني أدخلُ السُّرورَ إلى قلوبِ الأطفالِ، فأنا لم أعلنْ إسلامي ولا كرديَّتي في حينِها، بلْ كنتُ أُعلِنُ إنسانيّتي في التّعاملِ معَ الطُّفولةِ وهذا هو المهمُّ؛ لأنَّ النّزوعَ الإنسانيَّ مهمُّ ربّما أكثرَ بكثيرٍ مِنْ أيِّ نزوعٍ آخرَ؛ لأنّنا نلتقي بهذا الجانبِ أكثرَ مِنْ لقائِنا بالجوانبِ الأخرى، وفعلاً ظلِلْتُ أطبِّقُ النّظريّةَ الفرحيّةَ إلى أنْ انتقلْتُ مِنَ الحارةِ الكرديّةِ، ولكنْ بعضُ الأشقياءِ منهم عندما كبروا كانوا يأتونَ لمعايدتي في عيدِ الفصحِ، كنتُ أقدِّمُ لهم القهوةَ والسّكاكرَ فيهزُّون رؤوسهم قائلينَ: "مامو صبري: أمْ فرنكا دخازِنْ"، عمو صبري، نريدُ فرنكاتٍ، فكنْتُ أضحكُ قائلاً: يا أشقياءُ، لم تنسوا زمنَ الفرنكاتِ، عندَها كانتْ أياديُكم صغيرةً تكتفي بالفرنكاتِ، الآنَ ورقات لا تكفي لراحاتِ أيديكم الكبيرةِ، فيغمرُنا الفرحُ والضّحكُ، كانتْ قهقهاتُنا تصلُ إلى غرفةِ الوالدَينِ، يأتي والدي بكوميديّتِهِ وينثرُ نكتةً مِنْ نكاتِهِ، ثمَّ نضحكُ ثانيةً، وهكذا يقمِّطُنا الودادُ والوئامُ والفرحُ، تعايشٌ مِنَ الطِّرازِ الحميمِ، ولو طبّقَ الشَّعبُ في ديريكَ وخارجَ ديريكَ نظريّتي في التَّواصلِ معَ الطُّفولةِ ثمَّ اليفاعةِ والشّبابِ، لكُنّا بأحسنِ حالٍ، آنذاكَ والآنَ وفي كلِّ حينٍ! ..
ستوكهولم: 2017
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم